تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    «مهاجمون حُراس»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    رحلة طموح    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اشتق الشعر من نثر الحياة وأطلق "قصيدة العصيان" . نزار قباني : خمسون عاماً فوق درب الهوى ...
نشر في الحياة يوم 11 - 05 - 1998

نزار قبّاني رائد كبير من روّاد الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، أعطى القصيدة الغنائية أبعاداً رحبة، وأعطى الحدس أحد أشكاله الأكثر اتساعاً. قصيدته حلّقت في فضاء واسع يحتضن الرمزي والغريزي والعفوي، فاذا بها حديث الروح المتمرّدة التي خطفت ألباب أجيال متعاقبة. عاد جثمان الشاعر الكبير إلى "الرحم الذي علّمه الشعر، وأهداه أبجديّة الياسمين"، ووري الثرى في مدفن العائلة إلى جانب والديه وأخته ونجله، في مقبرة "باب الصغير" في حي الشاغور الدمشقي بناء على وصيّته. وتواصل "الوسط" نشر شهادات حول مسيرته وتجربته الابداعيّة التي جعلت الشعر لحظة حريّة لامتناهية. بعد سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي وعبّاس بيضون ومحمد الفيتوري وأحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقّاش، ننشر فيما يلي شهادات محمد بنيس، علي الجندي، نزيه أبو عفش، وإدوار الخرّاط، إضافة إلى دراسة بقلم الزميل فيصل درّاج كانت سبقتها في العدد الماضي دراسة أخرى لفاطمة المحسن.
شاعر قبيلة حديث بقي مشدوداً إلى مملكة الحواس
أسباب كثيرة جعلت من نزار قباني شاعراً منتشراً وذائع الصيت. فهو "شاعر المرأة" الطليق الذي حدّث عنها روحاً وجسداً ورغبة، من دون تحفظ أو مراعاة المألوف. وهو صاحب القصيدة التي تداولها نجوم الغناء. وهو "شاعر القبيلة" الحديث المدافع عن روح الأمة وشرف الجماعة. وهو الذي أطلق "قصيدة العصيان" حين كتب في عام 1954 قصيدته "خبز وحشيش وقمر"... كل هذا أكد نزار شاعراً للجميع، وشاعراً خارج الشعر في آن.
وإذا كانت شهرة الشاعر الطاغية مرآة لجمهور عريض ارتبط به، فان هذه الشهرة ذاتها قذفت به خارج التقويم الشعري، كما لو كانت قيمته الشعرية تساوي انتشاره الجماهيري لا أكثر. غير أن تأمل تجربة قباني اليوم بعد رحيله، وعلى مبعدة عن ضجيج الشهرة وبريق الاضواء، يكشف عن رائد كبير من روّاد الحداثة الشعرية العربية المعاصرة، أعطى القصيدة الغنائية أبعاداً رحبة، أو أعطى الحدس الغنائي أحد أشكاله الأكثر اتساعاً.
كان نزار الشاب، ابن حي الشاغور الدمشقي وأحد الأمكنة الأكثر "شاميّةً"، على وعي مبكر بالحدس الشخصي في الغنائية، فبنى قصيدة تحاور العالم وتمنحه صوتها وتنصّب الوجدان الذاتي خالقاً للعالم وقارئاً له. وعبّر نزار عن هذه الغنائية حين أصدر قصائده الأولى، وهو في الحادية والعشرين، في ديوان بعنوان "قالت لي السمراء". كان ذلك في أيلول سبتمبر 1944، وحاول نزار آنذاك أن يوفق بين رؤيا وتعبير جديدين. وقد استهل الشاعر قصائده ببيان شعري، سعى فيه إلى بلورة أفق نظري يُسند قصيدته الجديدة ويضيئها. وتصدر أهمية هذا البيان عن اندراجه في منظور شعري، يُعيد النظر إلى المعيار الكلاسيكي الجديد للشعر، هذا المعيار الذي ارتبط بما كان يدعى ب "الطبقة المدرسية" المشدودة إلى المعايير التقليدية.
