"أعتقد أن المسرح، على الرغم من كل الثورات التكنولوجية، سيظل ذلك المكان النموذجي الذي يتأمل فيه الانسان شرطه التاريخي والوجودي معاً". بهذه الكلمات يتوجّه سعدالله ونّوس إلى مبدعي المسرح ومشاهديه في العالم أجمع، باسم "معهد المسرح الدولي" بعد أن عهدت إليه منظمة "اليونسكو" بكتابة الرسالة السنويّة في مناسبة اليوم العالمي للمسرح، الموافق 27 آذار مارس، حسب تقليد درجت عليه منذ العام 1963. وهي المرّة الأولى التي يكلّف كاتب عربي بهذه المهمّة، ما يشكّل بادرة اعتراف بمكانة هذا المبدع السوري الرائد، وبالمسرح العربي بشكل عام، على مستوى عالمي. وسعدالله ونّوس الذي يتوقّف في كلمته مليّاً عند "غنى الحوار وتعدد مستوياته"، صاحب دور رائد في دفع عجلة الحركة المسرحيّة، وتطوير أشكال الفرجة انطلاقاً من أسئلة الراهن وجراح الهويّة. فالمسرح بالنسبة إليه، "ليس تجلياً من تجليات المجتمع المدني فحسب، بل هو شرط من شروط قيام هذا المجتمع، وضرورة من ضرورات نموه وازدهاره"، كما نقرأ في رسالته التي ننشر أغلبها ضمن هذا الملفّ. وفي الوقت التي تتهيّأ عواصم عدّة من تونس إلى دمشق، ومن القاهرة إلى بيروت للاحتفاء بهذا الرجل، تشترك "الوسط" على طريقتها في الاحتفال، جامعةً حول صاحب "حفلة سمر..." عدداً من أصدقائه وزملائه، كتّاباً ونقّاداً ومخرجين ومبدعين ممن عايشوه وعملوا على نصوصه وشاركوه مشاغله ومشاريعه... ليدلوا بشهاداتهم، ويقفوا معه باعتزاز في معركته المتواصلة ضدّ المرض، وضدّ الانحطاط، ومن أجل "حماية الثقافة" واحياء النهضة التي نحتاجها اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. ف "ما أشد وحشة هذا العالم"، لكنّنا "محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ". أدونيس: فضاء لكتابة تاريخ آخر تنهض رؤية سعد الله ونوس، في مسرحه، على قراءة المجتمع العربي في بُناه العميقة وفي سيرورته وصيْرورته. انها قراءة افقية وعمودية، تتلاقى فيها أبعاد الزمن - ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهي، تبعاً لذلك، قراءة تتجاوز النقد الى نوع من الاحاطة تتضمن نوعاً من اعادة التكوين - لا في ما يتعلق بالمجتمع وحده، بل في ما يتصل ايضاً بالفرد ووعيه. وهو، في هذا كله، كمثل المبدعين الكبار، يقارب الحياة والاشياء بطريقة جديدة، وجمالية جديدة. وهو، كمثلهم ايضاً، يفتح في نتاجه فضاء آخر لكتابة تاريخ آخر. غادة السمان : لأن الموجة تشي ببحرها لأن الموجة تشي ببحرها، والشجرة تدل على غابتها وتحمل خصائصها، سأنطلق في حديثي عن مجرة سعدالله ونوس، من كتابه "طقوس الاشارات والتحولات" - دار الآداب - 1994 الذي أنجزتُ قراءته قبل دقائق. "لا شك ان العالم اختل والحقيقة ضاعت". "كيف تنقلب الحقيقة خديعة، والخديعة حقيقة؟". "لا احتاج الا الى الحقيقة وأطلب من المفتي ان يساعدني على كشفها". هذه الصيحات والهمسات التي يطلقها أبطال مسرحية "طقوس.." تنم عن حكاية الحب بين سعدالله ونوس والحقيقة كما هي حال الفنانين الكبار الملتاعين بها. يكتب ونوس: "أيكفي ان يُجمع الناس على أمر كي يغدو حقاً وصواباً؟ ألا يمكن أن ينخدع الناس؟... أيجوز أن تُخفى الحقيقة وتُبدى حسب ما يشاء الهوى أو حسب ما تشاء المصلحة؟ أقول لك: الحقيقة تظل هي الحقيقة". انها "حفلة سمر" أخرى من حفلات كاتب يعرف انك "إن كتمت واخفيت عشت وتكرمت. وان صدقت وكشفت نبذوك واخرجوك منهم" وأنت مطالب دائماً بتفصيل الحقائق على مقاس المصالح حتى ولو خرجت ب "قصة تحير العقل" على رأي الوالي في مسرحيته تلك حيث يتناول سعدالله ونوس طُرفة شعبية فيحيك حولها لؤلؤة ويحولها الى أسطورة مريرة هاذية بكثير من الطرافة المحزنة والمرح الباكي. وتظل قوة فن ونوس كامنة في قدرته على خلق شخصيات حية تلغي الستارة والحدود بين المتخيل والحقيقي، ويمضي أبطال مسرحيته الى بيوتهم كبقية الناس، ويظلون أحياء حتى بعد انتهاء تقمص الممثلين لهم خلال فترة العرض ويتابعون حياتهم كالمتفرجين الآخرين. ففي مسرحه الكل بطل ومتفرج وحقيقي ووهمي كما أبطاله الذين ليسوا "نماذج" بل بشراً استطاع بث الحياة فيهم. وإذا كان المسرح هو مشاهدة اللامرئي والموجود أمام وجوهنا في آن، فإن ونوس أحد كهنته وعرافيه الذين يرسمون لعبة المصائر والأقدار لبشر يحاولون لحظة حرية رغم شبكاتهم العنكبوتية التي ولدوا داخل نسيجها التاريخي. و"ما أغرب هذه الدنيا. وكم هو هش مصير الانسان فيها" كما يقول، و"الحقيقة هي ما وافق أهواء السادة وما انقادت اليه