تقف قمة جبل بَعْل الصور شامخة فوق التلال والجبال الأخرى التي تحدد المعالم الجغرافية لمناطق الضفة الغربية الواقعة بين مدينتي نابلس ورام الله. من تلك القمة التي ترتفع ألف متر عن سطح البحر، تبدأ التلال والسفوح الخلاّبة في الانحدار الى جميع الاتجاهات. وتمثل هذه القمة أيضاً نقطة الالتقاء بين ثلاثة من أهم الزعماء السياسيين في اسرائيل وهم: رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو، ووزير البنية الأساسية آرييل شارون، وزعيم حزب العمل المعارض إيهود باراك. إذ ان الثلاثة سلكوا طرقاً مختلفة قادتهم جميعاً الى قمة بعل الصور. وهكذا وجد نتانياهو نفسه رئيساً للحكومة، وشارون العقل الاستراتيجي لتلك الحكومة، خليفة لاسحق رابين، وجدوا أنفسهم متفقين على الضرورات الاستراتيجية التي لا غنى عنها لأمن اسرائيل. بوسع المرء أن يرى هذه الأيام المنازل في المستوطنات اليهودية التي تتميز بأسطحها المصنوعة من الطوب الأحمر، منتشرة على السفوح الجبلية المجاورة لبعل الصور. إذ أن مستوطنات أوفرا وشيلو وإيلي ومعال ليفونا تمتد على خط مستقيم تقريباً من الجنوب الى الشمال حول المحور المركزي للضفة الغربية. على سبيل المثال تتربع مستوطنة إيلي على أربع قمم جبلية منفصلة، تبعد كل واحدة منها عن الأخرى مسافة تزيد على كيلومتر. وعلى مقربة من هذه التلال بدأت الجرافات والحفارات البناء في موقع "جديد". لكن هذا الموقع في مفهوم الاستعمار الاسرائيلي للضفة الغربية ليس "مستوطنة جديدة" وانما هو "توسيع" فحسب لمستوطنة موجودة، أو هذا هو، على الأقل، الوصف الذي أطلقته الصحف على عملية الاستيطان الجديدة. وبين هذه "الضواحي" التابعة لمستوطنة إيلي تقع الأراضي الزراعية التي يفلحها أهالي قريتي قريوط وجالود. لكن بعل الصور لا علاقة له بالمعركة الدائرة على الأراضي الواقعة على السفوح السفلى والأودية المحيطة، وانما بمعركة أخرى أهمّ كثيراً. إذ أن قمة هذا الجبل تعج بالهوائيات العملاقة وأطباق التقاط بث المحطات الفضائية وأجهزة الاتصالات المتقدمة التي تمكّن اسرائيل من "مشاهدة" كل ما يجري حولها، وعلى عمق يتجاوز كثيراً الحدود الأردنية - العراقية. بنت اسرائيل هذه المحطة الخاصة للتجسس وجمع المعلومات الاستخبارية والتحذير المبكّر، في هذا الموقع الاستراتيجي في نطاق خطة آلون التي تبنّتها الحكومات العمالية قبل أكثر من 20 عاماً. وكانت تلك الخطة تقضي بضم نسبة تزيد على 40 في المئة من مساحة الضفة الغربية الى اسرائيل، بما في ذلك المرتفعات الجبلية الاستراتيجية المطلة على غور الأردن التي تشمخ قمة جبل الصور فوقها جميعاً. أما مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني فكان يفترض طبقاً لمشروع آلون أن تضم المنطقة الباقية بعد ذلك من الضفة الغربية. وحين تولى اسحق رابين رئاسة الحكومة للمرة الأولى، سار على نهج أستاذه آلون، فقد حارب في أواسط السبعينات - ولكن دون نجاح - خطة شمعون بيريز لتوسيع نطاق الاستيطان اليهودي الى ما وراء الخطوط التي وضعها مشروع آلون. وعندما تولى رابين رئاسة الحكومة للمرة الثانية خلال الفترة من 1992 إلى 1995 حاول مجدداً أن يرسي القواعد الاستراتيجية لمشروع آلون ويجعل منها الخطوط العامة لسياسته. حكم الأمر الواقع إلا أن الاستيطان الاسرائيلي المكثف في الضفة الغربية خلال العقدين اللذين فصلا بين رئاستيه الحكومة قوّض الأسس الجغرافية والمبدئية لمشروع آلون. وخلال تلك الفترة شن شارون حملة لا هوادة فيها من أجل توسيع الحدود الجغرافية التي وضعها آلون لتشمل بقية الأراضي التي احتلتها اسرائيل، ولتصبح تلك الأراضي تحت السيادة االاسرائيلية بحكم الأمر الواقع. ولم يكن شارون في الواقع يعارض آراء آلون الاستراتيجية في الضفة الغربية بقدر ما كان يتذرع بأن اخضاع المنطقة للسيادة العسكرية والسياسية الاسرائيلية يقتضي تكثيف الاستيطان وتوسيع نطاقه من أجل السيطرة على الأرض. وتقف مستوطنات إيلي وشيلو وأوفرا ومعال ليفونا حول جبل الصور هذه