وعلى الرغم من أن قبّاني كان مَديناً بتربيته الشعرية الأولى إلى خليل مردم 1985 - 1959، أستاذه في الكلية العلمية الوطنية في دمشق، وأحد ابرز شعراء "الطبقة المدرسية"، فإن ما جاء به في مقدمة "قالت لي السمراء" قاده إلى منظور للشعر جديد، لا يأتلف مع تعاليم أستاذه. غير أن هذه القطيعة لم تمنع نزاراً من الاحتفاظ بمثال جمالي من أستاذه، سمته "غلبة الشعور على العقل"، هذه السمة التي سوف يدعوها لاحقاً "العفوية". ولعل تغليب الشعور على العقل هو الذي وضع ديوان "قالت لي السمراء" في الفضاء الرمزي، واتاح له اندراجاً مبكراً في "حركة الشعر العربي الحديث" التي احتفلت بالفردية المبدعة واحتفت بلقاء الشعر الحميم مع تفاصيل الحياة.
ولذلك لم يكن غريباً أن يستأنف نزار بلورة مفهومه الشعري في مقدمته لديوان "طفولة نهد" 1948، فالشعر تجربة ذاتية حميمة، وان يقوم بهذا الاستئناف في زمن يؤسس لتجربة عربية شعرية جديدة. فقد صدرت عام 1947 ثلاثة بيانات تقول بمفهوم شعري جديد. هي بيان "حطموا قيود الشعر" الذي استهل به لويس عوض ديوانه "بلوتولاند"، و"سريال" أورخان ميسر الذي شارك في كتابته علي الناصر، ومقدمة نازك الملائكة ل "شظايا ورماد"... هكذا لم تكن مقدمة "طفولة نهد" اجتهاداً معزولاً وواهن الجذور، بل جزءاً من اجتهاد شعري شامل تتحاور فيه الرؤى، واقتراحاً حداثياً رائداً، أو اقتراحاً أصيلاً تبدو الريادة الشعرية الحديثة ناقصة من دونه.
غدا الشعر عند نزار قبّاني، كما عند غيره من دعاة الحداثة، فاعلية لغوية حرة تخلق قواعدها الخاصة بها، إن لم تكن نفياً للقواعد جميعها، إلا ما ارتضى به الحدس الشعري والذات المبدعة. "الشعر يهزأ بالحدود"، يقول نزار، ذلك ان "الشعر يصنع نفسه بنفسه وينسج ثوبه بيديه وراء ستائر النفس"، كما لو كان الشعر حديث الروح المتمردة التي تعرض عن قواعد "السادة العروضيين الذين عرّفوا الشعر أهزل تعريف، حين قالوا بأنه الكلام الموزون المقفّى". فالشعر، عند نزار، حوار بين روح جميلة وجماليات الحياة، حيث المنطقي لا مكان له لأن المكان كله للحدس الغنائي الذي يبصر ما لا تصل إليه القياسات العلمية.
حلّقت قصيدة نزار في فضاء واسع يحتضن الرمزي والغريزي والعفوي، على مقربة من مطابقات بودلير الشهيرة، حيث مملكة الحواس متنوعة ومتكاملة في تنوعها. فالصوت قرين اللون وزميله، والرائحة امتداد للصوت واللون والملمس تتويج لصدى اللون وايقاع الرائحة في آن. وبقدر ما تتيح مملكة الحواس تخليق الرموز أو الالتقاء بها، فإنها تلبي ما تصبو إليه الغريزة وتنطق به. والغريزة، التي احتفلت بها قصيدة نزار، كانت تعبيراً عن عفوية الانسان وميوله الطليقة، بعيداً عن القيود المتراكمة التي تكبّل الشوق الانساني قبل ان ترمي بالقصيدة إلى آبار التكلّس والجمود. وبهذا المعنى، فالشاعر السوري الراحل لم يحرر القصيدة من "الصنعة" و"التصنيع" إلا لأنه مشدود إلى فضاء طلق يلغي المسافة بين الانسان ورغباته، وبمحو الفرق بين الشعر واللاشعر معاً.
