تبدو "الايروسية" هذه الايام على الموضة فوق الساحة الشعرية. وهذه الظاهرة تعيدنا حكماً الى تجربة تأسيسية ارساها نزار قباني الذي طلعت قصيدته من دمشق الاربعينات حين كانت بستاناً حافلاً بالألوان والظلال، وعبّر أسلوبه عن مرحلة كاملة تميزت بالسعي الى جعل الوهم حقيقة في الحياة العربية. وتعتبر الناقدة العراقية فاطمة المحسن ان شعراء اليوم، في عودتهم المحمومة الى كلام الحب، لا يختلفون كثيراً عن جوهر ما تبناه قباني قبل خمسين عاماً. فهل لا يزال صاحب "الرسم بالكلمات" راهناً؟ ام ان الزمن العربي هو الذي توقف؟ يتذكر الشعراء هذه الايام قصيدة الحب والغزل الإيروسي، معرضين عن اغراضهم السابقة التي نادراً ما تميل الى ذكر محاسن المرأة وجمالها، وتعاملها كرمز وأمثولة. ولأن المجموعات الشعرية المهتمة بالحب و "الإيروتيك" كثرت هذه الايام بفعل المصادفة والتقليد، ولأسباب مختلفة اخرى، جاز لنا نحن القراء، ان نتذكر شيخ المحبين والغزليين نزار قباني الذي شاعت قصيدته بين جيلين او ثلاثة من الشباب العربي، وما يزال يحتفظ بمكانته أينما حل وحيثما رحل. بين التجارب الشعرية في كتابة قصيدة الحب، تحمل تجربة نزار قباني قوة الاقناع الذي تحمله وسيلة الاعلام الجماهيري الضاربة. وأهم حقول الجذب في هذه الوسيلة صورة المرأة المشتهاة. ففي وقت مبكر من حياتنا العربية رسم نزار قباني صورة متخيلة للمرأة، استطاعت ان تنوب عن واقع نسائي بائس. وربما كان خراب العلاقة بين المرأة والرجل يشكل أبرز دوافع تخلف هذا الواقع الاجتماعي وقحطه الروحي. امتدت تجربة نزار قباني الشعرية قرابة الخمسة عقود او يزيد، وهي تؤشر في سيرورة تشكلها الاولى الى تاريخ تطور العاطفة العربية المكتوبة، واقترابها من المحيط الحضاري العالمي، وتهذيب قول الحب من تجريدات المشاعر الجاهزة. ولا بد لنا ونحن نقرأ شعر نزار قباني، ان نتذكر ما له من أهمية استثنائية في صياغة كلام الحب بمحموله الاجتماعي وتأثيره السيكولوجي. فالمرأة معه انتقلت في ديوان الشعر العربي من خيمة الصحراء وبيوت الحريم الى عالم أنيق مترف، عالم حديث تجالس فيه الرجل وتشاركه الرقص والعبث والحياة. تلك الصورة التي غذت مخيلة النساء والرجال عن تفصيل في الحب، لم يكن متداولاً من قبل في الشعر العربي. ولا يمكن والحالة هذه ان ننسى شعر الرومانسية المصرية المتمثل بشاعريه المشهورين علي محمود طه ومحمود حسن اسماعيل. كما لا ينبغي ان نهمل إباحية الياس ابو شبكة المتطرفة في البحث عن مقترب شعري للبحوث السيكولوجية في المفاهيم الإيروسية. وتلك اشعار تمثل في كل احوالها، امتداداً للشعر الكلاسيكي العربي في حافظته المهجنة بمفاهيم وصياغات بعض مرجعية صورها اوروبية المنشأ. الجديد في شعر نزار قباني هو ان ترسم قصيدته في أربعينات هذا القرن إيروسية من نوع خاص، تهجر كل ما له صلة بمخيلة الماضي، وتصوغ لها قالباً لغوياً يكسر الحدود بين الشعر والنثر، وبقوة إداء من نوع خاص ومبتكر لا يحتاج الى توسط بينه وبين القارئ أياً كان نوعه. فتلك