قوارب الموت ليست الا الوجه الآخر لظاهرة اسمها "الهجرة السرية"، حيث يلجأ الباحثون عن العمل من المغرب وافريقيا، ومن آسيا كذلك، بعدما عثر اخيراً على مهاجرين باكستانيين، الى المغامرة وركوب الاخطار للوصول الى الضفة الاخرى. غير ان الرياح لا تجري دائماً كما تشتهي "القوارب"، فكثيراً ما يكون قعر البحر نهاية الرحلة التي تتم ليلاً، ومن يحالفه الحظ ولا تقلب الامواج قاربه سيجد نفسه في قبضة اجهزة خفر السواحل، ويتم اقتياده الى ثكنة الحرس المدني ثم الى مركز الشرطة لانجاز الاجراءات الادارية والقانونية الخاصة بترحيله الى المغرب ليحاكم بتهمة الهجرة غير القانونية. وقد باتت مألوفة اخبار غرق المراكب التي تنقل المهاجرين السريين، في مياه المتوسط، أو من يبتلعهم البحر فلا يعثر لهم على اثر، ومع ذلك تستمر الظاهرة، وتستمر "قوارب الموت"، وهي غالباً ما تكون زوارق مطاطية او قوارب صيد صغيرة يطلق عليها الاسبان اسم "باتيرا"، على رغم صرامة الرقابة البرية والبحرية التي تقوم بها الاجهزة المغربية، واعتقال الكثيرين من الوسطاء المتورطين في هذه التجارة السوداء. وتفيد الاحصاءات المتوافرة ان العام 1997 عرف تصاعداً في الهجرة السرية بلغت نسبته 100 في المئة، فخلال الفترة بين كانون الثاني يناير وآب اغسطس الماضيين ضبط الحرس المدني الاسباني 110 قوارب في مقابل 56 قارباً في العام 1996، وبلغ عدد المهاجرين الذين اعتقلوا حتى نهاية ايلول سبتمبر 16 ألفاً و711 شخصاً بينهم خمسة آلاف و397 مهاجراً مغربياً، فيما تجاوز عدد الذين ماتوا غرقاً 80 شخصاً غالبيتهم من المغاربة. ويؤكد هذا العدد الهائل تورط شبكات منظمة استطاعت ان تطور نشاطها في مضيق جبل طارق، كما تؤكد تورط بعض اصحاب مراكب الصيد في منطقة الاندلس الذين فضلوا، كما يبدو، "اصطياد" المهاجرين على صيد السمك. وكان لافتاً تصريح خوسي توريس مورتادو مندوب الحكومة الاسبانية في قادس بان ارتفاع عدد المهاجرين السريين الذين القي القبشض عليهم عائد الى "تعدد العصابات المتخصصة في النقل غير القانوني للاشخاص والتي لها امكانات لوجستية مهمة"، لانه بذلك يدحض ما تروجه وسائل الاعلام الاسبانية عن وقوف المغرب وراء ظاهرة قوارب الموت، بدعوى محاولة الرباط الضغط على الاتحاد الاوروبي للحصول على مساعدات اقتصادية، أو خلق المشاكل لحكومة مدريد بسبب استمرار احتلال مدينتي سبتة ومليلية، وهو الموقف نفسه الذي عبر عنه خوسي شاميزو "محامي الشعب" في الاندلس الذي طالب بانزال اقصى العقوبات لمكافحة الهجرة السرية. وينص القانون الجنائي الاسباني على العقاب في قضايا نقل المهاجرين السريين باعتبارها جريمة ضد حقوق العمال ويحكم على مقترفيها بالسجن لمدة تتراوح بين ستة اشهر وثلاث سنوات وغرامة، بينما لا يحاكم المهاجر السري بأية تهمة، الا انه يسلم للشرطة التي تتكفل باعادته الى بلده الاصلي طبقاً للقانون المعمول به. اما القانون المغربي فيلاحق قائد المركب الناقل للمهاجرين بتهمة القتل الخطأ، والعقوبة في هذا الفعل الجرمي قد تصل الى السجن خمس سنوات، وفي حال المعاودة تتضاعف العقوبة. مافيا الهجرة فاجأ حادث انقلاب شاحنة في محافظة خيرونا الاسبانية المتاخمة للحدود الفرنسية، في آذار مارس الماضي، والذي اسفر عن مقتل 12 شخصاً سائق الشاحنة و11 مهاجراً مغربياً بفعل ثقل الحمولة من زجاجات العطور، السلطات الاسبانية، كونه برهن على وجود عصابات منظمة تدير عمليات الهجرة السرية، ذلك ان الشاحنة كانت تملكها شركة مقرها في محافظة باخوث جنوب غربي اسبانيا ولها فروع في كل من المغرب وايطاليا، وكانت تنظم عمليات انتقال المهاجرين السريين الى اوروبا عبر مضيق جبل طارق، انطلاقاً من المغرب، باستخدام زوارق صغيرة. وفيما حملت "جمعية العمال والمهاجرين المغاربة في اسبانيا" المافيا مسؤولية الحادث المذكور، اعتبرت ان القوانين المقيدة في بلدان الاتحاد الاوروبي كقانون الاجانب الاسباني تشجع العصابات المنظمة على تهريب اليد العاملة الاجنبية التي ليست بحوزتها وثائق دخول الى اسبانيا، وتساعد على دعم هذا النوع من الظواهر، اذ انه امام عدم قدرة العمال الاجانب