رأى قبّاني في الشعر لحظة حرة، ورأى في الحرية تكثيفاً للشعر وآية له. بيد أن الشاعر المشدود أبداً إلى مملكة الحواس، أي إلى الوجود الانساني العفوي والبريء، كان يشتق الشعر، كما الحرية، من نثر الحياة وتفاصيلها المدهشة والمتنوعة التي تقبل ب "جمال القبح" و"طهارة الاثم" وديمومة "اللحظة" ولاتناهي "الهنيهة". ولعل هذا الانفتاح على الحياة، في وجوهها المنسوجة من الألوان جميعاً، هو الذي جعل نزار يأخذ بأولوية التجربة على الشكل، وبأولوية المعيش على المكتوب، وهو الذي جعله يلمس شعرية الحياة في تفاصيلها الصغيرة، حيث تتجلى جمالية الأكوان الصغيرة، مثل جمالية "المقهى" و"الرسالة" و"الضفائر السود" و"أزرار القميص"، "منفضة السجائر". وفي هذا كان رائداً من رواد قصيدة التفاصيل اليومية، أو القصيدة الشفوية. لكنه كان أولاً رائداً كبيراً من رواد الحداثة الشعرية التي لا تحتفل بالكليات الابدية والسرمدية، بل بالعوالم اليومية الصغيرة والعابرة.
قصيدة التفاصيل اليومية
لقد اقتربت قصيدة نزار من اليومي ومن لغة الحديث اليومي، إن لم تصل احياناً إلى ضفاف لغة خشنة. غير أن هذه اللغة كانت تنتقل من مستوى إلى آخر، بفضل المنظور الشعري الذي يحررها من عاديتها وسكونها، ويمدها بشفافية موحية وغير متوقعة. فالشاعر الذي احتفل بوجوه الحياة كلها، كان يصوغ الاحساس لغة كما لو أن اللغة موجودة في مواضيعها وموجودة في اللامكان، فهي قائمة في الحدس الغنائي، ونوافذ القطارات، وسطور الصحيفة المهملة وأريج الياسمين، وهي قائمة في شهوة الحياة وتوتر الجسد ولهاث عاشقة ضلت الطريق.
عشق نزار الحياة وجعل العشق منظوراً لها بل اكد العشق قواماً للحياة وغاية لها. ولم يكن احتفاله المتجدد بالمرأة الا صورة لهذا العشق وتكثيفاً له. فالمرأة هي العشق ومادته، والمرأة هي الانسان الطبيعي المنسوج من قبح وجمال واثم وطهارة، وهي حقل الياسمين وكومة من ملابس رطبة. والمرأة هي أيضاً ذلك الكيان الذي يشي بانفتاح المجتمع أو بانغلاقه. ومع أن قصائده ضجّت بالمرأة، جسداً ولوعة وحرماناً ودموعاً كاذبة، فان الشاعر حرم المرأة من صورتها الرومانسية المحدثة عن "عيون المها" و"ظبية الوادي" و"جيد الرخام"، وأكدها كتاباً انسانياً عذب العبارة وملتوي الحروف في آن.
غير انه جعل من هذا العالم المضطرب بالحواس اشارة فكرية، تكثف الصراع بين القديم والجديد، وبين الحديث والتقليدي، والمغلق والمفتوح، والمقيد والطليق، كما لو كانت المرأة تكثّف العشق، وكما لو كان العشق فلسفة، تنشدُ وفاق الجسد والقلب، وتندد بما يغلق الجسد على حرمانه والمجتمع على عاداته القاهرة. ولذلك فان قصائد نزار عن المرأة لا تحيل على زفرة العاشق الاسيان إلا لتلعن مجتمعاً طارداً للفرح. هكذا تبدو "قصيدة الحب" مرآة ل "قصيدة العصيان" التمرّدة على التقاليد. فامرأة نزار في "يوميات امرأة لا مبالية" تفعل ما تمليه الرغبة ويرجوه الجسد ويتوقعه العاشق، كما لو أن "الانثى الحقيقية" لا وجود لها الا في وجود الجسد الذي حطم أغلاله. وبسبب الرغبة واحوالها، فالمرأة تساوي وجودها لا أكثر: إنّها ليست رمزاً، ولا يمكنها ان تكون كذلك، ذلك ان وجودها لا يكتمل الا بما جاء من خارجها.