العامة انقياد الأعمى" حيث الكل يتحدث عن الحرية ويعني بها حريته في قمع خصومه! يسجل لسعدالله ونوس حنانه على المرأة ورسمه لها ككائن حي له روح وهو أمر ليس شائعاً في "الأدب الذكوري". حرف سعدالله ونوس شجاع وجميل ومبدع... وبدون "ولكن...". محمد إدريس: اعتراف عالمي للمرة الاولى يتم اختيار مؤلف مسرحي عربي كي يكتب رسالة "معهد المسرح الدولي" IIT التي توجه كل عام الى اهل المسرح وجمهوره في العالم أجمع. انها بادرة اعتراف عالمية بموهبة كاتب ترك بصماته الراسخة على مسيرة المسرح العربي، ولعب دوراً اكيداً في تطوره. ولا مفر من ان نرى في ذلك الحدث ايضاً، شكلاً من اشكال الاعتراف بالتطور الذي أحرزه هذا المسرح، وهو يندرج اليوم في سياق دينامية عالمية، بفضل جهود مبدعيه في المغرب والمشرق على السواء. وسعدالله ونوس، هذا الوجه المرجعي بين وجوه المسرح العربي المعاصر، هو خير وريث لأبي خليل قباني، مواطنه وأحد رواد فن الفرجة في الشرق العربي. ونصوصه التي قدمت بنجاح على المسرح في أغلب العواصم العربية، تعكس همومه الوطنية والديموقراطية... مثل بريخت يعالج ونوس التاريخ، لا كغاية بحد ذاتها، بل كمادة مجازية تسمح له بمعالجة قضايا الحاضر، بعمق وقوة. لكن ونوس، على الرغم من هذا الاختيار الجمالي الذي التزمه منذ تجاربه الاولى، بقي منفتحاً على التجارب المختلفة التي خاضها مسرحيون آخرون، في تونس على وجه الخصوص. فهنا يفضل اهل المسرح "الواقعية اليومية"، الفجة والعنيفة غالباً، على "الواقعية الرمزية" التي انتمى اليها، والتي لا تفتقر ابداً الى الشعرية والعمق الفلسفي. ومدير "مسرح القباني" الدمشقي رجل حوار، عرف كيف يستغل بشكل ايجابي تلك الخناقات الايديولوجية والجمالية التي طالما قسمت مبدعي المسرح العربي. فأعماله نفسها عرفت تطوراً مثيراً على امتداد السنين، فارتمت على دروب جديدة، واختبرت اشكالاً وقوالب غير مطروقة، لكنها بقيت تحفر من دون كلل في الاتجاه نفسه: اتجاه يختصر وضع المسرح في مواجهته لواقع لا يبعث على الرضى، في عالم عربي يبحث عن نقاط ارتكاز ثقافية وتاريخية جديدة. باسم أسرة المسرح التونسي، يتمنى اعضاء "المسرح الوطني" لسعدالله ونوس كثيراً من الشجاعة في صراعه ضد المرض الذي ينخره. نتمنى له حياة مديدة، زاخرة بالنشاط والابتكار والابداع. إميل حبيبي: سبقنا الى مواجهة الذات منذ عام النكبة الثانية، 1967، استقبلنا مسرحيات ونوس بفرحة أشبه بفرحة السائرين في ديماس مُظلم حين يسطع في وجوههم بصيص من نور. تتميز أعمال سعدالله ونوس المسرحية بالشجاعة الفائقة نصاً وروحاً، مبنى ومعنى: لقد أدهشنا بمغامراته الفنية في عالم المسرح، وبأنه سبقنا في مواجهة الذات من دون اية محاولة لتعليق اوزار مجتمعاتنا على اية "شمّاعة" اجنبية. من مسرحيته الاولى "حفلة سمر من اجل 5 حزيران" الى واحدة من أحدث مسرحياته، "أحلام شقية"، وجدته اشجع منا، اشجع مني على الاقل، في تعرية سوءات مجتمعنا السياسية والاجتماعية. في "حفلة سمر" هتف: "ليس وجودنا هو السؤال الجوهري، وانما نوعية هذا الوجود". وقال: "نحدق في المرآة ونسأل سطحها الثقيل بإلحاح: من نحن؟... لا تتعبوا عيونكم فلن تلتقوا ما يُبصر... لا شيء على الاطلاق. ولكن اتعرفون لماذا؟ صور محتها المصلحة الوطنية قبل ان تتشكل... وأقول لكم كيف تم ذلك... سنة بعد سنة تم ذلك، هكذا تم: لا تتكلم! اللسان يغوي. الكلمة فخ. من اجل المصلحة الوطنية قطعوا ألسنتكم قطع اللسان اسلم عاقبة. وقطعنا ألسنتنا. لماذا قطعنا ألسنتنا؟ لا تنس ان للمصلحة الوطنية سجوناً لا تنفذ اليها الشمس ولو مرة واحدة في العام... اذاً نحن ملايين من الألسنة المقطوعة تتراكم خلف ابواب مغلقة، في أفواه مغلقة، في مراحيض مغلقة"! وفي "أحلام شقية" وجدنا أصدق شجاعة في تعرية مصيبة المصائب في مجتمعاتنا العربية - اضطهاد المرأة العربية، الأم والزوجة والاخت والبنت. فحتى الحلم بالمساواة محظور عليها. تهتف غادة حسرة: "لا مجال للحلم. لا مجال للتمني. لا شيء الا الموت. لا شيء الا الظلام والموت. أين الشعر في هذه الدنيا؟! أين غابة النخيل والشرفة التي ينأى عنها القمر؟ لا الحلم ممكن. ولا التمني ممكن. لا شيء إلا الظلم والموت!". قبل حوالي عشرين عاماً، حين كنت مقيماً في العاصمة التشيكية براغ، تلقيت من أديب شاب رسالة قصيرة ومذهلة، حدثني فيها عن مجتمعه العربي: "كيف يقتلنا الاجنبي ثم يعود مجتمعنا الى قتل القتيل مرة ثانية؟". هذه الفكرة المذهلة قادتني الى العديد من رواياتي عن مأساة شعبي العربي الفلسطيني. وعلق في ذهني طوال الوقت، ان هذا الأديب العربي الشاب هو سعدالله ونوس. ربما أكون مخطئاً. ولكن، حتى ولو لم يكن هو الذي لفت نظري الى هذه الفكرة المذهلة فإن العديد من مسرحياته ينم عن هذه المأساة - هذا الديماس العصري الذي فُرض علينا السير في غياهبه حتى فتح ونوس امامنا كوة جاءنا منها بصيص نور. إن اختياره من قبل منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" لكتابة رسالة المسرح هذا العام، يطمئننا على قدرة ثقافتنا العريقة ان تخترق حجب الظلام التي اقيمت ما بينها وبين أوقيانوس الثقافة العالمية. وسيظل سعدالله ونوس، في عيون جيلي، أديباً عربياً شاباً يطمئننا على ان حياتنا لم تذهب عبثاً. محمد دكروب: تجليات جديدة منذ مسرحيته "منمنمات تاريخية" 1994، والمسرحيات التي توالى صدورها خلال السنتين الاخيرتين: "طقوس الاشارات والتحولات" 1994، "يوم من زماننا" و "أحلام شقية" 1995، "ملحمة السراب" 1996، وسعد الله ونوس يرسم، في كتابته، معالم مرحلة جديدة... ولا يقتصر جديده هذا على جانب واحد، بل يشمل جوانب وعناصر تكوينية عدة في بنية العمل الفني: الشخصيات، نوعياتها وطبائعها ونوازعها... التركيب المشهدي وحركة البنية الدرامية وايقاعها... الرؤية الحياتية، والموقف الفكري الذي يتجلى في اعماله الجديدة على غير ما عرفناه في مسرحياته السابقة. فالشخصيات الاساسية في هذه المسرحيات الجديدة، الى كونها تعبر عن حالات ومواقف وفئات اجتماعية، دخلت - هنا - في فرديتها وفرادتها، أهوائها ونزواتها، وتناقضاتها الداخلية... وهذا يعود الى تكوينها الذاتي وخصوصيتها، اكثر مما يعود الى كونها حالات اجتماعية. بل ان الشخصيات الاساسية في مسرحياته الجديدة، صارت تملك من الحياة والعصب والفرادة والغنى ما أدخلها - بجدارة وتميز - عالم النماذج البشرية في روائع الأدب العالمي: شخصية "ابن خلدون" في "المنمنمات" لم تعد مجرد شخصية العالم المفكر، بل الشخصية المعقدة التي تحتضن التناقضات، وتجمع في اهابها الفكر العقلاني الشمولي الخلاق، الى النوازع البشرية الصغيرة والانحدار الى حدود الخيانة والتزلف الذليل للحاكم... وكذلك شخصية رجل الدين المكافح الشجاع المدافع عن دمشق ضد غزاتها، وهو في الوقت نفسه السلفي المعادي لحرية الاجتهاد وحق العقل في التفكير والاجتهاد... ثم شخصية "ألماسة" وتحولاتها المثيرة، ذات الفرادة المتميزة في أدبنا العربي الحديث كله لا المسرحي فقط... وشخصية "المفتي" وغليانه الداخلي بين مظاهر الفضيلة ونار العشق... او شخصية "عزت بك" قائد الدرك الذي تدفعه المؤامرة الى الجنون والتساؤل الحارق عن الحقيقة... وعبد الله نقيب الاشراف الذي يدخل في الانجذاب الصوفي والتشرد والضياع التام... إن البنيان الدرامي لهذه المسرحيات اغتنى، ولصالح الدراما بالدرجة الاولى، والمشهدية الشاسعة المدى. اغتنى من فن السرد الروائي، ومن الحركية المتواترة والمشهدية المتسارعة المتخالفة في السينما الاكثر حداثة. وكل ذلك يقدم للإخراج وللتمثيل امكانات خصبة ومتعددة للابتكار والتجديد، سواء من حيث التكوينات البصرية واستخدام العديد من التقنيات الحديثة، ام من حيث تركيز الضوء على الممثل في تحولاته الداخلية - وهو يخلق نموذجاً بشرياً فريداً ومعقد التركيب والنوازع والاهواء - الى عنف في الصراع ليس فقط بين الشخصيات والافكار والمصالح والمواقف، بل خصوصاً في داخل هذه الشخصيات نفسها التي تغلي اعماقها كما الجحيم. ونوس يأخذنا الى القاع - عبر الفن والفكر والوعي التاريخي - حيث نلمس ونرى، في داخلنا، التدامج القاسي بين عناصر اليأس والتشاؤم والتخلف وبصيص النور الخافت الذي لا توقده الا الحركة الصعبة للفعل البشري الاكثر وعياً... ولعل من الممتع للناقد ايضاً، ان يبحث في تحولات ونوس هذه، عبر مفرداته المسرحية الجديدة، ويقارنها بمفردات وثوابت ومتغيرات مرحلته المسرحية الاولى. لعله سيرى عندها كيف ان ذات الكاتب تحررت من مفردات وثوابت كثيرة كانت جديدة في حينها. وقد يرى ايضاً كيف ان تحرره هذا حرر الكتابة، وحرر البناء المسرحي وأخذه الى أفق مختلف اكثر تنوعاً وسحراً وجرأة وغنى. الطيب الصديقي: موهبة فريدة لا شك في ان سعدالله ونوس هو اول رجل مسرح في سوريا، وهو أول من اخترع مفهوم "التسييس" في المسرح العربي. كما ان مسرحيته "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" هي من انجح المسرحيات السياسية، بل هي من الاعمال القليلة التي استأثرت باهتمام