على الهجرة بصفة شرعية فان العمال يجدون انفسهم مضطرين، بسبب اوضاعهم الشخصية والعائلية، للجوء الى هذه العصابات التي يسقطون بعد ذلك ضحيتها. والجدير بالملاحظة ان عمليات "قوارب الموت" نشطت بعد فرض التأشيرة على المغاربة الراغبين في زيارة اسبانيا العام 1992، لكنها تصاعدت على نحو لافت مع "القواعد المشتركة" التي اتفق عليها وزراء داخلية الاتحاد الاوروبي في 1993 لمواجهة الهجرة غير المشروعة وانشاء وحدة للشرطة الاوروبية يوروبول تكون بمثابة نواة للتعاون بين الحكومات الاوروبية لمكافحة تهريب المخدرات وانواع اخرى من الجرائم التي تتم عبر الحدود. ولم تعد ظاهرة الهجرة السرية تقتصر فقط على فصل الصيف، أي عندما تكون الظروف الجوية والمناخية ملائمة لعبور مضيق جبل طارق، بل اصبحت تمتد على طول العام وتشمل حتى الفترات التي يكون البحر فيها هائجاً، ما يفسر ارتفاع عدد الضحايا والمفقودين في المضيق الذي تحول الى مقبرة. واذا كان الحرس المدني الاسباني على علم بما لا يقل عن ستة مسالك تستخدمها شبكات الهجرة السرية التي تدخل المهاجرين الافارقة نحو اوروبا عبر سواحل اسبانيا، بواسطة تطوان ومدينة سبتة التي تعتبر المحور الرئيسي للعبور، فالمرجح ان هناك حوالى ثلاثين نقطة ثابتة تستخدمها هذه الشبكات المكونة من عناصر اسبانية ومغربية وجبل طارقية، يتركز العدد الكبير منها على الساحل بين طنجةوسبتة. وعلى كل مهاجر ان يدفع 200 ألف بسينة 1500 دولار تقريباً، وهو مبلغ كبير بالنسبة الى المغربي أو الجزائري أو السينغالي أو الانغولي أو النيجيري أو الكاميروني، أو القادم من اية نقطة افريقية. الأرض الموعودة والنتيجة المستخلصة هي انه على رغم تشديد الرقابة على المنافذ البحرية، ووضع الحواجز والاسلاك الشائكة واجهزة الانذار، فإن حركة الهجرة السرية لم تتوقف، كما ان الاتفاقية التي وقعتها سلطات مدريدوالرباط في تشرين الاول اكتوبر 1996 لمحاربة الهجرة السرية، تظل عاجزة امام اصرار الآلاف من المهاجرين، ممن سدت ابواب الرزق في وجوههم، على البحث عن "الأرض الموعودة"، حتى لو كان الطريق اليها يكلفهم حياتهم. ولا شك ان حصيلة هذه الحوادث كانت ثقيلة جداً، وتميز العام 1997 بانه الاكثر كلفة في اعداد الضحايا، فبين مساحة الخمسة عشر متراً الفاصلة بين المغرب وجبل طارق، مات أو اختفى في عرض المياه ما لا يقل عن 150 شخصاً، بينهم اطفال ونساء، الا ان الحادث الذي لفت الانظار الى مآسي هذا النوع من الهجرة كان حادث غرق حوالى 40 مغربياً في اقليم طريفة، في اقصى جنوباسبانيا، في ايلول سبتمبر الماضي عندما انقلب القارب الذي كان يقلهم من مضيق جبل طارق في اتجاه البر الاسباني. وجاء هذا الحادث بعد ايام قليلة من وقوع مأساة بحرية اخرى كان شاطئ مدينة اصيلة المغربية مسرحاً لها، حيث غرق زورق كان يقل 17 شخصاً، الأمر الذي دفع المسؤولين الاسبان والجمعيات ووسائل الاعلام والرأي العام في اسبانيا الى التفكير في قضية الهجرة، وضرورة مراجعة الترسانة القانونية، ووضع حد للاحكام المسبقة حول ظروف اقامة الاجانب وعملهم. وكانت اميليا غوميز وزيرة الشؤون الاجتماعية الاسبانية اعربت عن تأييدها لزيادة عدد المستفيدين من تراخيص العمل للعمال الاجانب بالنظر "للطاقة الاستيعابية" لسوق العمل، وللتفاوت بالنسبة الى التوزيع الجغرافي للعمال الاجانب في اسبانيا حسب المناطق، حيث ان منطقة مدريد والمبريا الجنوب الشرقي وبرشلونة وليريد وحيرون كاتالونيا - الشمال الشرقي تعد من المراكز التي تستقطب اكبر عدد من اليد العاملة في ميداني الزراعة والخدمات المنزلية، باعتبارهما يشكلان اهم القطاعات المتاحة لتشغيل المهاجرين، خصوصاً بالنسبة الى العمال الموسميين الذين يمكن استقدامهم من المغرب. وتبقى هذه المواقف مجرد ردود فعل آنية. فقد مضى الوقت الذي كان فيه مستقطبو اليد العاملة يجوبون البوادي المغربية، يفحصون العضلات والاسنان، ويختمون الظهر بطابع احمر او أزرق لتحديد مدى قابلية المرشح للهجرة، واوروبا التي اغلقت ابوابها امام جيرانها الفقراء المقلقين، لن تفتحها ثانية مع وجود ما تعتبره أكبر خطرين: الارهاب والمخدرات