ومع أنّه كثّف جوهر الانسان في أكوان المرأة، وأكد الاخيرة كياناً يعيش نقصاً لا شفاء منه، فان أنا نزار قبّاني أغوته أن يكون شاعر المرأة وسيدها في آن، يتحدث عن "اهرام من الحلمات" وعن "امبراطور النساء" الذي فصَّل من جلد النساء عباءة واسعة تتسع لذاتيته المترامية. وربما لم يستطع الشاعر الحديث العاشق للحرية، التحرر كليّاً من أطياف عالم قديم، عالم أجداد وآباء ابصروا في المرأة جارية، والتمسوا فيها عباءة طيعة من حرير.
ويظل الراحل، بهذا المعنى، شاعراً متعدداً ومتناقض الوجوه. فالمرأة كيان حر، وعباءة رخيصة. والشعر قول الحدس وصرخة سياسية مباشرة. والقول الشعري بعيد عن "المنفعة"، ونافع لاستنهاض الروح الكسيرة. والشعر يرجم عادات الاجداد ويستأنفها. ولغة الشعر تجيء من القلب، ومن أركان الغرفة المهملة. ويظل نزار أيضاً شاعراً شامياً تجذرت دمشق في روحه، وأوغل في حبه لها، حتى كاد أن يحول دمشق القديمة إلى فردوس مفقود، فهي مرتع الطفولة ومهد الجمال الذي كان.
حلم أن يصبح "ذات يوم جزءاً من تاريخ دمشق"، جزءاً من ذلك الجمال الباذخ الذي توزّع على حارات وبيوت وعادات "مأذنة الشحم" في دمشق القديمة التي احتضنت نزار طفلاً وصبياً ويافعاً. غير أن ذلك العالم المدهش حوّلته يد الزمن إلى أطياف، فما كان ذهب والمشهد تداعى... ولم يبقَ الا ما أنقذته الذاكرة. وها هو نزار أيضاً يمضي، أي يعود إلى مدينته، فلا نعود نعرف إذا كان الشاعر جزءاً من تاريخ المدينة، أم أن المدينة التي أحب، هي جزء من تاريخ شاعر عملاق اسمه نزار قبّاني.
محمد بنيس: حرية القصيدة أقوى من عالمها الشعري
إنتصر نزار قبّاني في أن يخلق لقصيدته جمهوراً جموحاً يمكن أن يشكل "جمهورية نزار قبّاني الشعرية". قصيدته تتوجه إلى قارئ عام يعلن لأول مرة عن حق الأنثى، إلى جانب حق الرجل، في أن تصبح القصيدة بوحاً من دون تنازل. ولهذه القصيدة مستمعها أيضاً، عبر الأغاني. إنه مستمع لا يهتم بما يعرف أو لا يعرف من دروس اللغويين ونقاد الشعر. إنه يحب الشعر فقط، ويحب ما يكتبه شاعره نزار.
هذه القصيدة تنتقل بصرختها بين الأيدي، أو تختفي بلا حياء تحت الوسائد : معجم لجسد المرأة وأحوال النفس وطبائع الخضوع والاستبداد والأشياء اليومية. أما الجملة الشعرية العارية، فتختار الرقص أو الندب المحبب إلى نفوس مقبلة على الشوق والعطش والغضب والتحرر. على هذا النحو اقتربت المرأة في شعر نزار قبّاني من المرأة، مثلما اقترب الغاضب من جروحه وانكساراته، والفصحى من العاميات، والاغنية من القصيدة. ذلك ما جعل من جمهوره صنفاً مخصوصاً بالوفاء لقصيدة في جميع أحوالها.