اجيال من المخرجين المسرحيين العرب. التقيت سعد الله ونوس لاول مرة سنة 1972 حسب ما أتذكر. يومها جاء الى الرباط يدعوني للمشاركة في مهرجان دمشق المسرحي، حيث عرضت هناك مسرحية "مقامات بديع الزمان الهمذاني". كان هو يعرفني وكنت اعرفه مؤلفاً مسرحياً مبدعاً، ومنذ ذلك اللقاء تعمقت عرى صداقة لا زالت قائمة بيننا. من الصعب عليّ الفصل بين سعد الله ونوس الانسان والكاتب. انه في حياته مثلما في ابداعه مفرط الحساسية وموهوب في رؤية الاشياء التي تكمن خلف الاشياء. ومن المؤكد ان التكريم الذي حظي به من منظمة اليونسكو، ليقوم بالنيابة عن جميع مسرحيي العالم بتقديم الكلمة في يوم المسرح العالمي، هو اعتراف بهذه الموهبة الفريدة. خالدة سعيد: تعدد الأنا وتكسراتها تتلاقى في اعمال سعد الله ونوس صنعة الحرفي وإلهام الراعي، ذخيرة الحكواتي، بصيرة المحلل وشعرية ابتداع الاساطير والرموز. كأنه يبني مشهدية الخشبة مستهدفاً ما بعدها وما وراءها. نجده في سياق اعماله يرسخ تصوره لعملية المسرحة اساساً من حيث هي معرفة وكشف وتخيل وابداع، ويرسم ملامح فلسفته المسرحية. فالمسرح كما يبدو من خلال اعمال ونوس مضيق امتحان ومنزلق كشف ومهواة فضيحة. بل هو اكثر من هذا. انه في هذه الاعمال الغرفة المركزية الاخيرة، البؤرة التي تقف على الحد بين النشوة والصعق، حيث متعة الحكاية تخترقها مدية الكشف. انه الدائرة التي تتوسط دوائر التجمع والاجتماع، واللحظة التي تتوسط بين الازمنة كجسر عبور، والمكان المزمن - المؤنسن حيث تتقاطع خيوط الرؤية، تتواجه المتناقضات، تتكشف الخفايا وترتسم قوس المصائر والاحتمالات. والمعرفة المسرحية في اعمال هذا الكاتب، لا تتوالد من الحكاية وحدها، مهما حفلت بالعبر، ولا من نسق انتظام الوقائع وتقابل الازمنة والأمكنة كما في "مغامرة رأس المملوك جاب" فحسب. بل انها تتوالد ايضاً من تعدد الأنا وتكسراتها ومبادلاتها وانعكاساتها المتقابلة في المرايا الجماعية. انها تتوالد في لعبة الاستبدالات التي تتكرر في مسرحياته، وتقترن بالتحول والكشف كما في "الملك هو الملك"، "طقوس الاشارات والتحولات". و "ملحمة السراب"، فضلاً عن "مغامرة رأس المملوك جابر" و "مأساة بائع الدبس الفقير". وتصور سعدالله ونوس للمسرح لا ينفصل عن تصوره للتجمع الانساني وقدراته الخلاقة. فالمسرح - عنده - من التجمع والاجتماع، بمثابة البصيرة والضمير والخيال من الفرد والوعي الفردي، بكل ما يتضمنه ذلك من قدرات ابداعية وتحويلية. وتتعدد عنده المسرحيات المبنية على اللعب، اذ تبدو اللعبة اختباراً لنظام الاجتماع وعلاقات الاجتماع وأساطيره ومقاتله، تبدو نوعاً من مراوغة المصير، كما في "الملك هو الملك" مثلاً. ففي اطار السيرك، وعلى خلفيات ألف ليلة وليلة، تنهض اللعبة المسرحية ليفضي عبث التبادلات الى المآل الفاجع، فيما يخترق المشهد الاحتفالي ضوء التحليل التاريخي. وجابر الألمعي - كناية المثقف ورمزه - يبتكر لعبته الفذة المفاجئة، يعير رأسه للوالي المحاصر، فيكتب الوالي الرسالة على رأسه. يحمل جابر الكاتب رأسه المكتوب بحبر السلطة ويجهل انه يحمل حكماً باعدامه. سعدالله ونوس مهندس منظومات ورؤى، رسام مسارات عبور وتحول، صائغ كنايات وأمثولات، مبتدع شخصيات وكشاف بواطن، ونحات رموز. رفيق الصبيان: معنى الدهشة فارس نبيل يملأه العنفوان والكبرياء، في زمن شحّت فيه الفرسان. يكابر على القهر الذي يطوي عليه ضلوعه، على الصراخ النبيل في وجه سلطة تسحق طموح الانسان وحقه في ان يحيا... بينما امتلأت دنيانا بفرسان من ورق يمتطون جياداً خشبية بلا روح، ويلوّحون بأقلام مكسورة في حقول محترقة مليئة ببقايا الجثث المتعفنة التي تحوم حولها عقبان شرهة، اعتادت ان تتغذى بالجراح الصديدية وأن تلعق الدماء المتخثرة على وجوه فقدت ابتسامها. منذ ان انفجرت مسرحيته الاولى "حفلة سمر..."