هل الديموقراطية، وعودة الرئيس المدني المنتخب الى السلطة، هي السبب الحقيقي والوحيد، لهذه الحرب الصغيرة في سيراليون؟ الاقتتال الداخلي في شوارع فريتاون العاصمة والمدن الثلاث الاخرى بو وماكيني وكوادو، يجيب على السؤال بنعم كبيرة. فالهدف من كل ما حصل ويحصل، هو طرد مجموعة الانقلابيين من ضباط الجيش السيراليوني بزعامة الكولونيل جوني بول كوروما، وعودة الرئيس المدني المنتخب شعبياً أحمد تيجان كباح في 17/3/1996 الى الرئاسة. لكن قفزة صغيرة خارج حدود سيراليون الضيقة، والنظر الى تفاصيل ما يجري في افريقيا، خصوصاً منذ سقوط نظام موبوتو في زائير سابقاً، وترتيبات الاوضاع في منطقة البحيرات الكبرى والمزاحمة الاميركية لفرنسا، تجعل هذه الحرب الصغيرة تبدو وكأنها قمة لجبل الجليد فقط، وهي بذلك حروب عدة في حرب واحدة، مثلها في ذلك مثل كل الحروب الداخلية التي جرت هنا وهناك. تعيش سيراليون وضعاً غير مستقر مثل معظم دول القارة السوداء، منذ العام 1991. وكانت "الجبهة الثورية المتحدة" بقيادة العريف فوداي سنكوح قادت حرب عصابات محدودة سرعان ما اتسعت دائرتها مع انضمام جنود متمردين يطلق عليهم اسم "السوبل". ومنذ العام 1994، اتخذت هذه الحرب، اتجاهاً تدميرياً، من عمليات قتل وتشويه للجرحى، وقطع طرق وفرض ضريبة خوة على الماس والذهب. وكل ذلك لافتقاد هذه "الجبهة" للمشروع السياسي والخط الفكري الذي يؤطر حركة مقاتليها. لكن هذه "الجبهة" الفوضوية، سرعان ما وجدت الدعم من "الجبهة القومية الوطنية في ليبيريا"، بقيادة تشارلز تايلور، الرئيس الحالي لليبيريا، فامتزجت الفوضى عبر الحدود لتتكامل عمليات القتل والتهجير عبر الحدود. وأدى ذلك كله، الى جعل سيراليون إحدى أفقر خمس دول في العالم. وسيراليون، مثل غالبية دول القارة السوداء، يحكمها الجيش وضباطه، ومن خلالهم القبيلة المحظوظة بالسلطة. ومن الطبيعي ان هذا الوضع قاد الى انقلاب عسكري، اطلق عليه "ثورة القصر"، في 16/1/1996، اطيح فيها بنظام الكابتن فالنتين ستارسر. وذهب بذلك الاتفاق المعقود مع النظام السابق بالانتقال التدريجي نحو الديموقراطية واجراء انتخابات عامة. اذ كانت الخطوة الاولى لنظام الجنرال جوليوس اكادا بو تأجيل الانتخابات. لكن دخول المتمردين على خط المفاوضات والضغوط الخارجية اجبرته على اجراء الانتخابات في 26/2/1996. والمدهش ان الشعب السيراليوني، المهمش والخاضع للرعب، خرج حاملاً السلاح في شوارع فريتاون ليحمي صناديق الاقتراع، فسقط اكثر من ثلاثين قتيلاً ثمناً لذلك. لكن الانتخابات جرت وفاز رجل المعارضة الاول احمد تيجان كباح 17/3/1996 وهو أول رئيس مسلم للبلاد، من عائلة مسلمة شرق البلاد، نشأ ودرس في مدرسة مسيحية، وتزوج كاثوليكية، ودرس المحاماة ومارسها في بريطانيا. وهو مؤسس اقدم الاحزاب السياسية في البلاد "حزب شعب سيراليون"، في العام 1951. لكن هذه النتيجة لم ترق لبعض ضباط الجيش فقاموا بانقلاب جديد، وضعوا فيه البلاد على سكة الحصار والموت، بقيادة الكولونيل جوني بول كوروما. لكن الاوضاع تغيرت في العالم وحتى في افريقيا، لذلك لم يلق الانقلاب فقط الادانة، بل تحول الى هدف كبير لتأكيد تجربة نجاح قوة السلام الافريقية المشكلة حديثاً، بهدف الحد من التدخلات الخارجية العسكرية، سواء باسم حماية ارواح الرعايا الاجانب او بسبب اتفاقات دفاعية. وفي اجتماع لدول المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا التي تضم كلاً من نيجيريا وساحل العاج وغانا وغينياوليبيريا، في كوناكري، تقرر وضع خطة سلام يتعهد فيها الانقلابيون باعادة الرئيس المنتخب كباح الى السلطة في 22 نيسان ابريل 1998. وحتى موعد تنفيذ الاتفاق خضعت سيراليون لعزل سياسي كامل تمثل بسحب جميع السفراء الاجانب بمن فيهم السفير اللبناني من فريتاون، وفرض عقوبات اقتصادية. وكان يمكن ان يستمر الهدوء حتى شهر نيسان ابريل المقبل موعد تنفيذ الاتفاق، لولا مسارعة المجموعة الاقتصادية لغرب افريقيا الى التأكيد بأن الانقلابيين الجدد بقيادة الكولونيل كوروما، استغلوا الفترة الانتقالية المحددة حسب اتفاق السلام، لتخزين السلاح وتدريب الرجال تمهيداً للعصيان وعدم تنفيذ الاتفاق وفرض امر واقع. واكتمل هذا الاتهام، على لسان نيجيريا، بتفجير لغم، قتل فيه 11 شخصاً. فكان الهجوم العسكري لقوات "ايكوموغ" لحفظ السلام في 10/2/1998. وقوام القوة حوالى 11 ألف جندي غالبيتهم من نيجيريا بقيادة الجنرال النيجيري تيموثي سيلبيدي والقائد الميداني المباشر الكولونيل ماكسويل كوبي. وقد نجحت هذه القوة الافريقية ذات الغالبية النيجيرية في طرد وتشتيت الانقلابيين، من خلال ملاحقتهم على الارض وفي السماء. اذ عمد الطيران النيجيري الى ملاحقة طائرتي هليكوبتر تقل 25 من قيادات الانقلابيين حتى ليبيريا حيث جرى اعتقالهم. وداخل سيراليون انضم الكاماجوز "الصيادون" الى قوة السلام، فاعملوا في الضباط والجنود المؤيدين للانقلاب القتل الى درجة احراق بعضهم احياء في شوارع فريتاون، وسرعان ما امتد القتال الى المدن الكبرى الثلاث، ودفع التجار اللبنانيون الذين يسيطرون على قطاع التجارة ثمن ذلك اذ جرى احراق متاجرهم ومكاتبهم واضطروا للهرب الى خارج البلاد. ويبدو ان قائد الانقلابيين الكولونيل كوروما نجح بالافلات من أيدي النيجيريين، اذ لم يكن بين الضباط المعتقلين. ومجرد اعلان قائد العمليات النيجيري الكولونيل ماكسويل كوبي، ان المتمردين الذين بقوا على قيد الحياة هربوا الى الغابات فمعنى ذلك ان الاوضاع في سيراليون تحولت الى قنبلة موقوتة تحتاج الى حل سياسي وعدم الاكتفاء بالحل العسكري. من جهته اكتفى الرئيس العائد احد كباح، بتعيين هيئة لادارة البلاد مشكلة من عشرة أشخاص حتى عودته غير المحددة بينهم نائبه جودمبي وقائد العمليات لقوات "ايكوموغ" الكولونيل النيجيري كومبي. وبدت الاشارة الاولى الى استقرار الاحوال في فريتاون العاصمة، كما اكدت مختلف وسائل الاعلام الغربية، عودة بعض التجار اللبنانيين الى فتح متاجرهم، تمهيداً لعودة اخوانهم الذين هربوا اثناء عمليات النهب والقتل. ويبدو ان اللبنانيين - الافارقة، قد استخدموا نفوذهم لدى الرئيس النيجيري الجنرال اباشا حتى تتم حمايتهم. وشكل هؤلاء التجار لجنة من الجالية في الداخل والخارج لضمان حقوقهم وأمنهم. العملاق النيجيري والغريب، وربما العجيب، في كل ما جرى، ان نيجيريا، وهي اكبر الدول الافريقية سكاناً حوالى 120 مليون نسمة، والتي ارسلت جنودها الى سيراليون لطرد الانقلابيين واعادة الرئيس المنتخب أحمد كباح، تخضع لنظام عسكري بقيادة الجنرال ساني اباشا، الذي ألغى الانتخابات في العام 1993 وسجن قادة الأحزاب وأسقط مواقع القيادات القبلية والروحية عن زعماء القبائل، وحكم بالاعدام على الكاتب المعروف لين ساروويوا وأعدم زعيم قبائل الموزوب في منطقة اوغوني النفطية. وباختصار، فإن هذا النظام لم يترك فرصة الا واستغلها