كان إحساسي في البداية غامضاً بكل هذه الصفات التي اكتسبتها قصيدة نزار منذ لحظاتها الأولى، كما اكتسبتها كتاباته الموازية للقصيدة. يعود ذلك إلى أواسط الستينات، عندما قرأت أول مرة بعض أعمال نزار قبّاني، مثل "طفولة نهد"، "أنت لي"، "حبيبتي". لقد أحسست معها ان حرية القصيدة أقوى من عالمها الشعري. ولربما كنت ملتفتاً إلى كتاب "الشعر قنديل أخضر" أكثر من التفاتي إلى القصائد. فعندما كنت أقرأ "الشعر نار الانسان" كنت في الوقت ذاته انتمي لما يقوله نزار قبّاني وانفصل عنه، لأن طريقته في تجسيد هذه الفكرة الرائعة لم تكن تقنع رغبتي في التعرف إلى الشعر، هذا المجهول العجيب الذي كان مستولياً علي.
وما زلت حتى الآن احتفظ بقصيدة "هوامش على دفتر النكسة"، كما نشرت في الصفحة السادسة من جريدة "العلم" المغربية في الثالث من أيلول سبتمبر 1967. ولربما كان ذلك دليلاً على احترامي لقبّاني، شاعراً يعشق حريته ولا يكترث بغيرها. لكنّني لم ألتقِ الشاعر مباشرة، ولم أسعَ إلى هذا اللقاء، احتراماً للمسافة التي يحتفظ بها لنفسه. رأيته مرة واحدة بمناسبة زيارته لمدينة فاس سنة 1966، واحيائه أمسية شعرية في ثانوية مولاي ادريس المحاذية لباب بوجلود. تلك الأمسية لا أنساها، ولا أنسى جنون جمهور مختلط، كان يفجر مكبوتاته واستيهاماته بين كلمة وكلمة. بين بيت وبيت، بين قصيدة وقصيدة.
لقد علمني نزار قبّاني كيف احترمه، مع انني لا أتقاسم معه، على الدوام، منظوره للشعر وللقصيدة. هذا برأيي هو الفرح الذي لا يفارقني، وهو أيضاً، أثر الأخوة بين الشعراء.
علي الجندي: لم يعرف عذاب الحب!
لا يختلف اثنان على أهمية نزار قبّاني ومكانته في الشعر العربي الحديث. ولكن ذلك لا يعني ان تجربته الشعرية وصلت إلى الكمال، فتأرجحه بين العمودي والنثر والتفعيلة لم يكن نتيجة عوامل تجديدية، بقدر ما هو لعب بالصور.
والشاعر الراحل يمثّل الشخصية الدمشقية خير تمثيل، فهو يريد كل شيء: الشهرة، والأهمية، والمال، والابداع، من دون أن يدفع ضريبة ذلك.
نزار شاعر ذو نكهة وتميز خاصين، ولم ينل أحد من الشعراء المعاصرين الاهتمام الذي ناله. كتب أشياء مهمة وأشياء أقلّ أهميّة، وقد أثار استغرابي سعيه لاعطاء قصائده لمطربين مختلفين، في حين أنّه بغنى عن ذلك، من ناحية الرواج ومن الناحية الحياتيّة.
لم يعرف أية صعوبة في حياته، فهو ابن تاجر دمشقي كبير. حتى عذاب الحب نفسه لم يعرفه، لأنه كان ومنذ طفولته محاطاً بنساء يغدقن عليه من الدلال الكثير.
نزار هو الوسيم، الأنيق، والثري... هكذا سيبقى في ذاكرة كثيرين. وسيبقى شاعر لا يشبه إلا نفسه، غرّد على طريقته خارج السرب.
إدوار الخراط : موقع الصدارة للمرأة
في هذه اللحظات الأليمة لا نملك إلا أن نؤدّي تحية إلى نزار قبّاني الذي خطف، طيلة خمسة عقود، ألباب أجيال متعاقبة من الفتية والفتيات. لتأثيره مفعول يشبه السحر، بإيقاعاته الراقصة، وجسارته في الاشارة إلى ما كان أدخل في باب المحظورات، بل التصريح به... سواء كان في سياق مداعبة الرغبات الحسيّة أو دغدغة العواطف الثورية.
