توفي الشاعر السوري نزار قباني في الثلاثين من شهر نيسان أبريل 1998، واليوم إذ تحلّ الذكرى العاشرة لوفاته، يحقُ للنقد أن ينظر إلى نتاجه الشّعري متحرّراً من اللقب الشهير الذي وسم تجربة الشاعر واختصرها بكلمتين: شاعر المرأة من دون أن يكون مصيباً بالضرورة، ذلك لأنّه استمدّ اللقب من الموضوع المتواتر بكثرة في قصائد نزار، الأمرُ الذي يعتمُ إلى حدّ كبير على إسهام الشاعر في الشّعر عموماً، ويطيحُ بعض الأسئلة البسيطة: أي الشعراء هو هذا الشاعر؟ وإلى أي طبقاتهم ينتمي؟ ويبدو أن المقياس النقدي الحداثي كان أكثر قسوةً تجاه قصائد نزار الأولى، التي كانت خفيفةً جذلةً مشغوفةً بجمال المرأة وتعدّد صورها، ومشغوفةً كذلك باقتناص الجمال عبر لغة شعريّة متميزة لا يخطئها قارئ ولا ناقد. وبعد حينٍ قليل، كان الجو العربي السياسي ضاغطاً على الشاعر الرقيق الذي استجابَ فجأةً للمتغيرات من حوله وبدأ بكتابة القصائد السياسيّة المباشرة التي لا تختلف استراتيجيتها في القول عن الاستراتيجيّة المتّبعة في قصائد الحب، إذ تكمن قوتها في قدرتها على إضاءة المعنى سريعاً ومنذ القراءة الأولى، إلا أن"المباشرة"لدى نزار لم تكن يوماً نقطة ضعفه، بل على العكس تحولت إلى نقطة قوة في جذب الجميع إلى"جمهورية الشعر". أصابت قوّة الجذب هذه النقد بالارتباك، فشعر نزار قباني يظهرُ في جوهره مخالِفاً للمقاييس الحداثية الجديدة، التي اتجهت نحو الصرامة في الشّعر، فأنتجت مجموعةً من المعايير التي كانت تهدف إلى التخلص مرةً وإلى الأبد من الميوعة العاطفية الطاغية، وترغب في فتح الشّعر العربي الحديث على آفاق رحبة تعطي الشاعر حريةً كبيرة في الكلام عن هواجسه الخاصّة قبل أي شيء، وهي قد لا تجد هوىً كبيراً في نفوس قراء اعتادوا العواطف الجياشة الجماعية والأسلوب الكلاسيكي في قول الشعر، لذا فقد تعفّف النقد الحداثي عن الخوضِ في شعر نزار قباني، الذي يبدو أنّه لم يكن يصغي البتّة لاقتراحات معاصريه من الشّعراء، واستمرّ بمعزل عن حركة شعرية استثنائية ممتلئة بالأسئلة الصعبة والأجوبة المبتكرة وغير المتوقعة. تعفّف النقد إذن لأنّه عدّ قصائد نزار غير مستوفية شروط الكتابة الشّعرية الحداثيّة، فلا تغيير في اللهجة أو في النبرة، ولا يوجد اعتناء مهمّ يعتدّ به في بناء القصيدة بصورة جديدة، ولا رغبة في إعادة صوغ التراكيب بعيداً من الطرق القديمة، وثمّة تخفف من ضرورة الاشتغال على المعاني بصورة عميقة، ومن هذا المنظور الأخير تحديداً الذي يخصّ المعنى ظهرت قصائد نزار كأنّها تتكرر بلا توقف... من منظور النقد. أمّا نزار فقد قرّرَ أن يشهر"شعبيته"في وجه النقد الحداثي، مبطناً أقسى الأسئلة: من يقود الذائقة الشعرية الشعراء أم النقد أم الجمهور؟ ويظهرُ أن نزار كسبَ الجولة مع النقدِ الذي يظنّ أن الانتشار شعريّاً يشيرُ إلى الذائقة الشعريّة، وأن هذه الأخيرة فوق أي اعتبار. لكنّ انكفاء النقد"الجاد"عن الخوضِ في شعر نزار قباني ضخّمَ إلى حدّ كبير من عامل الانتشار هذا الذي تحوّل إلى"معيارٍ شعري"خبيثٍ، يساءل النقد نفسه، ويطيحُ أدواته. وهنا تكمن المفارقة، فالنقد لم يعد النظر ليسأل : هل الانتشار معيار شعري أصلاً؟ أصحيحٌ أن الانتشار يدلّ على الذائقة الشّعرية؟ وأي ذائقة هذه؟ اللغة البسيطة حينَ ننظرُ اليوم إلى شعر نزار قباني ونقارنه بالشعراء قبله وبعده ومن جايله، يتضحّ لنا أن نزار يقفُ خطوةً واحدةً أمام الشعراء الرومنطيقيين الياس أبو شبكة، الأخطل الصغير، علي محمود طه، وما شابه، فالمرأة الخلّب التي تظهرُ في قصائدهم، تختلفُ يقيناً عن امرأة نزار التي توحي بأنّها ملموسة، فهي أقرب إلى الواقعية، زد على هذا أنّ لغة نزار في قصائده تبدو بسيطة عفوية غير متكلّفة من نهوندٍ أم رجزْ/ أم من جراحات الكرزْ؟، وهو ما نجمَ عن فرادة نزار"فلا كلمة يمكن عدّها شعريةً وأخرى لا شعرية في قاموسه، خصوصاً أنه استطاع المزاوجة بين العامي والفصيح تلقائياً، مبتكراً لغته الخاصة، التي تتميز بدقّة الاستعمال الصحيح للكلمة - التي نتجت تواً عن مزاوجة الفصيح والعامي - في المكان الصحيح. ويستمدّ هذا الإنجاز أهمية مضاعفة كون المزاوجة تمت خفيةً. وفي الوقت نفسه، يقفُ نزار وراء شعراء الحداثة بخطوةٍ أو أكثر، فتراكيبه اللغوية وتشبيهاته وأسلوبه البلاغي، لا تصدم القارئ ولا تباغته البتّة، بل على العكس من ذلك، يبدو كأنّ القارئ يتوّقع ما سيقول نزار له عن المرأة التي يحبها، بل إن نزاراً سيمدّه بالقول المناسب في حال لم يسعفه اللسان الحرف يبدأ من عينيك رحلته / كلّ اللغات بلا عينيك تندثر. أكثر من ذلك، يمكنُ قارئ الواقعِ في الغرام أن ينتقي قصيدةً على مقاس حبيبته ووفقاً للون عينيها، فقصيدة نزار الخفيفة ذات اللغة الطريّة والنديّة تدخلُ القلوب كلّها لسببٍ بسيطٍ فات النقد الانتباه إليه: الإمتاع... وفي كلام آخر، كتبَ نزار قصائده وفي وعيه - أو لا وعيه سيان - الإصغاء إلى الناس وإلى همومهم اليومية، وربما كان الشاعر الوحيد الذي أصاب السر الخفي في أعماق النفس: خلجاتها وقلقها وتقلباتها آن تقع في الحب، فمن الذكر المزدهي بنرجسيته ليس يكفيك أن تكوني جميله/ كان لا بدّ من مرورك يوماً بذراعي/ كي تصيري جميله إلى العاشق المتيّم أنا هنا متابعٌ نغمةً / قادمةً من غابة البيلسان/ أنا هنا وفي يدي ثروةٌ/ عيناك والليل وصوت البيان، إلى غيرها من الصور الجريئة - الشهيرة الخاصّة بالنهد -، لا لأنّها تتغزلّ بالمرأة وجسدها، فهذا موضوع شعري تطرّق إليه الشعراء كلّهم تقريباً، بل لأنّها تقبل حالات الضعف الإنساني، فالعواطفُ المتقلبة ليست أمراً شائناً، والحبّ الخفيف الوزن على القلب، الذي لا تتنازعه الأهواء لتحوّله إلى حب كياني وجودي، تصلحُ كلّها لتكون موضوعاً في قصيدة تشبه الأغنية. ولعلّ هذا