ولا قيادة الا وقمعها ولا امكانية لاستنشاق الحرية الا وخنقها، الى درجة ان بريطانيا "الام الحنون" لنيجيريا بدت وكأنها تخلت عن النظام، اثناء مؤتمر دول الكومنولث، وبهذا تصل التناقضات الى قمتها، من خلال مسارعة نظام عسكري وديكتاتوري الى انقاذ الديموقراطية في بلد مجاور له. ومن الواضح، ان هذه التضحية" النيجيرية بارسال قوات لتقاتل فوق ارض بعيدة نسبياً عنها، لأنها ليست على حدودها، لم تتم من اجل "عيون" الديموقراطية فقط وانما لتتجاوزها بكثير، فيتداخل بذلك الاقليمي بالدولي. فالعزلة السياسية التي تعيشها نيجيريا، لم تحبط الجنرال اباشا، بل على العكس دفعته الى الهجوم كوسيلة للدفاع. وقد استثمر ضخامة حجم البلاد وعدد سكانها وثروتها النفطية لتطوير هجومه الوقائي. ونجح في استثمار المتغيرات في القارة الافريقية، خصوصاً في المنطقة الممتدة من خليج غينيا وصولاً الى رأس القوس في غرب افريقيا اي السنغال، لمصلحته. وذلك في التحول الى اليد الحديد ورأس حربة قوات السلام الافريقية. ولا شك في ان نجاح التجربة في سيراليون سيعزز مواقع نيجيريا افريقياً ودولياً، لتتحول الى لاعب اقليمي لا يمكن استبعاده من اي لعبة سياسية ولا الاستغناء عن خدماته. ومما ساهم في اندفاع الجنرال - الرئيس اباشا الى لعب هذا الدور، الثروة النفطية التي تبلغ حوالى 1،2 مليون برميل يومياً، والمتوقع ان يرتفع حجمها الى 5،2 بعد العام 2000، وأدت هذه الثروة، الى فتح النظام حرية حركة واسعة، لأن مشاريع التنمية والتطوير استجلبت العروض، من فرنسا الى الصين مروراً حتى ببولونيا التي تعهدت اعادة تنشيط هيئة تصنيع بحرية. اما الصين فقد اخذت على عاتقها اصلاح قطاع السكة الحديد وتطويره. ويدرك الرئيس اباشا أنه يملك عنصرين اساسيين هما الرجال والمال، ليتحول الى قوة اقليمية لها حضورها ودورها، الامر الذي يدفعه للذهاب بعيداً في طموحاته في الوقت المناسب. اي في الوقت الذي تعيش فيه افريقيا زمن التحولات واعادة رسم الخرائط على وقع التنافس الفرنسي - الاميركي. ففرنسا التي تعيش مرحلة افريقية مهزوزة، اساسها "الهجوم" الاميركي على هذه القارة التي بقيت بعيدة عنها حتى السنوات القليلة الماضية، اعادت صياغة سياستها في القارة. ومنذ وصول الرئيس جاك شيراك العارف جداً بملف القارة واسرار العلاقات بين بلاده ودولها بسبب علاقاته المتينة والعميقة مع "مسيو افريقيا" فوكار الذي توفي العام الماضي، رأى في نيجيريا، ورقة غنية يمكن المراهنة عليها على رغم تاريخها الانكلوسكسوني، ومما دفعه الى ذلك، موقف بريطانيا المتصلب من الجنرال اباشا. لذلك سعى الرئيس شيراك الى اصلاح ما فسر في العلاقات تاريخياً، ذلك ان العلاقات مع نيجيريا ساءت منذ اتخاذ الرئيس شارل ديغول موقفاً مؤيداً لانفصاليي بيافرا. ويبدو ان اختيار شيراك هذه المصالحة مع نيجيريا جاء في الوقت المناسب، فاستطاع استثماره جيداً في العامين الماضيين. نيجيريا البلد الذي تعتبر الانكليزية لغته الاولى على رغم وجود لغات محلية عدة، ذهب في معاتبته بريطانيا، بالوقوف ضد اللغة الشكسبيرية، وفتح الابواب امام لغة موليير ففتح ثلاث مدارس لنشر الفرنسية، واحدة في ابوجا التي تنتقل اليها الهيئات الصناعية والسياسية تدريجاً لتصبح العاصمة الفعلية بدلاً من لاغوس. وبعيداً عن اللغة والثقافة فان الجنرال اباشا، حارب لندن ووثق علاقاته مع واشنطن. وقد ادى تعيين سفير اميركي جديد مكان السفير