الأيام شاهداً حياً على النجاح الكبير الذي حققه شارون. وعندما طرح نتانياهو في أيار مايو الماضي تصوره لمستقبل الضفة الغربية أطلق على ذلك التصور عبارة "مشروع آلون الموسع"، إذ ان تلك الخريطة التي تصورها نتانياهو تحدد نيات اسرائيل، في اطار الاتفاق مع الفلسطينيين، لضم حوالي نصف مساحة الضفة الغربية بما في ذلك غور الأردن، وقصر السيطرة الفلسطينية الجغرافية على جيوب منفصلة لا اتصال بينها. ويمثل "إحياء" نتانياهو لمشروع آلون محاولة لكسب التأييد الواسع داخل اسرائيل للخطة الجديدة التي وضعها نتانياهو نفسه، وتفادي الانتقادات من إيهود باراك الذي يتبنى مشروع آلون. ولا تختلف خريطة باراك في الواقع، في جوهرها، عن خريطة نتانياهو. صحيح أن نسبة الأراضي التي ستعرضها حكومة عمالية برئاسة باراك على الفلسطينيين قد تكون أكبر بنسبة ضئيلة، أو حتى أقل من النسبة التي يطرحها نتانياهو، لكن خريطة باراك لا تختلف كثيراً في أصولها واطارها العام عن خريطة نتانياهو. كذلك سارع شارون الى اعلان تأييده لخريطة نتانياهو الجديدة لأنها كما قال، وهو مصيب في قوله، مماثلة في حقيقة الأمر للمقترحات التي قدمها هو نفسه منذ سنين طويلة، بل طبقها على الأرض. ونسب اليه بعض الصحافيين في الآونة الأخيرة القول ان الدولة الفلسطينية أصبحت قائمة. كما ان نتانياهو وباراك أيضاً لم يعودا يشعران بخشية من قيام مثل هذه الدولة شريطة أن تخضع للاعتبارات والمطالب الأمنية الاسرائيلية، وهي اعتبارات ومطالب لا حدود لها. من هنا يجد الناظر الى الضفة الغربية من قمة جبل الصور انه ليس هناك أي فروق أو اختلافات فعلية بين الخرائط الثلاث التي يطرحها نتانياهو وشارون باراك. ولعل أفضل دليل على هذا التوافق أن شارون أضحى أهم مستشاري نتانياهو في هذا المجال، الى درجة أن المبعوث الأميركي دنيس روس حرص على الاجتماع الى شارون أثناء زيارته الأخيرة الى المنطقة، منهياً بذلك المقاطعة التي فرضها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر على شارون بحكم الأمر الواقع. وهكذا كان روس أول مسؤول أميركي يلتقي شارون منذ سنوات. اقتراحات واقعية علاوة على ذلك، تركزت المحادثات التي عقدها أبو مازن مع شارون بموافقة نتانياهو على البحث في ما سماه شارون "وجوب تقديم اقتراحات واقعية. ولهذا بحثت مع أبو مازن الحد الأدنى من طلباتنا وحاجاتنا الضرورية. فأنا اعتقد أن من الضروري أن نحاول ايجاد حل يستطيع معه اليهود والعرب أن يعيشوا في سلام، واعتقد أيضاً ان ذلك اليوم سيأتي". والهدف من الاجتماعات بين شارون وأبو مازن، في نهاية المطاف، ترتيب اجتماع بين شارون والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي لا يزال شارون يفضل أن يصفه بأنه "مجرم حرب". ويشترك نتانياهو وشارون وباراك أيضاً في الشعور بعدم استساغة عرفات. ولا بد في هذا الصدد من الاشارة الى أن باراك كان يتعمد حين كان رئيساً لهيئة الأركان الاسرائيلية، ثم وزيراً للخارجية، الابتعاد عن عدسات التلفزيون والمصورين الصحافيين كلما كان عرفات موجوداً في تلك المناسبات. لكن العقيد جبريل الرجوب قائد قوات الأمن الوقائي الفلسطيني في الضفة الغربية يعد أقرب الفلسطينيين الى باراك، إذ أن الأخير يعتبر رجوب نفسه، بل التعاون مع السلطة الوطنية الفلسطينية ككل، "شراكة استراتيجية"، في وقت لم يقرر فيه نتانياهو رغم مرور أكثر من عام على فوزه في الانتخابات هل يعتبر عرفات "شريكاً" أم "عدواً". وهذا هو الفرق الأساسي بين نظرة نتانياهو وباراك الى القضية الفلسطينية. أما شارون فقد أقام حياته السياسية برمتها على مبدأ رأب الصدع وتضييق هوة الخلافات بين الأحزاب السياسية الاسرائيلية. فهو الذي أقنع مناحيم بيغن بالانسحاب من مستوطنة ياميت قرب العريش. وربما نجد أن شارون هو الذي سينجح في اقناع نتانياهو بأن أفضل خيار واقعي أمام رئيس الوزراء أن يتبنى وجهة نظر باراك القائلة ان عرفات شريك وأن السلطة الوطنية الفلسطينية شريك أيضاً، لكنها شريك أقل وزناً .