طرحت المملكة العربية السعودية في القمة الخليجية التاسعة عشرة التي اختتمت اعمالها اخيراً في أبو ظبي، رؤية شاملة لمواجهة التحديات الراهنة التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي، ودعت الى "التعامل بجدية مع ازمة انهيار اسعار النفط وتأثيرها على اقتصاديات دول المجلس". وأكد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني، ان "اقامة اقتصاد خليجي موحد هي السبيل الوحيد للبقاء في غابة المصالح الاقتصادية". ودعا الى "الاسراع في ازالة العقبات التي تحول دون اقامة اقتصاد خليجي قوي" وأعرب عن امله في ان "يشهد لقاء القمة المقبلة السوق الخليجية الموحدة". وبما ان الاتحاد الجمركي الخليجي يؤدي الى قيام سوق خليجية مشتركة حجمها حوالي 70 مليار دولار، فقد اتفق قادة دول مجلس التعاون الخليجي في قمة أبو ظبي الاخيرة على البدء بتنفيذ التعرفة الجمركية الموحدة في اول آذار مارس 2001، بناء لاقتراح وزراء مالية هذه الدول في اجتماعهم المنعقد في جدة في 28 آب أغسطس 1998. ويشكل توحيد التعرفة الجمركية وانشاء اتحاد جمركي خليجي احد ابرز الطموحات الخليجية في هذا المجال حيث تنص الاتفاقية الاقتصادية الموحدة الموقعة في 11/11/1981 في مدينة الرياض على ضرورة العمل على وضع حد ادنى لتعريفة جمركية تطبق تجاه العالم الخارجي. ومنذ ذلك الوقت تعمل الادارات المعنية في دول المجلس لتحقيق هذا الهدف لشعورها بأن قيام سوق خليجية مشتركة وتحقيق التكامل الاقتصادي فيما بينها يقتضي توحيد التعرفة الجمركية على السلع الاجنبية وقيام اتحاد خليجي. وكانت دول المجلس قد وافقت في أيلول سبتمبر 1983 على تبني تعريفة جمركية مع العالم الخارجي حدها الادنى 4 في المئة وحدها الاقصى 20 في المئة. وكان من المقرر ان يتم توحيد هذه التعرفة مع نهاية 1988، الا ان هذا الامر لم يتحقق، بل ان هذه التعرفة نفسها ذات الحدين، الاعلى والادنى، لم يتم الالتزام بها كلياً لأن تعرفة بعض دول المجلس تقل عنها او تتخطاها، وفي العام 1984 اتفقت دول المجلس على قائمة البضائع التي تستثنى من التعرفة الجمركية على الواردات الا ان بعض الدول عاد وقلص هذه القائمة. مع العلم ان عدم توحيد هذه التعرفة من شأنه ان يضعف مسيرة التكامل الاقتصادي بين دول المجلس ولا يساعد على زيادة التبادل التجاري بينها، لذلك لا بد لدول المنطقة من توحيد تعريفتها الجمركية مع العالم الخارجي، كأن تتفق مثلاً على ان تكون هذه التعرفة الجمركية الموحدة عبارة عن متوسط التعرفات الجمركية السائدة حالياً في الدول الاعضاء. وعلى رغم وجود بعض الاختلاف في وجهات النظر، فإن القمة الخليجية اكدت في دوراتها المتتالية اهمية الاسراع في تنفيذ الخطوات اللازمة لاستكمال السوق الخليجية المشتركة، وأهمها الوصول الى توحيد التعرفة الجمركية تجاه العالم الخارجي، خصوصاً ان تطوير مجلس التعاون الخليجي لم يعد يطرح من منظور خدمة المصالح الداخلية فحسب، وانما من منطلق ان التكتل الاقتصادي عموماً، يعطي فرصة الاستفادة من مزايا "الغات" وتقليل الخسائر المتوقعة. وبعد سلسلة اجتماعات، تمكنت لجنة التعاون المالي والاقتصادي لدول المجلس من انجاز تصنيف اكثر من 88 في المئة من مجموع السلع المتفق