القصيدة تمثل، بنماذجها الاولى، كل ما يعز على الناس ان تقوله في الحب، ويسهل عليها ان تتخيله كحقيقة مفترضة. وهذا لا يعني تطابق قصيدة نزار مع تفصيل الواقع اليومي، او صورة المرأة في عموم الحياة العربية، بل هي ربما الاقرب منالاً الى متخيل يسهل الامساك بتضاريس أمثولته. فالمرأة هي المرأة بجسدها وبمشاعرها الجديدة، مع كل ما يحف بها من رتوش وأزياء وعطور وترف وحرية، تبخل بها الحياة العربية عموماً على اكثر النساء، وتجود فيها على نساء النخبة المتأوربة. والمفارقة ان قراء نزار، في غالبيتهم، هم الأبعد عن الحياة التي يصورها شعره. بل ان الشاعر نفسه، ابن بائع الحلويات في شام الاربعينات، صاغ نساء أحلامه من خارج الواقع الذي يحياه، ثم كسب شهرة تمكنه من تحقيق هذه الاحلام. وهنا يصدق القول العربي المأثور: أعذب الشعر أكذبه. وبمقدار ما أغدق نزار على المرأة العربية من حرية وأسلوب حياة لم تكن تملكهما، أضفى على شخصيته فروسية في الحب جعلته يحتل موقع الند في مسرحية البطولة تلك. ذلك ان صورة المرأة المتخيلة كانت تعكس ذاتاً للرجل فيها الكثير من نرجسية الشاعر المغرم بنفسه. فنساؤه رقيقات رقة عواطف الشاعر، وأجسادهن موديل اعلان عن الذات عبر الشعر. من المفيد هنا ان نتذكر ان بيئة نزار قباني التي حكى عنها الشاعر في مذكراته، كانت قادرة على منحه ادوات شغله الاولية. فدمشق الاربعينات كانت بستاناً يحفل بالألوان والظلال، فجاءت صوره الرومانسية الرقيقة بعضاً من تفصيل في تلك البيئة الحميمية كما كتب الشاعر. وفي كل الأحوال يبرز السؤال الأهم في معادلة الشعر لدى نزار قباني: هل كانت صورة المرأة لديه مستمدة من الكتابات الرومانسية الفرنسية الحديثة؟ الأرجح ان جمال قصيدة نزار الاولى، يتحدد في قدرتها على خلق لغة شعرية فيها الكثير من تأثيرات اللغة الاوروبية في مخاطبة المرأة. فما اعتاد الشاعر العربي ان يمتلك تلك الرشاقة والتحضر في الكلام عن المرأة، بصرف النظر عن صيغة سوقه هذا الكلام. كانت قصيدة نزار قباني الاكثر قدرة على التحرر من قيود البحور الشعرية الثقيلة، بما تملكه لغتها من مطواعية وجرأة في استخدام الايقاع الاوروبي الراقص، وفي التحرك المنساب ببساطة وطلاقة، من دون ان يعوق الوزن حريتها. وربما لا ينطبق هذا القول على كل نتاج نزار الاول، لكن من المناسب ان نذكّر في هذا السياق، ان شعره وفي كل اشكاله المكتوبة حتى يومنا هذا، اكثر انتساباً الى النثر في بنائه وأسلوبيته. فهو بسيط شاعري ويعتمد الوصف التفصيلي للمظهر الخارجي للشيء الذي يكتب عنه. ولأن المرأة موضوعه الاساسي، فإن مادته تتكون من كل ما يخصها من توريات واستعارات وتلميحات، عدا الاوصاف المباشرة التي يرسم من خلالها صورتها على أكمل وجه. ان اسلوب نزار قباني يمثل توق مرحلة بأكملها الى جعل الوهم حقيقة في الحياة العربية. وإن صح ان نرى في شعر الحرب ممكنات منذ الجاهلية على كسر متعارفات اللغة، إلا ان طريقة نزار الجديدة في التطابق بين لغة الحديث ولغة الشعر كانت وراء