، وصوت سعدالله ونوس ناقوس يقرع في ظلام ليلنا الخالي من النجوم، يذكرنا بانسانية فقدت معانيها لأنها اهدرت الانسان مبرر وجودها. وتوالت صرخاته المسرحية، صرخة إثر صرخة، تصل الى عنان السماء وتمس السحاب وتجعله يقطر غيثاً من نار ونور. ضمير وقلب وعين سعد الله ونوس، ابحر دائماً في اتجاه الانسان وتناقضاته، أحلامه واحباطاته، فشله النبيل وآماله المحبوسة في قمقم. وقلمه ازداد شفافية وسحراً، تحت وطأة الألم، بحيث اصبحت شخوص مسرحيته الاخيرة "الإشارات والتحولات" أثيرية مطلقة، تكاد تكون قبساً من نور، تحيط بها الظلمات، فتعكس ظلالها المدهشة على جدران ذاكرتنا ومشاعرنا وقلوبنا. سلاح ونوس هو كلمته، وكبرياؤه وقلقه الانساني. ومشعل التمرد هو رهانه الحقيقي الذي يجعله فريداً مدهشاً في عالم نسي تماماً معنى الدهشة. عباس بيضون: الكتابة على عتبات الخطر كانت صحبة أشهر حين استلم سعدالله مسؤولية القسم الثقافي في "السفير" البيروتية التي كنت اعمل فيها، قبل ان يغادرها في العام نفسه عام الاحتلال الاسرائيلي للبنان. لقيته بعدها مرات معدودة، ثم لا خبر بعد ذلك ولا لقاء. العلاقة بيننا قد لا تجد بسهولة اسماً. اما انا فلم اشك يوماً في كونها صداقة. لم يكن الوقت كافياً ربما، لكن بوسع اثنين مهزومين ووحيدين تقريباً على الرغم من الصلات الكثيرة ان يتوافر واحدهما للآخر ساعات طويلة، للحديث حول طاولات المطاعم وفي الاستديو الذي سكنه سعدالله. لم نكن قريبين كثيراً في المشارب والآراء. الحرب اللبنانية جعلتني بعيداً عن الخطاب القومي اليساري، وليس سعدالله الذي عانى تأزم هذا الخطاب بعيداً عنه. كانت بيننا الحرب التي جعلتنا ننكفئ الى خصوصية، ارجح انه وجدها مغالية. لكن الآراء والمشارب ليست كل شيء، لمهزومين يشتركان في الأرق والمهدئات والقلق. كان القلم يومذاك غدا ثقيلاً على اصابع ونوس، وأحسب ان هزيمته كانت هنا. ليست المرة الاولى التي يطرد فيها المرض القلق، ويجعل الخطر المرء غير قادر على مواصلة الهرب، ويضعه فوراً امام نفسه وأمام حقائقه. لكن سعدالله مع ذلك مثل نادر. فالمرض الذي استبد به لم يرجعه الى عمل حياته فحسب، ولكنه أبرز افضل ما فيه: شجاعته ونزاهته والتزامه. كتب ونوس، على عتبات الخطر، افضل اعماله وأعمقها، وأغناها اخلاقياً وفنياً. لكن النادر ايضاً ان المرض لم يمتلكه، هو الذي كتب ولا يزال عن مرحلة وشعب. كأنه رأى مرضه، ورأى الخطر، مشبوكين الى الصميم في تاريخ ومرحلة، كلما توغل فيهما سمعنا اكثر صيحة نفسه. فيصل درّاج: بحثاً عن "المتفرج المحتمل" شهوة حارقة تود اصلاح العالم، وحزن عميق على عالم يرفض الاصلاح ويستمر كما كان. عنوانان كبيران يلازمان مسرح سعدالله ونوس. في مسرحيته "مأساة بائع الدبس الفقير" ينتهي الفقير الذي عبثت به الايام الى "لطخ سائل مصفر يبقع الاسفلت"، وفي مسرحيته الاخيرة "يوم من زماننا" يُنهي الانسان المخذول حياته صارخاً: "ما أشد وحشة هذا العالم". وبين المسرحيتين ربع قرن من الزمان وما يزيد، كأن العالم عصي على التغيير، وكأن ونوس لا يغير من افكاره النبيلة شيئاً. يدعو ونوس الى مسرح سياسي، ويفتش عن السياسة في مواطنها الحقيقية. انها تتجلى في صمت المواطن الرهيب وفي تماسك المجتمع، او في تداعي البشر وأسباب الهزائم المتواترة. والسياسة، كما يفهمها المبدع السوري، تقوم على مستويين: العلاقة بين "المتفرج" والسلطة المسيطرة التي تحدد طبائعه، فهذا الانسان الذي يُقبل على المسرح الجاد او يهرب منه، مرآة لأشكال التربية الفنية والاخلاقية والثقافية التي تلقاها في حياته اليومية. والبحث عن "المتفرج الآخر" الذي يتبنى رسالة العرض المسرحي، ويترجمها الى وقائع علمية. عبّر ونوس في سن مبكرة، عن تصوره للعمل المسرحي في ارتباطه العضوي بالهم السياسي. كان ذلك في مسرحية "حفلة سمر من اجل 5 حزيران" 1968. والرجوع الى أعمال ونوس يعطي صورة عن شغف بالتاريخ لا شفاء منه. فشيء من هذا التاريخ موجود في أعمال الشباب، كما هو الحال في مسرحية "الفيل يا ملك الزمان" 1969 حيث رخاوة الشعب تزيد من يباس السلطة، و "رأس المملوك جابر" 1970 التي تدلل على "تسييس السلطة وهشاشة الوعي الشعبي" الذي يفضي بحامله الى الهلاك. غير ان مسرحية "الملك هو الملك"، التي كُتبت سنة 1977، تشكل تحولاً نوعياً في تعامل ونوس مع المواد التاريخية. ففي المسرحيتين السابقتين، اكتفى سعدالله باعادة بناء الحكاية من وجهة نظر الوظيفة المسرحية القائمة على الاقلاق والتحريض. اما في المسرحية الاخيرة فإن ونوس يكثّف التاريخ ويثبته في لحظة معينة، كي يقرأ فيه الصفات النموذجية للسلطة التقليدية في الازمنة كلها. فهو لا ينطلق من الحاضر ولا يعود الى الماضي، بقدر ما يحاول النفاذ الى زمن السلطة في شكلها النموذجي، هذا الزمن الذي تشتق منه ازمنة السلطات المحتملة كلها. كأن سعدالله يعيد كتابة "القضية الكبيرة" بأشكال مختلفة، مؤكداً ان زمن المسرحية الخارجي لا اهمية له. فمسرحية "مغامرة رأس المملوك جابر" المستوحاة من "حكاية قديمة" هي كتابة اخرى، بمعنى ما، لمسرحية "بائع الدبس الفقير" التي تنتمي الى الحاضر. انهما ترصدان نهاية الانسان