على تصنيفها، وقد اكد ذلك الشيخ جميل الحجيلان الامين العام لمجلس التعاون الخليجي الذي اشار الى تصنيف 1140 سلعة ضمت قوائم الاعفاءات الجمركية من اصل 1286 سلعة. خطورة التبعية التجارية وتبرز اهمية اعتماد تعرفة جمركية خليجية موحدة، من خلال خطورة التبعية التجارية التي تعتبر من اخطر انواع التبعيات في العلاقات الدولية كون التجارة من اهم الاقنية لتدفق الاموال بين الدول المتعاملة، لتبرز اهمية "الحروب التجارية" بين التكتلات الدولية وتتضاءل معها الفرص لخلق نظام تجاري دولي تتدفق عبره السلع والخدمات من دون عائق او حاجز، وتتساوى فيه الفرص لفائدة الجميع. واذا كانت التجارة المدخل الاساسي للعمل العربي الاقتصادي المشترك، فإن تنمية التجارة الخارجية تحتل مكان الصدارة بين قضايا التنمية التي تشغل بال القيادات السياسية والاقتصادية في الوطن العربي، خصوصاً بعدما اتجه معظم الدول العربية نحو دعم القطاع الخاص واعتماد اقتصاد السوق، فضلاً عن التركيز على تخفيف القيود التجارية ودعم القدرة الانتاجية والتصديرية، لا سيما في مجال "التجارة البينية" التي لا تزال منخفضة حيث تبلغ نسبة الصادرات 8 في المئة من مجمل الصادرات العربية، والواردات 9 في المئة من مجمل الواردات العربية. اما بالنسبة الى حصة دول مجلس التعاون الخليجي في التجارة العربية، فإن البيانات المتاحة تشير الى ارتفاع نسبة الصادرات والواردات الخليجية الى اجمالي الصادرات والواردات العربية البينية، وتصل الى 59 في المئة بالنسبة الى الصادرات و80 في المئة بالنسبة الى الواردات، لكن الدول الصناعية تستأثر بحوالي 70 في المئة من الصادرات الخليجية، وتستورد دول مجلس التعاون الخليجي 79 في المئة من اجمالي وارداتها من هذه الدول. وهكذا يبدو ان وضع التجارة الخليجية البينية ليس افضل من وضع التجارة العربية البينية، وقد اشارت الدراسات الى ان نسبة التجارة الخليجية "البينية" لا تتجاوز حالياً العشرة في المئة، لذلك تراهن الدول الخليجية على الاتحاد الجمركي المرتقب قيامه لزيادة حجم التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون. سوق خليجية مشتركة وأشار خبراء اقتصاديون الى ان توحيد التعرفة سيؤدي الى قيام جدار جمركي مشترك سيولد سوقاً خليجية مشتركة تكون الاولى والاكبر من نوعها في الشرق الاوسط. وأوضح تقرير حديث اصدرته منظمة الخليج للاستشارات الصناعية ان تلك السوق المشتركة ستكون من اكبر الاسواق الاستهلاكية في العالم، اذ تقدر وارداتها السنوية بأكثر من 70 مليار دولار كما انها تشكل اكبر كيان نفطي في التاريخ. وأضاف التقرير ان توحيد التعرفة الجمركية سيدعم موقف دول مجلس التعاون الخليجي في المفاوضات مع الاتحاد الاوروبي للتوصل الى اتفاق تجارة حرة يتيح للمجلس الوصول الى الاسواق الاوروبية على اساس المعاملة بالمثل. واضافة الى دور الاتحاد الجمركي في قيام السوق الخليجية المشتركة، فإن خبراء المال والاقتصاد اكدوا ان طرح العملة الخليجية الموحدة، سيكون شرطاً لقيام هذه السوق، تنفيذاً للاتفاقية الاقتصادية الموحدة التي ابرمت بين دول مجلس التعاون الست العام 1981، وهي تشير في مادتها العاشرة الى تحقيق تكامل نقدي تمهيداً لتوحيد العملة الخليجية، لتكون متممة للتكامل الاقتصادي المنشود. وفي اطار السعي لتحقيق هذا الهدف درس حكام المصارف المركزية في دول المجلس من خلال سلسلة اجتماعات بدأت في أيلول سبتمبر 1992 اتخاذ خطوات تنفيذية، تهدف الى ربط العملات الخليجية بسلة عملات واحدة ووضع "مثبت مشترك" لها، تمهيداً لإصدار عملة خليجية موحدة. هل سيتحقق هذا الهدف؟ وما هي صعوباته؟ في الواقع ينقسم وضع عملات دول مجلس التعاون الخليجي الى ثلاثة انواع: الاول، يرتبط بسلة عملات خاصة، مثل الدينار الكويتي. الثاني، يرتبط بالدولار الاميركي، مثل الريال العماني. الثالث، يشمل دول الخليج الباقية وهي السعودية والبحرين والامارات وقطر، وتربط عملاتها بسلة حقوق السحب الخاصة مع المحافظة على مرونة محدودة في مقابل الدولار. واذا كانت المادة العاشرة من الاتفاقية الاقتصادية الموحدة لدول الخليج تهدف الى قيام تكامل نقدي، تمهيداً لإصدار عملة خليجية موحدة، فإن معظم الخبراء الاقتصاديين الخليجيين يرى ان التكامل النقدي يتطلب وجود اسعار صرف ثابتة بين عملات الدول الاعضاء والسماح ببعض التقلبات حول اسعار التعادل، مع الاشارة الى ان تثبيت اسعار الصرف يماثل وجود عملة موحدة، حيث يتطلب كلاهما سياسة نقدية موحدة. من هنا يتبين ان وجود اسعار صرف مستقرة وعلاقات توازن بين عملات الدول الاعضاء يجعل من السهل تثبيت اسعار الصرف بين هذه العملات، الامر الذي يعتبر شرطاً ضرورياً لتحقيق التعاون ومن ثم التكامل النقدي. وقد تبين من نتائج دراسات وضعها خبراء خليجيون ان "السلاسل الزمنية" لكل من الاسعار المحلية وأسعار الصرف الاسمية في كل من البحرينوالكويت والسعودية، متكاملة من الدرجة الاولى حيث تحتوي على "جذر الوحدة". كما دلت اختبارات التكامل المشترك على وجود علاقة توازنية طويلة الاجل بين الاسعار المحلية لكل من البحرين والسعودية، وكذلك بين سعر الصرف الاسمي للريال السعودي في مقابل الدينار الكويتي، كما تم التوصل الى علاقة مشابهة بين سعر صرف الدينار البحريني في مقابل الدينار الكويتي والنسبة بين الاسعار المحلية في كل من الكويتوالبحرين. ومن هنا يجمع الخبراء على امكانية التكامل النقدي بين هذه الدول، ومن ثم بين دول مجلس التعاون، حيث ان وجود التكامل المشترك يعني ان هذه المتغيرات تتحرك بشكل لا يجعلها تبتعد كثيراً عن بعضها البعض في الاجل الطويل، مما يسهل من عملية الربط فيما بينها. وفي هذا المجال يعترف الخبراء في الوقت نفسه بأن علاقات التوازن وحدها لا تكفي لتحقيق التكامل النقدي، فالامر لا يزال يتطلب التخلي عن بعض الاستقلالية التي تتمتع بها كل دولة حالياً في تصميم سياستها النقدية وتنفيذها. كما ان وجود علاقات التوازن بين الاسعار المحلية وبين اسعار الصرف، يعني ان الوضع في حالة التكامل النقدي لن يختلف بشكل جذري عن الوضع القائم حالياً. ومما يسهل الوصول الى هدف التكامل النقدي ان تعمل دول مجلس التعاون الخليجي على تنمية التجارة الخارجية فيما بينها، حيث ان ازالة العوائق التي تعترض سبيل التجارة، يأتي في المقام الاول، خصوصاً ان زيادة التبادل التجاري من شأنه ان يساعد على تحقيق الربط العملي بين اسعار الصرف من دون الحاجة الى فرض ربط نظري بقرار سياسي