لم يرتبط اسم شاعر بمدينة، مثلما ارتبط اسم الشاعر الراحل نزار قباني بمدينة دمشق التي يحتفل بها عاصمة للثقافة العربية للعام الحالي. هذه العلاقة الاستثنائية جسدها قباني في شعره ونثره، فأول قصيدة كتبها في أيلول سبتمبر عام 1939 كانت بعنوان"حنين إلى دمشق"أثناء مكوثه فترة قصيرة في ايطاليا التي زارها، آنذاك، في إطار رحلة مدرسية، أما آخر ما كتب فكان قصيدة"أنشودة حب لدمشق"في آذار مارس 1998، أي قبل رحيله بنحو شهر. بين هاتين القصيدتين اصدر نزار قباني 1923-1998 أكثر من أربعين مجموعة شعرية ونثرية، فكانت دمشق حاضرة، أبداً، في هذا النتاج الأدبي الذي تغنى بمدينة منحته عذوبة القصيدة، فلم يشأ الشاعر التنكر لها. يقول نزار:"سافرتُ كثيراً... وابتعدتُ عن دمشق موظفاً في السلك الديبلوماسي نحو عشرين عاماً، وتعلمت لغات أخرى كثيرة، إلا أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي وحنجرتي وثيابي. وظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع وفل وورد بلدي...". غير أن هذه العلاقة الحميمة التي ربطت بين الشاعر والمدينة لم تتجلَ في النشاطات المقامة في إطار احتفالية دمشق عاصمة للثقافة، فجل ما فعلته الأمانة العامة للاحتفالية تمثل في تكليف الناقد خالد حسين بإصدار كتاب عن الشاعر نزار قباني، وقد أنجز حسين هذا الكتاب، فعلاً، وصدر تحت عنوان"قنديل أخضر على أبواب دمشق"، وهو يضم دراسة نقدية عن نزار قباني، فضلاً عن مجموعة من الحوارات السابقة التي كانت قد أجريت مع الشاعر، إضافة إلى شهادات نقدية قيلت في تجربته الشعرية. وسوى ذلك يخلو برنامج الاحتفالية، التي تتزامن مع الذكرى العاشرة لرحيل قباني، من أية"أنشطة خاصة"، مع ملاحظة أن الإعلام السوري يقتبس مقاطع وأبياتاً للشاعر، ويوظفها في سياق الترويج الدعائي، السياحي لدمشق كعاصمة للثقافة. وجرى الحديث في أكثر من مناسبة حول عزم الجهات المعنية إقامة متحف للشاعر نزار قباني في المنزل الذي عاش فيه طفولته وصباه، غير أن هذه الأماني بقيت مؤجلة على الدوام، مثلما هي حال مختلف المشاريع الثقافية التي يعترض سبيلها الروتين الإداري والتسويف، فمنزل الأسرة الذي عاش فيه الشاعر قد بيع في مطلع الخمسينات من القرن الماضي إلى أسرة من عائلة نظام، وبدت الجهات المعنية، وعلى رأسها وزارة الثقافة، متقاعسة عن استعادة هذا البيت وتحويله إلى متحف يوثق لتجربة شاعر كبير كنزار، كما تفعل الدول التي تحترم رموزها الثقافية والأدبية، وبذلك أصبح الحديث عن إقامة مثل هذا المتحف، بعد مرور عشر سنوات على رحيل الشاعر قباني،"ضرباً من الوهم"كما يعبر في حديث ل"الحياة"شقيقه صباح قباني الإعلامي والدبلوماسي الذي أصدر، أخيراً، مذكراته بعنوان"من أوراق العمر"، وفيها يسرد جانباً من مسيرة حياته في الإعلام والفن والديبلوماسية. ولئن كانت هذه المذكرات تخص صباح قباني الذي يصغر نزار بخمس سنوات، إلا أنها توثق كذلك جانباً من حياة الشاعر الراحل، ذلك أن صباح يتحدث عن منزل الأسرة القديم، ويتحدث عن معمل والده توفيق قباني الذي كان يصنع الملبّس والشوكولاته، ويتحدث كذلك عن المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها، ومثل هذه المذكرات لا تخص صباح فحسب، بل كذلك تسلط الضوء على الأجواء والظروف التي عاش في كنفها الشاعر الراحل نزار قباني، وخصوصاً حين يتناول الحديث مراحل الطفولة والصبا. يقول صباح في هذا السياق:"منذ الصبا الأول كنت أرى فيه رائداً لي في كل التجارب الفنية التي مارسها: يرسم فأرسم معه، يعزف الموسيقى فأدندن معه، انتسب إلى كلية الحقوق فالتحقت بها، ودخل إلى عالم الديبلوماسية، فما لبثت أن لحقت به إلى وزارة الخارجية. ولكن حين أتى زمن الشعر توقفت عن المضي وراءه، فقد آثرت العافية بعد أن أدركت أن لا سبيل إلى اللحاق بقامته الشعرية العالية". يقع منزل أسرة الشاعر في أحد أحياء منطقة مئذنة الشحم في دمشق القديمة، في زقاق ضيق، ويقابل مدخله أحد مداخل بيت نظام المعروف، ويعترف نزار قباني في مذكراته بأن هذا البيت هو المفتاح إلى شعره، فيقول:"هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة... ثقوا أنني بهذا التشبيه لا اظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا. بوابة صغيرة من الخشب تنفتح، ويبدأ الإسراء على الأخضر والأحمر والليلكي... وتبدأ سيمفونية الضوء والظل والرخام". ثم يعدد أنواع الورود وأصنافها من كل شكل ولون، ليصل إلى القول:"ضمن نطاق هذا الحزام الأخضر ولدت، ونطقت كلماتي الأولى. كان اصطدامي بالجمال قدراً يومياً. كنتُ إذا تعثرتُ أتعثر بجناح حمامة، وإذا سقطت اسقط على حضن وردة". ويؤكد صباح قباني، بدوره، على أن هذا الفضاء الملون مهد أمام نزار الدخول إلى عالم الشعر، فيقول:"لقد بدأ تشكل الكون الشعري عند نزار قباني في دارنا الدمشقية التي أصبح يعرفها قراء نزار بكل تفاصيلها المطيبة والحميمة: باحتها السماوية التي كنا، ونحن أطفال، نتراكض حول بركتها الوسطى ذات النافورة الصادحة، ونتسابق على أدراجها الحجرية ثم نختبئ بين أغصان النارنج، والليمون، وعرائش الياسمين، والليلك، وفي حنايا القاعات الظليلة ذات الزخارف". وبالقرب من هذا المنزل الأليف، الغارق في رائحة الياسمين، يرقد رفات الشاعر في مقبرة الباب الصغير في حي السنانية في دمشق القديمة، ولدى زيارة هذه المقبرة يصعب الوصول إلى قبر الشاعر، فلا شيء بارزاً يدل على القامة الشعرية السامقة لهذا الشاعر سوى جملة محفورة على رخام القبر تقول:"هنا مثوى فقيد الشعر العربي نزار قباني"، وورود ذابلة تركها الزوار الذين يتوافدون على المقبرة بأعداد كبيرة، كما لمّح إلى ذلك حارس المقبرة حين سألتُه عن قبر نزار، إذ علق بلا تأفف:"يكاد يقتصر عملي على إرشاد الزوار إلى قبر نزار، رحمه الله"، وأضاف في بساطة من لم ينل من الثقافة شيئاً:"ليتني أعرف ما الذي فعله هذا الشاعر!". بعيداً من هذه الأجواء التي تضم رفات نزار وذكرياته، توجد لوحة زرقاء باسم الشاعر، معلقة على سور في احد شوارع حي أبو رمانة الدمشقي الراقي، إذ صدر مرسوم جمهوري بتسمية هذا الشارع باسمه قبل رحيله بأشهر قليلة، وكان وقع هذا الخبر ساحراً على أسماع الشاعر، فقد كتب، آنذاك، بعنوان"دمشق تهديني شارعاً"، واصفاً مشاعره، في حينه:"هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ هو هدية العمر، وهو أجمل بيت امتلكه على تراب الجنة... تذكروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع، لعبت فوق حجارته، وقطفت من أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره"، لكن الملاحظ أن اسم الشارع لم يتسرب كثيراً إلى أحاديث العامة، بل بقي اسماً رسمياً نخبوياً، قلما جرى استخدامه في الأحاديث اليومية المألوفة. وعلى رغم سلاسة قصيدة نزار، ورقتها إلا انه عرف بالتمرد، وبالاحتجاج على القوالب والتقاليد الجامدة. حتى في قصائده العاطفية الأولى ظهرت لدى الشاعر بذرة التمرد التي رصدت الجسد الأنثوي بنوع من الإباحية والحسية غير المعهودة، لكن هذه القصائد كانت تنطوي على دعوة الأنثى إلى التمرد على التقاليد. ففي ديوانه"يوميات امرأة لا مبالية"، يكتب نزار في مقدمته:"كتابكن، هو كتاب كل امرأة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل المعقد بالإعدام، ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها"، ثم يقول في إحدى قصائد الديوان:"ثوري/ أحبك أن تثوري/ ثوري على شرق السبايا والتكايا والبخور". ولعل القصيدة المشهورة التي نجحت في خلق خصومات كثيرة ضد الشاعر كانت قصيدة"خبز وقمر وحشيش"التي كتبها العام 1954 وانتقد فيها بنبرة واضحة وقاسية، الكسل والبلادة والغيبيات والخرافات التي تعصف بالشرق، ويقر نزار بأن هذه القصيدة"كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة وبين التاريخيين". ولم يكن نزار يفصل بين الجانبين الاجتماعي والسياسي، فقضية الجسد لدى نزار لا تقل أهمية، كما يقول عابد إسماعيل، عن قضية الوطن،"وتحرر الأول مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتحرر الثاني". وتبدى الهجاء السياسي على أشده في قصيدته"هوامش على دفتر النكسة"التي جاءت بلغة هجائية لاذعة، مفعمة بالأسى والخيبة. ويعزو النقاد التمرد لدى نزار قباني إلى عوامل عدة، منها ما يتصل برائد المسرح الغنائي أحمد ابي خليل القباني، عم والدته وشقيق جد والده، الذي يقول عنه نزار بأنه"هز باب"الباب العالي"، وهز مفاصل الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر"، ويضيف:"أعجوبة كان هذا الرجل. تصوروا إنساناً أراد أن يحول خانات دمشق التي كانت تزرب فيها الدواب إلى مسارح، ويجعل من دمشق المحافِظة، التقية، الورعة،"برودواي"ثانية". فاحتج عليه سكان المدينة ووصل أمره إلى الأستانة التي أمرت بنفيه إلى مصر. وكان لانتحار شقيقة الشاعر وصال، عقب حكاية حب تراجيدية، أثر بالغ على قصيدة نزار الساعية إلى عتق الأنثى من ربقة التقاليد البليدة. ولعل صورة تلك الفتاة المنتحرة ظلت البوصلة التي تهدي نزاراً إلى مكامن الجرح، الذي غدا وشماً عنيداً، طاغياً على صوره الشعرية المبتكرة، إن كان على صعيد قضية المرأة، أو على صعيد قضية الوطن.