المستلب، فبائع الدبس تدوسه الاقدام اللاهية والمملوك جابر يعطي رأسه الى السيّاف الهائج. وربما تشكل مسرحية "رحلة حنظلة" 1978 المأخوذة عن نص لبيتر فايس كتابة اخرى للمسرحيتين السابقتين، حيث النهاية تختلف باختلاف وعي الانسان الذي عاش الغفلة طويلاً قبل ان يرتقي الى مرحلة اليقظة. ولا يختلف الامر كثيراً في مسرحية "الاغتصاب" 1990، التي استفاد المؤلف فيها من عمل الكاتب الاسباني بويرو باييخو "القصة المزدوجة للدكتور بالمي". يختار ونوس لمسرحيته الاخيرة، "ملحمة السراب"، نهاية فاجعة. اذ يرحل صاحب البصيرة تاركاً خلفه مجموعة بشرية تنحدر الى الهاوية من دون ان تدري، او تمشي نحو الكارثة بقرار مكتمل. والمبدع السوري عادل في تشاؤمه، فأحلام الشباب انطفأت مسرعة، مخلفة الرماد وتعب الروح. فلا المبدع عثر على متفرجه الذي يترجم الفكرة، ولا الفكرة التقت بالمجموع الفني الذي تبحث عنه، ولا البحث الفردي والجماعي التقيا بالدروب الصحيحة. كأن على الكاتب الذي استنهض النيام يوماً ان يطوي احلامه، وان ينتقل من تعاليم اليقظة الى أقاليم الرثاء. وعلى الرغم من التعب المتكاثر فإن سعدالله ونوس يكتب بلا انقطاع، ويردد دائماً: "في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة". فالكتابة والحياة يستمران حتى خفقة الروح الاخيرة. ألفريد فرج: اقرب الفنانين إليّ يُعتبر سعد الله ونوس واحداً من أبرز المسرحيين الذين نجحوا في وصل المسرح بالأدب، وممن اهتموا بارتباط المسرح بالتاريخ والتراث العربي. ومع ان مسرحياته قليلة العدد فهي عالية القيمة، وتتميز بتقنياتها المبدعة ونظرتها السياسية العميقة. والكاتب السوري ينتمي الى فريق مؤلفي المسرح الذين أثّروا على مسيرة هذا الفن في العالم العربي، وكان لي شرف الاعلان عن هوية هذا الفريق ورفع رايته حين كتبت مسرحية "حلاق بغداد" 1964، وربما قبلها مع مسرحية "سقوط فرعون" 1957. ثم انضم الينا وعزز تيارنا قاسم محمد العراق، وعز الدين المدني تونس والطيب الصديقي المغرب وممدوح عدوان سوريا فضلاً عن الكاتب المبدع سعدالله ونوس. وكان لهذا الفريق فضل ادخال المسرح كله في سياق الأدب العربي والفكر العربي والتقنيات العربية للفنون والآداب، وفتح باب التراث الساحر لاستلهامه، والبحث عن جوهر الشخصية العربية بأدوات الادب المسرحي. كما طرح هذا الفريق الاسئلة عن هوية المسرح العربي، وعن العنصر القومي في المسرح الحديث، وعن الاساليب المستحدثة في المسرح لمخاطبة وجدان الجمهور العريض. وكان ونوس في طليعة هؤلاء باسهاماته الرائعة، إذ اضاف بلا شك الى المسرح روح الرفض في اطار التاريخ، ونبرة التمرد المطعمة بنزاهة المفكر وابداع الفنان، وبحس وطني مرهف يكشف الحقيقة في ضباب الواقع. زاملته ثلاثين عاماً على البعد، وكنت أشعر دائماً انه اقرب الفنانين اليّ، وانه حاضر دائماً في مشاغلي الفكرية والفنية، قلمه يشع في الدنيا حولي... حولنا جميعاً، ذلك الثابت على ناصية قضيته، والدائم التجدد والابتكار. شريف الخزندار: المفصل الحاسم طيف سعدالله ونوس خيم على الخشبة العربية خلال العقود الثلاثة الاخيرة. كل عمل جديد من اعمال هذا الكاتب المقل، كان يثير النقاش وردود الفعل الكثيرة. وكل عمل من اعماله، حتى لو لم يقدم على المسرح إلا لماماً، تحول الى اسطورة. بعد سنوات، مع المسافة التي يوفرها الزمن، لا بد من تحليل ظاهرة ونوس. ولا بد ان نأخذ بعين الاعتبار الرجل بكليته، في التزاماته ونصوصه، كي نفهم الدور الحاسم الذي لعبه في تاريخ المسرح العربي الجديد. "عبقرية" ونوس في اعتقادي، تكمن في هذا التكامل بين فكره وابداعه المتصل بحياته، وفي نزاهته ووفائه لهذا وذاك عبر مواصلة البحث، والاخلاص لرسالته. سيأتي يوم، يصبح بوسعنا ان نخرج من سياق الكتابة الذي يلفح بلهيبه، لنقيس الأبعاد الحقيقية لهذا الكاتب، فنفيه حق قدره ونضعه عند المفصل الحاسم لتاريخ المسرح العربي. جواد الأسدي: أكثرنا قدرة على مقاومة الخراب في مناخ من التصدع والتفكك في بنية المسرح العربي يضعك سعدالله ونوس على حافة الأمل، يفتح لك باباً طهرانياً أو ممراً لنور قوي وساطع لمفهوم رجل المسرح. وفي وقت يتضاءل فيه الرسوليون وينتحر المحدثون ويهاجر العقلانيون يظل سعدالله ونوس متمرتساً في مكانه، غارفاً من ينبوع بيئته كأحد أهم المحاربين الدونكيشوتيون ممن يحتكمون للمسرح في تحريك طواحين الدم والدمع والوجع والمرار اليومي. والمسرح عند سعد الله ومعه أو من خلاله هو مسرح يشبه الى حد بعيد اعادة خلق ما