شعبية وجماهيرية قصيدته وفكرة القصيدة لديه تقوم على حدث لا صورة مجردة، فالشاعر يصطاد عادة في شباك قصيدته أصغر الحالات، وأكثرها اهمالاً في الذاكرة الشعرية... اي كل ما تعالت عليه القصيدة الفصحى حياء وترفعاً. إنها الشؤون الصغيرة التي تخص المرأة، والتي يرويها على هيئة مشهد او خاطرة صغيرة: امرأة تدخن وتشرب فنجانها في مقهى. عابرة ينحسر فستانها من دون ان تدري. جورب مقطوع بالمصادفة، تنورة مزركشة تطير مع النسائم. رسالة وساعي البريد. مكالمة تلفونية في منتصف الليل... الى ما هنالك من شؤون صغيرة يمر بها البطل من دون التفات. المهم في الأمر ان تلك الحالات تحقق التفاعل الديناميكي بين الصورة المتخيلة للمرأة الحديثة واسلوب عرضها. وهي تشكل بيت القصيد في طريقة تلقي القارئ العربي او الرجل العربي لها. فرجالنا يحملون مخيلة خصبة، وتلك القصائد تأخذهم الى بحر الخيال الذي يسبحون في لجته اصلاً. والمرأة العربية المحتقرة في الواقع اليومي، لا يمكن إلا ان تستبدل بها امرأة متوهمة من هذا الطراز، امرأة تراقب من خلف الابواب. وبمقدار ما كانت قصيدة نزار قباني ثورة في لغة الحب في اربعينات هذا القرن، استهلكت نفسها في وقت سريع وخاطف. وهذا لم يقلل جماهيريتها في كل الاحوال. ولا يعني ذلك ثبات تلك القصيدة على نمط واحد من الصور او المفردات، بل بقاءها على الموقف الشعري العام محتوى واسلوباً. يكتب قباني مطلع الثمانينات: "أريدك أنثى/ بزينتك المدرسية/ وأطواقك المعدنية/ وشعر طويل وراءك يجري كذيل الحصان/ وحمرة ثغر خفيفة/ ورشة عطر خفيفة/ ونهد أربيه مثل الطيور الأليفة/ وأمنحه التاج والصولجان". وفي العام 1948 كان كتب ما يلي: "ويقال عن ساقيك انهما/ في العري مزرعتان للفل/ ويقال اشرطة الحرير هما/ ويقال انبوبان من طل/ ويقال: شلالان من ذهب/ في جورب كالصبح مبتل/ هرب الرداء وراء ركبتها/ فنعمت في ماء... وفي ظل/ وركضت فوق الياسمين... فمن حقل ربيعي... الى حقل". ثبات الاشياء منذ "قالت لي السمراء" حتى آخر ديوان كتبه، اكثر من خمسين عاماً مضت على هذا الشاعر وهو لم يتحرك من مواقعه الاولى. فنزار قباني دخل التاريخ الشعري العربي محارباً مقداماً في لغة الحب الجديدة، وانتهى مستبسلاً من اجل الذود عن حقه في الاحتفاظ بتلك المكانة. وله كل الحق في البقاء عند حدود ذلك الموقع شاءت المرأة أم ابت. لأن صورة المرأة العربية بقيت على حالها في المخيلة الجماهيرية، على الرغم من تغير الاوضاع وقيام خلق كثير بتبني قضيتها. والشعراء العرب اليوم، في عودتهم المحمومة الى كلام الحب، لا يختلفون كثيراً عن جوهر ما تبناه نزار قباني قبل خمسين عاماً. كما ان الكثير من الشاعرات العربيات يكتب اليوم شعراً نزارياً، يجعلنا نؤمن بقانون ثبات الاشياء في عالمنا العربي. في الجزائر تذبح من الوريد الى الوريد، وتعود في مصر والسودان والعراق الى القيود. اما القراء العرب، فيسيرون وراء اقنعة الخيال، علّهم يظفرون بشال يسقط عن كتف امرأة، ليعيده اليها شاعر مثل نزار قباني.