لعلّ قبّاني في العصر الحديث أول من كسر التابو الجنسي على نحو خفيف الوقع وسهل التأثير، وأول من أعطى المرأة وخصائصها الأنثوية مكان الصدارة حتى في عناوين كتبه. ولعله كان من أكبر المعنيين بالشعر العربي الرنان، الأخاذ، جرأةً في التعبير بشكل أو بآخر عن تمدد الشباب، ومن بقي من الكهول في مرحلة الصبا العقلية والوجدانية، وضيقهم بسيطرة أسياد الزمن الطارئين وتزمتهم. كل ذلك حقّق له صيتاً عريضاً، بل كان مدخلاً إلى أن يتغنى المطربون والمطربات بأشعاره. هذه الأشعار التي تميزت بسلاسة الوصول إلى الحساسية الشعبية العامة، بفضل خفتها الموسيقية وانسيابها العفوي، النابع من السجيّة بلا عناء وبلا احتشاد. فهو لا يكلف المستمع أو القارئ كبير مشقة أو جهد لاعادة الخلق، ولا يدعوهما إلى الضرب في ساحات مغامرة غير مضمونة العواقب...
نزيه أبو عفش : أمير الشعراء بلا منازع
شغل نزار قبّاني الناس في كتاباته ومشاغباته، كما شغلها بمرضه بعد نكسته الصحيّة الأولى. وها هو يرحل بأمان، ويترك خلفه كل هذه الضوضاء.
ما من محطة تلفزيونية على امتداد خارطة النسيان، ما من مجلة أو جريدة أو دكان مغمور، ما من صحافي أو شبه صحافي من أولئك الادعياء الصغار، "صيادي المفاجآت" الذين لا تحركهم في العادة غير رائحة الفضائح... أو رائحة الموت، ما من أحد إلا وشحذ لسانه وعبقريته وأدوات حربه : ماذا تقول في نزار قبّاني؟
هو الموت إذاً! أيقظ الجميع، كأن نزار قبّاني هبط لتوه على سطح الحياة الشعرية بمظلة غير قابلة للتوجيه. أو كأن لشائعة الموت إغراء يشحذ القرائح والأنوف والضمائر... ويغسل ما تراكم عبر عقود، من آثام النسيان والتشفي ونكران فضائل الجمال!
نصف قرن ونزار يحرث في تربة الجمال، كما لم يفعل أي حارث أسطوري من رواد المجاهيل الأوائل الذين عبروا على ضفاف تاريخنا الشعري الحديث بأكمله.
النبضة الأخيرة في قلب الشاعر جعلتنا نكتشف ما أهمله النقاد المتغطرسون والمفسرون الذين شوّهت أرواحهم العقائد. ها نحن نفتح أعيننا على السطوع النادر الذي أحاط بحياتنا الشعرية، عبر نصف قرن من عبث الغوغاء، وصيارفة الحبر الصغار الذين أفسدوا الذائقة الشعرية وقطعوا جميع السبل التي مهّدها الشعراء الأوائل وحولوها إلى ممرات مقدسة تربط ما بين ألسنة الشعراء وقلوب البشر أجمعين.
نصف قرن من عمر نزار قبّاني الشعري هو - بقليل من التدقيق - عمر الخراب الشعري الذي أحاق بحياتنا الثقافية كلها، على يد أدعياء الشعر والفصاحة والتحديث ممن فتكوا بذائقة البشر، وأفسدوا مذاق الكلام، وضللوا عشاق الجمال... كل الجمال.
نصف قرن أو أكثر، ونزار قبّاني يطارد شياطين الكلمات كراهب نذر نفسه لتقديس الجمال، وإعلاء شأنه، والكفاح الروحي من أجل أن يكون الجمال هو المبتغى والمثال. وحده، منذ نهاية الاربعينات، استطاع ان يحول الشعر إلى ظاهرة نادرة في تاريخ شعرنا العربي منذ امرئ القيس والمتنبي وأبي العلاء... وصولاً إلى مومياءات الكلام الذين جعلوا الشعر لعنة دامغة وتعويذة شؤم، لا تجلب لأصحابها غير الخيبة ودخان الأضاليل.