ضاع، أو لملمة المكسور، أو المسفوك على الأرصفة من عرق ودماء أو لوعة، لا يرى سعد الله العالم من زاوية احادية، ولا يسقط في مجانية انشادية أو يعكز على ثيمات ملفقة، لا يستعير، يجانب التكرار، لا يقع في فخ المحكي أو المعمول عليه، أول المستورد من هناك، انه يحرث في الهنا بامتياز، يغرف من قلب الذاكرة الشرقية، الشفهية منها والتحريرية، يلوكها ثم يهضمها ليعيدها الينا بوصفها المتخيل المنشود طقوس الاشارات والتحول مثلاً أو المحتمل ذلك الذي يؤدي الى مسارات متشابكة. يضعنا سعدالله ونصوصه في مناخات الحريق، والتهدم الروحي لمجتمعات أكلها أو يأكلها الانتهاك والتآكل والاضمحلال، تأويلات النصوص عند سعدالله غير مسدودة أبداً، متفتحة على البركاني، الجحيمي وذلك اليوجب المتجوهر أو المتمعدن، أو اليومي المطحون طحناً حتى آخر رمق حفلة سمر من أجل خمسة حزيران. يعمد سعدالله على اثارة الغبار المستتر تحت قيعان الشخصيات، يضرب بمعوله على غربة الأمكنة وغربة الشخصيات، كأنما نصوص سعدالله ونوس هي نصوص تحرق مريديها وأمكنتها، حروفها حطب ليوم التنوير المستحيل منمنمات تأريخية. شخصياته تضرب في جذر الذاكرة الشرقية، تخربها، تفكك كينونتها ومعمارها الفكري والروحي ثم تكتبها من جديد، لتبدو ملتاعة، معذبة، مكهربة، تعيش على حافة الانهيار. في الاغتصاب تندفع الشخصيات اليهودية الى أعلى حالاتها العدوانية، في مناخ من التقابل والضرب الموجع على خواص الفكر اليهودي المتزمت الذي يعيش حالة من الانغلاق المفزع على شوفينية مقيتة وعدوانية متجذرة، دون أن ينسى سعدالله منوحين المتنور الذي يكرس روح الملاينة والتفكير الحر ليبدو نشازاً في خارطة النص والعرض. نص الاشارات والتحول بما يحويه من غواية وتبصر وطاقة تحديثية في الكتابة المضمونية الاشكالية المعاصرة يصلح أن يكون بمثابة تيار متفرد في طريقة بناء الحدث والكشف عن جوهر المجتمع بعنف ولذة، بصياغات نصية مشهدية تدفع نحو ابتكارات بصرية عالية. المملوك جابر وطقوس الاشارات وجهان لمرآة واحدة، غواتيان لمرأة واحدة، قنديلان لعتمة واحدة، حكايتان مجبولتان بالفتنة تقومان على الانهيار الاخلاقي في السلطة، بل تمرغان السلطة بوحل الشارع، والشارع بوحل السلطة، هكذا هو الحال في المنمنمات والملك هو الملك، سعدالله يعرف كيف يدير مطحنة النص لنبش العفن الذي يعشعش في الأروقة العليا والتحتانية، بهذا المعنى فإن سعدالله يغذي النص التراثي وذلك برفعه الى سماوات جمالية بالغة الرفعة، انه يسحب الماضي برمته كي يعيد لوكه وكتابته بحريق لا مثيل له، انه يضيء ليحترق، هكذا هو سواء على صعيد حياته الشخصية، مع النص اليومي، البيتي أو الشارعي، أو مع النص الصداقي، عندما ذهبت الى دمشق مقذوفاً من عراق روحي، احتوى وجعي برمته، كل بيته صار بيتي، بيت سعدالله ونوس هو بيت كل اصدقائه، يوزع الحب والعذوبة على الآخرين وكأنه قديس أدمن خمر المودة، ذات نهار سافل ذهبت الى بيته، قلت له سعدالله، لقد اعدموا ابن أمي رمياً بالرصاص. قال هون عليك يا جواد، انهم يعدموننا جميعا رمياً بالرصاص، نحن موتى يا جواد مع هذا علينا أن نعيش لآخر رمق. لعل أخطر ما تواجهه نصوص سعدالله ونوس هو موت الحياة التي تحيط بنصوصه، الحياة مع العرب أو عند العرب أو في العرب، مؤسسات ومجتمعات توصلنا جميعاً الى الحريق، الى الادمان على الذل والادمان على السكوت والادمان على العوز، ادمان على كوننا أصبحنا خرافاً بامتياز، أكثر شيء يمكن أن يعذب المبدع كاتباً كان أو مخرجاً أو ممثلاً أو موسيقياً، أو تشكيلياً، هو موت ما يحيط به. لقد وصلت مجتمعاتنا بفعل تفعيل المؤسسات الاستبدادية والمخابراتية الى مجتمعات القطيع، وازدهار الفن السلعي والجمهور المنتج للفن السلعي، كل هذا أدى الى موت النص، نص الخلق، نص الكشف، نص الحياة. هايز مُللر الالماني عاش بقوة ونصوصه بقت مزهرة أكثر منه، الآن الشعب الالماني صاحب الإرث المعرفي عرف كيف يدافع عن نص هايز موللر؟! أخذها، هضمها، لاكها، ثم فعلها وعمل عليها في اطار المسرح، المؤسسات، المخرجون، الممثلون، الكتاب، النقاد، حولوا اعمال هايز موللر الدرامية الى منطقة إشعاع، جذبوا بها العالم أو سوقوها الى العالمي لا تخلو المكتبات الفرنسية أو اليابانية من نصوص هايز موللر، الوعي التأريخي للمثقفين والمؤسسات الابداعية حولت نصوصه الى سيمفونية تعزفها كل مسارح العالم. لعلني أسوق هذا المثل وأمثلة أخرى لمؤلفين صاروا أشبه بمنارات لشعوبهم كي أؤكد على موت المبدع العربي وهو