هو الإنجاز الأكبر في شعر نزار قباني: كتابة قصيدة سلسة ترضي الجماعة المتمسكة بذائقتها"اليومية". فالذائقة الشعريّة ليست كتلةً صمّاء بل هي رحبة : تتسع لما هو شعبي بسيط، ولما هو معقد مفذلك ومترف، وبينهما ثمّة حيّزٍ لذائقات متنوعة ومختلفة. وقد أصاب نزار الذائقة اليومية"الشعبية"ببراعة لا تضاهى، كأنّه كرّس نفسه لها و"لإمتاع"مريديها من طريقِ قول المعنى مباشرةً ومن دون أي إبطاء، فمنذ الجملة الأوّلى يعرفُ القارئ إن كانت قصيدة نزار في الحب أم في السياسة، وله أن يختار بينهما، وهو في كلا الحالين يضمن أن"يستمتع"بالشعر الذي يلبي ذائقته، لكأنّه كُتب خصيصاً لها. لكنّ ماذا لو تغيرت الذائقة؟ ما الذي سيحدث لقصائد الحبّ ولقصائد السياسة، بخاصّة أن هذه الأخيرة ارتبطتْ بتواريخ هزائم محدّدة؟ وفي كلام أدّق ماذا تبقى من شعر نزار الذي أعلى من شأن الذائقة اليومية"الشعبيّة"؟ وماذا تبقى من القصائد التي بدا تصنيفها سهلاً في الأعمال الشعريّة الكاملة بين قطبين يخفيان الشعر من خلالِ تركيزهما على الموضوع، فإمّا الحب وإمّا السياسة؟ يظهرُ أن الجواب يرد في القصائد التي تكرّرت: فتارةً نجدها مندسّة بين قصائد الحبّ، وطوراً نجدّها مع قصائد السياسة، لكأنّها تشيرُ من طرفٍ خفّي إلى تصنيفٍ واهٍ لا يأخذُ في الاعتبار إنجاز الشاعر المتمثلّ حكماً في لغته الشعريّة الآسرة:"هذي دمشق وهذي الكأس والراح / إني أحبّ وبعض الحبّ ذبّاح/ أنا الدمشقيّ لو شرحتمُ جسدي / لسال منه عناقيدٌ وتفّاح". فهذا المثال أو غيره من قصائد نزار الدمشقيّة، تستمدّ أهميتها من حبّ المكان لذاته لا بسبب المرأة ولا بسبب السياسة قطعاً. فالمشهد كلّه يحتضن المدينة وأزقتها القديمة تحديداً، ويتلكأ بمتعة في وصف البيت الدمشقي القديم، فقد شرّع نزار مديح البيت الدمشقي بعيداً من سكانه، وأفسح المجال كلّه للتغزلّ بالنافورة والقطة والياسمين، وهو ما انعكس بوضوح في اكتشاف الدمشقيين"فجأةً"لجمال بيوتهم. لكأنّ هذه العناصر الصغيرة نجحتْ في الاستمرار على رغم تغيّر الذائقة، على العكس من الصور المتعدّدة للمرأة في قصائد نزار، التي تبدو اليوم بعيدةً من صورتها الموجودة في قصائد الشعراء والشاعرات على وجه الخصوص، حيثُ تظهرُ المرأة مستقلة، غير مكترثة بمملكة الغزل، ومشغولةً أكثر بذاتها وبأهوائها. وفي الأمر مفارقة طريفة بين امرأتين : فامرأة نزار ستجد نفسها في مكانها الطبيعي: أغاني الحبّ، إذ ثمّة عبرة قوية لم يلتفت النقد إليها كثيراً، وهي في سهولة تحويل قصائد نزار الغزلية إلى أغانٍ، كوّنها خفيفة، مموسقة،ذات جملٍ قصيرة، تصيبُ المعنى، وتتقن الدخول إلى القلب والأذن معاً. أمّا المرأة الثانية فستجد نفسها في مملكتها: في الشعر الحديث، فقد حرّرها نزار من خلال الإسراف في الغزل. أمّا الإسراف في القصيدة السياسيّة المباشرة فقد أظهر عيوبها مرّةً وإلى الأبد.