السابق المعروف بعلاقاته مع المعارضة الى تطوير هذه العلاقات. اما باريس، فانها حولت اللغة الفرنسية الى رأس حربة لشركتي النفط "الف اكيتان" و"توتال" للدخول الى حقول النفط في نيجيريا والاستثمار فيها. كما عمدت الى انقاذ مشروع الغاز في بوتي بعدما تخلت ايطاليا عنه تحت ضغوط لوبي البيئة فيها، وغيرت عملية نقل الغاز باتجاه مقاطعة برتانيا في فرنسا. ولمعرفة حجم المشروع فان ما تحصله نيجيريا من المشروع يبلغ مليار دولار سنوياً، وعلى رغم انخفاض سعر النفط هذا العام وانعكاس ذلك على مشاريع التنمية فإن عدد هذه المشاريع هو 800 مشروع، سيكون لفرنسا حصة كبيرة منها بعد اعادة فرزها بما يتناسب مع انخفاض سعر النفط. ويبدو ان فرنسا ستتابع "هجومها" الجديد في القارة الافريقية بعد خروجها من منطقة البحيرات الكبرى نتيجة سقوط الماريشال موبوتو باتجاه تحصين مواقعها في منطقة غرب افريقيا، معتمدة في ذلك على مبدأين، هما: استبدال "العلاقات الابوية مع افريقيا" التي سادت منذ استقلال دولها في الستينات ب "علاقات اخوية قائمة على المساواة". الانسجام مع الرغبة الافريقية عموماً بأن لا تحتكر باريس النفوذ في المنطقة وهو ما عبر عنه الرئيس المالي بوضوح وبحضور رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان. وقد رد جوسبان التحية بمثلها فاختصر موقف بلاده بالقول: "نحن نعارض عالماً احادي الاستقطاب يكون خاضعاً بشكل حصري لتأثير دولة واحدة أياً تكن قوتها، وبالتالي لست منزعجاً من ظهور نفوذ آخر في مناطق العالم، ومنها افريقيا حيث يوجد نفوذ فرنسي". الدولة الافريقية المتحدة الولاياتالمتحدة القادم الجديد الى القارة تزاحم فرنسا "من كيسها"، وهي في جميع الاحوال اذا لم تربح فانها لا تخسر، اذ ليس لها اي رصيد تخسر منه. وهي في الواقع تربح حالياً بسرعة كبيرة، فعندما يقول رئيس مالي عمر كوناري بحضور ليونيل جوسبان انه بحث خلال زيارة رسمية لواشنطن عن شريك جديد وعن دولة تصغي بشكل افضل من فرنسا لمشاكل بلاده وان هذه الدولة هي الولاياتالمتحدة، فان معنى ذلك ان العم سام حقق ضربة قاتلة لفرنسا لأن مالي تعتبر من الدول الفرنكوفونيةالاساسية في الساحل الافريقي. وفي متابعة لتدرج المنافسة الاميركية لفرنسا يلاحظ ان باريس قبلت في اقل من سنة واحدة التسليم لواشنطن بمكان لها على مقعد واحد كان لها في السابق. وبين رفض وزير الخارجية الفرنسي السابق هيرفيه دوشاريت عدم رفع كأسه تحية لوزير الخارجية الاميركي السابق وارن كريستوفر لدى وداعه في حفلة لحلف الاطلسي بسبب خلافات عدة أبرزها تبادل الحملات حول افريقيا، وبين ترحيب جوسبان بدور واشنطن حالياً، تبدو الاخيرة الرابح الكبير. وتستند واشنطن حالياً بعد معركة البحيرات الكبرى الى مجموعة رؤساء يطلق عليهم اسم "المجموعة الاميركية" وهم رؤساء كل من اوغندا ورواندا واريتريا والكونغو الديموقراطي، بزعامة الرئيس الاوغندي يوري موسوفيني صاحب مشروع الدول الافريقية المتحدة. وهذا الربح الاميركي يمهد لجولة الرئيس بيل كلينتون في افريقيا، هي الاولى لرئيس اميركي في القارة. ان خلط الاوراق مستمر في افريقيا، على وقع التزاحم الفرنسي - الاميركي، وظهور قوى اقليمية ابرزها ثلاث هي نيجيريا والكونغو الديموقراطي زائير سابقاً وجنوب افريقيا. واذا كانت سيراليون تعيش كل ذلك على وقع مصادمات مسلحة، فان غيرها من الدول الافريقية ستعيش حالات مماثلة او شبيهة باسم الديموقراطية.