حياً، بهذا المعنى ظل العرب بلا ذاكرة، باستثناء الذاكرة الماضوية، المؤسسة العربية الرسمية تعرف كيف تدفن النص وكاتب النص مرة واحدة والى الأبد، أو تفهم كيف تدفعه لهجرت الرعب، نحو عربات موحشة، معدنية وصلبة. لا نعرف كيف نحتفي بمبدعينا، لا أقصد هنا الحصول على نياشين فارغة أو المشاركة في كرنفالات جوفاء، لا، انما أقصد كيف يمكن أن يتحول نص المبدع الى الحياة ليكون منارة مجتمعه. ولعل سعدالله ونوس سبق الجميع ليحصل على شرف أكثر مسرحي في مسرحنا المعاصر قدرة على مقاومة الخراب، ليزهر ويكتب نصوصاً متدافعة وثّابة، خلاقة، مشاكسة، تضعه في مصاف الطليعيين في المسرح المعاصر. فاروق عبدالقادر: نهايات قاتمة تنبض بالأمل على الضفة الاخرى من اليأس ينبت الامل، وها هو كاتبنا المسرحي الرائع يواجه المرض بالكتابة، ويقاوم رياح العدم الصفراء بالإبداع الفني الخالص. كأن هذا الابداع اصبح الخيط القوي الذي يشده الى الحياة: به يخاتل العدم ويراوغه ويرجئ قدومه. ما ان يفرغ من عمل حتى يشرع في آخر، حتى تدفق ابداعه قوياً، خصباً، خلال السنتين الاخيرتين اللتين اهدى خلالهما قراءه ثلاث مسرحيات طويلة، ومسرحيتين قصيرتين. امام هذا الفيض الدافق من الاحداث والشخوص والأفكار والمشاعر والأحلام والرؤى، لا نملك حقاً إلا الاعجاب بتلك الطاقة التي انطلقت من أسارها، فلم تضعف ولم تهن. لنتأمل نهايات الاعمال الاخيرة: تنتهي مسرحية "يوم من هذا الزمان" بانتحار بطليها معاً، وتنتهي "منمنمات تاريخية" على قيام تيمورلنك باستباحة المدينة المستسلمة، لقادته اولاً، ثم لجنده الذين "نهبوا ما قدروا عليه وسبوا الاولاد والنساء والرجال ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد وصارت دمشق بعد الوفرة والبهجة أطلالاً بالية ورسوماً خالية". أما في "طقوس الاشارات والتحولات"، فإن تحولاتها تصيب كل المشاركين فيها: تُقتل الماسة، ويجن قائد الدرك، ويسقط المفتي والنقيب كلاهما الى مهاوي العشق المذل والدروشة المهينة. وفي "أحلام شقية" يموت الأمل ويبقى القهر على حاله. نهايات قاتمة نعم، لكن رؤية المسرحي في عمومها ما زالت تنبض بالأمل. وها هي الزرقاء، في عمله الاخير "ملحمة السراب"، تقول لنا رؤيتها الاخيرة قبل ان تغمض عينيها عن عالم الهزيمة والموت والخراب: "أخبرا ان الزرقاء قالت لو انكم لم تستعجلوا موتها لكان ممكناً ان تبصر في البعيد شمساً تشرق بعد انقشاع هذا الليل الطويل". نجمة واحدة واهنة الضوء تلتمع في ليل الهزيمة والخراب. لكنها تكفينا. فما يزال الامل موجوداً في قدرة الانسان على الصمود والتجاوز، شرط أن يفهم حقائق الصراع، وألا يخون او يجبن او ينتهز او يؤثر الصمت المريح. وها هو سعد الله نفسه القضية والبرهان. سامي خشبة: ما بعد الهزيمة حين كتب سعدالله ونوس اول مسرحياته "حفلة سمر..."، غيّر الكثير من المفاهيم السائدة ذلك الوقت حول المسرح العربي. فالمسرح "المحترم" كان آنذاك يكتفي برسم صورة لأحد جوانب الوجود الانساني. لكن الكاتب الشاب الذي وصلنا صوته من سوريا بعد صفعة الهزيمة، جعلنا مشاركين في الفعل المسرحي، ليس عبر دفعنا الى المشاركة المباشرة سيحدث لاحقاً، بل من خلال جعل الفعل المسرحي جزءاً مهماً من حياتنا خارج صالة العرض، حين لا نعود متفرجين على جانب من جوانب وجودنا، بل نعود اطرافاً فاعلة وشركاء في هذا الوجود. كان ونوس في تلك اللحظة، بعد هزيمة حزيران يونيو، مهموماً بالقضية القومية والوطنية، ولكنه صاغ ذلك الهم بأن اعطاه عمقه الحقيقي، كاشفاً الهزيمة من خلال اسبابها الغائرة في بنيتنا الثقافية والاجتماعية. كنا متفرجين او مستمعين، وأدرك هو ان مواجهة أعباء المعركة القادمة تقتضي ان يتحول المتفرجون الى مشاركين. فطالب الفهم او صانعه، وطالب الانتصار، لا يمكن ان يكون متفرجاً فقط. وتبنت هذه الخيارات كوكبة من المسرحيين المنتمين الى الجيل نفسه: محمود دياب في مصر، وقاسم محمد في العراق، وحتى روجيه عساف في لبنان، وغيرهم. صارت المشاركة مبدأ رئيسياً للابداع المسرحي، وتوارت سلبية الفرجة. وحينما بحث النقاد عن امكانات فتح الطريق امام لغات مسرحية اخرى، استعاروا من صاحب "رأس المملوك جابر" مصطلح "مسرح التسييس". لكن الأطر المكتشفة سرعان ما تحولت قوالب مكرسة، علماً ان محاولات كثيرة اخرى راحت تسعى الى ايجاد وسائل بديلة، وآفاق مختلفة، لتحقيق المشاركة وتجاوز الفرجة السلبية، واستيعاب القفزة النوعية للمسرح العربي. تلك القفزة التي بدأها ويواصلها سعد الله ونوس.