في كتابه «مسرح سعدالله ونوس: قراءة سيميولوجية» (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، يذهب الناقد المصري رضا عطية إلى أن تجربة الكاتب السوري الراحل سعدالله ونوس (1941 - 1992) «مثَّلت كتاباً حفل بتنوعات الرؤى التي تطورت مع الوقت، على رغم ما في نسيجها من خيوط ضامة، تتمثل في القضايا الكبرى التي آمن بها، كالحرية، وتصوراته لطبيعة الاستبداد وأشكاله وسبل مواجهته». ويضيف عطية في مقدمة الكتاب أن تجربة ونوس، «مرَّت بثلاث مراحل مفصلية كبرى، هي البدايات التي اتسمت بكلاسيكية القالب مع أمشاج من الذهنية والعبثية، ثم المرحلة الوسطى بعد عودته من فرنسا واطلاعه على المسرح البريختي بما فيه من تغريب، وكانت المرحلة الثالثة والأخيرة حيث الموت ومعاودة البحث في الأسئلة الوجودية الكبرى». ينقسم الكتاب (474 صفحة) إلى مقدمة ومدخل، وأربعة فصول وخاتمة، إضافة إلى قائمة المصادر والمراجع، والسيرة الذاتية للمؤلف. الفصل الأول عنوانه «مأساة بائع الدبس الفقير: استلاب المواطن في تراجيديا عابثة»، والفصل الثاني بعنوان «حفلة سمر من أجل 5 حزيران: ثورة على الذات، ثورة على الشكل الفني»، والفصل الثالث «الملك هو الملك: السلطان والحفاظ على السلطة»، والرابع «الأيام المخمورة: تقلبات الهوية وتبدد الحقيقة». في المدخل، لاحظ عطية أن مسرحيات ونوس الأولى كانت أكثر تجريداً، وأقل واقعية، أقرب إلى عوالم المثال من عالم الواقع، تحلّق في سماء التفلسف أكثر من درجها بأرض الدراما. وتعتبر مسرحية «فصد الدم» (1963) أولى مسرحيات ونوس التي تتناول قضية الصراع العربي - الإسرائيلي. وفي مسرحيته «المقهى الزجاجي»، ندد بمحاولات السلطات البطريركية فرض إملاءاتها وبسط سيادتها ومصادرة حق الأبناء في التعبير عن ذواتهم. ومع كثافة الإشارات المحيلة إلى قضايا السياسة في المسرحيات التي كتبها ونوس قبل 1967، فإن تناوله مسائل السياسة الشائكة كان من خلف ستائر الرمز، إذ ارتدى أقنعة مؤسطرة أحياناً، غير أن البنية الهيكلية في غالبية مسرحياته الأولى كانت أقرب إلى حواريات الأفكار، فلم تكن تعنى بإنضاج متنام للحدث المسرحي على نار التصعيد الدرامي. وإذا كان ونوس طرح في مرحلتيه الأولى والثانية قضية الاستبداد وبطش السلطة الحاكمة والهيمنة الذكورية، بدا أبطال مسرحياته الأخيرة وشخوص حكاياته أكثر إيجابية، مقارنة بالأعمال التي كتبها قبل عام 1989 وهو العام الذي كتب فيه مسرحية «الاغتصاب»، بعد فترة تأمل ومراجعة بدأت عام 1978. وكان للمرأة وجود كثيف في مسرح ونوس في مرحلته الثالثة والأخيرة، كما في «يوم من زماننا» و «طقوس الإشارات والتحولات»، و «الأيام المخمورة». وسعدالله ونوس الذي يعتبره البعض مؤرخ الهزائم العربية، أنهى بعثة دراسته في فرنسا عام 1968 وعاد إلى دمشق، فعُيِّن رئيساً لتحرير مجلة «أسامة» الخاصة بالأطفال من 1969 إلى 1975، ثم عمل محرراً في صحيفة «السفير» البيروتية، وعندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان عاد إلى دمشق ليعمل مديراً لمسرح القباني الذي تشرف عليه وزارة الثقافة. وأسس مع فواز الساجر (1948 - 1988) فرقة المسرح التجريبي، كما عمل مع علاء الدين كوكش وآخرين على إقامة مهرجان دمشق المسرحي الأول 1969، بحيث عُرِضت خلال هذا المهرجان مسرحيته «الفيل يا ملك الزمان». ومن 1977 إلى 1988 تولى رئاسة تحرير مجلة «الحياة المسرحية». وجاء في خاتمة كتاب رضا عطية أن تجربة ونوس تتسم بالتراكم الكمي والكيفي، فكثيراً ما يعيد تناول قضايا سبق أن تناولها، ولكن من منظور جديد، بما يؤكد رؤيته السابقة وكذلك بما يضيف إليها أبعاداً جديدة. وتضمنت الخاتمة كذلك، أن في مسرح ونوس اختلط الفن بالسياسة، فكان مسرحه سياسياً في مرحلته الأولى قبل 1967، وتسييساً في مرحلتيه الثانية والثالثة، وكان حضور التسييس عنده ينمي وعي الجمهور ويحرضه على الفعل السياسي. ومما توصلت إليه الدراسة، أن ونوس اعتمد في مسرحه على استلهام التراث في أشكاله المختلفة، كفن الحكواتي وفن الأراجوز والمقهى الشعبي، وقد لجأ كذلك إلى التاريخ ليمتح من قصصه وحكاياته مواد مسرحه. واتسم القالب البنائي لذلك المسرح بثراء الأشكال وتنوعها بين القالب الكلاسيكي والشكل الملحمي، كما غلب عليه لا سيما في مرحلته الوسطى تعدد الحكايات وتوالدها. ولاحظ عطية كذلك أن ونوس استطاع الإفادة من الفن السردي، فقسم بعض مسرحياته إلى فصول صغيرة، كما هو في السرد، ولجأ أحياناً إلى قيام الممثل بما يقوم به الراوي في السرد من قص الحكاية، أو رواية بعض تفاصيلها على الجمهور. وإذا كان الحوار هو المرتكز الأساسي للهيكل المسرحي، وعليه ينبني النوع المسرحي، ففي مسرح ونوس – بحسب المؤلف - يكون للحوار أدوار أعمق بجانب أدواره الرئيسية من تقديم الشخوص والمواقف، وجلاء التطورات الدرامية، فمساحات الحوار المتباينة الممنوحة للشخوص وأصوات النص تبيّن مواقفهم من القضايا التي يواجهونها. ولاحظ عطية أن ونوس يلجأ أحياناً إلى لغة عدمية، لغة ضد منطقية اللغة، في منحنياته العبثية في بعض مسرحياته، تعبيراً عن واقع عبثي يفتقد المنطق. كما أجاد ونوس في توظيف لغة الجسد في مسرحه وفي استثمار الأداء الصوتي والتعبير والإيماءات والحركات، ويلاحظ أن الغالب على الشخصيات أنها تمثل صوتاً، أي فاعلاً سردياً ومعادلاً كنائياً وقناعاً أيقونياً أكثر من تمثيلها وجوداً فردياً لذات معينة. أخيراً، كان حضور الأشياء الديكورية في مسرح ونوس غير مسرف وغير مغالٍ، فكل شيء إنما يدخل في الفضاء المسرحي لغاية ترمي إلى توليد دلالة، وحفل ذلك المسرح بالتساؤلات وغلبت عليه في مرحلته الأخيرة النهايات المفتوحة، كما أنه لم يخلُ من مسحة تشاؤمية.