لقد استطاع نزار قبّاني ان يجعل من الشعر لقمة بسيطة ونادرة، لقمة ممتعة تصلح لمائدة الجميع، وذائقة الجميع، وتوق الجميع إلى الجمال وهو، بحد ذاته، واحدة من أنبل وأعمق الهبات التي يعدنا بها حراس الكنوز العظام.
برهافته وبساطته وتواضعه الفطري إزاء الجمال، استطاع نزار أن يحول الحبر قطرات زيت نبيلة ومباركة... لا هم لها غير أن تشع بعضاً من النور، وبعضاً من المسرة، وبعضاً من الحب، على تخوم بلاد مشؤومة لا همّ لها غير أن تلعن النور، وتحتقر المسرة، وتزدري فضائل الحب. استطاع، بالنباهة الفطرية للشاعر الاستثنائي، أن يكون جميلاً، محبوباً، وجديراً بنعمة الحياة... استطاع أن يمنح للشعر هيبة لا تليق الا بالشعر، ولا يتحسر على فقدانها إلا من يتحسر على فقدان الشعر، والزمان النبيل الذي كان فيما مضى يضاء بالشعر، ويؤرَّخ له بما يتركه الشعر من آثار تحفظها ذاكرة الشعوب كما تحفظ التعاويذ المقدسة.
خمسون عاماً وأكثر، كانت خمسينه وعصره ومائدة صوته الكريم. كانت "خمسين" أعظم نقلة في تاريخ البيان الشعري العربي، وأرهف عبارة في قاموس الفصاحة العربية، وأبسط لقمة جمال يمكن أن تقدم على مائدة الكلام التي حولها شعراء النخبة وأدعياء الحداثة وما بعدها إلى مائدة منكرة للفظاعة والغرور وطيش أدمغة العابثين.
خمسون... هي "خمسونه" بغير تطرف أو مغالاة أو ميل إلى المغامرة في متاهات التصنيف. هي خمسون "الإمارة" الحقيقية التي احتكرها - قرابة نصف قرن من الزمان - أمير شعراء غابر لا يزال يتمتع بمهابة كرسيه الأبدي في متاحف الكلام...
نزار قبّاني - بلا منازع - أمير شعراء حقيقي في عصر ملتبس ضنّ عليه بصولجان الإمارة وعرشها... ولكنه لم يضن عليه بمفاتيح قلوب البشر التي هي - في عالم الشعر - أنبل وأقدس المفاتيح.
الطنطاوي ساخراً من نزار!
واجه نزار قبّاني أعتى الحملات وأشرسها من قبل المحافظين، وذلك منذ ظهور ديوانه الأوّل "قالت لي السمراء". والمقالة التي نشرها الشيخ علي الطنطاوي سنة 1946 في مجلّة "الرسالة" المصريّة، تعطي فكرة عن حدّة ذلك الهجوم الذي جاء ردّ فعل على ما بدأه الراحل حينها من خلخلة في بنية الثقافة التقليديّة. في ما يلي مقتطف بسيط من المقالة التي يسخر فيها الطنطاوي من الديوان المذكور، وتنطوي على كثير من التجنّي والتجريح الشخصي بالشاعر الشاب، وقد أثبت الأيّام صدقيّة مشروع نزار وتجذّره في التراث الشعري العربي، مع ارتباطه بالراهن واليومي واعتناقه خيارات الحداثة:
"طُبعَ في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف ناعمه... فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، يشتمل على ما يكون بين الفاسق القارح، والبغي المتمرّسة الوقحة، وصفاً واقعيّاً، لا خيال فيه لأن صاحبه ليس بالأديب الواسع الخيال بل هو مدلّل، غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة، وقد قرأ الطلاب في مدارسهم والطالبات كتابه. وفي الكتاب مع ذلك تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسّط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملّوا رفع الفاعل ونصب المفعول به، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة، وهم يقيمون عليه، فلم يكن بدّ عن هذا التجديد".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.