هناك أمران اشتهر بهما اريل شارون: معرفة افضل طريقة لاحتلال العناوين الرئيسية، وانجاز الاشياء بسرعة. ففي 29 تموز يوليو الماضي احتل شارون عناوين الاخبار الرئيسية حين اصدرت وزارته الحديثة وزارة المرافق العامة بياناً قالت فيه ان العمل سيبدأ قبل نهاية العام الحالي لبناء طريقين جديدتين في الضفة الغربية وترميم طريق ثالثة علاوة على اقامة جسور جديدة تربط اسرائيل بمرتفعات الجولان السورية المحتلة. ومن المعروف عن شارون ايضاً انه لا يحب فعل الاشياء بهدوء او بعيداً عن الضجة والاضواء. فحين كان وزيراً للزراعة بعد اتفاق كامب ديفيد تعمد بناء مستوطنات "وهمية" لكي يثير غضب المصريين. وعندما تولى منصب وزير الاسكان في حكومة اسحق شامير أثار غضب وزير الخارجية الاميركي آنذاك جيمس بيكر حين اصدر اوامره ببناء آلاف الوحدات السكنية الجديدة في مستوطنات الضفة الغربية وباقامة مستوطنات يهودية جديدة اصبحت تعرف باسم "مستوطنات بيكر" - عشية زيارة بيكر لاسرائيل ابان حرب الخليج. وبلغ من عدم اكتراث شارون بأي انتقادات او اعتراضات ان اطلق عليه الناس اسم "الجرافة" لأنه كان يكتسح اي معارضة تقف في سبيله ويحقق ما يريده. وها هو الآن في عهد رئيس الوزراء الجديد بنيامين نتانياهو يعود الى سابق عهده. ففي اليوم الذي اجتمع فيه نتانياهو الى زعماء المستوطنين وطلب اليهم التزام الهدوء وعدم اصدار البيانات والتصريحات الصاخبة الى وسائل الاعلام لأنها ربما تعود بنتائج عكسية، سارع شارون الى اصدار التصريحات النارية التي احتلت الصدارة في عناوين الصحف، كما انها كانت موضوع السؤال الاول في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده الرئيس بيل كلينتون في البيت الابيض مع ضيفه الرئيس حسني مبارك. وشعر الرئيس كلينتون بحرج من السؤال ولم يستطع ان يقول في معرض الاجابة عنه اكثر من: "انني لا أريد ان اوجه اللوم اليهم الى الاسرائيليين على شيء لم يفعلوه حتى الآن". والاميركيون يمقتون شارون ويخشونه ايضاً لأنه لا يكترث اطلاقاً برأيهم. فهو يجبرهم على مواجهة القضايا والمشاكل ويضعهم امام الامر الواقع - مثل الاعلان عن الشروع في بناء الطرق الجديدة - خلافاً لما تعودوا عليه من زعماء حزب العمل الذين كانوا ينتهجون ديبلوماسية ذكية في مثل هذه الامور بل وينجزون كل شيء من دون ضجة. اذ قال زعيم حركة المستوطنين الياكيم ها ازتني: "ان اسحق رابين عبّد من الطرق في يهودا والسامرة الضفة الغربية اكثر مما كان اسحق شامير يحلم بتعبيده طوال فترة حكمه". "متطرف" على كل جسمه والأهم من ذلك ان رابين استطاع ان يفعل ذلك بموافقة كل من ياسر عرفات وبيل كلينتون. ولهذا لا غَرْوَ ان يثير شارون قلقاً حتى داخل اوساط حكومة نتانياهو. اذ ان شارون كان اللاعب الاساسي في المناورات التي سبقت الانتخابات الاسرائيلية الاخيرة وأدت الى تشكيل الائتلاف الذي وضع ديفيد ليفي ورافائيل ايتان على قائمة انتخابية واحدة مع ليكود. ومن هذا المنطلق طالب شارون بشغل حقيبة وزارية مهمة، ومن هذا المنطلق ايضاً هدد ليفي بالاستقالة من وزارة الخارجية ما لم يدخل شارون الحكومة. لكن نتانياهو لم يسند الى شارون وزارة الدفاع او وزارة المال وهما الوزارتان اللتان كان يطالب بهما نظراً الى ما عرف عن شارون من سياسات متطرفة بل ومعادية للفلسطينيين والسوريين. وكما قال هاإيتزني وهو من أقوى مؤيدي شارون: "اذا كان نتانياهو سينتهج خطاً سياسياً متشدداًِ بصورة عامة واذا كان سيتبنى حملة الاستيطان على نطاق واسع في الاراضي المحتلة فان آخر شيء يريده طبعاً هو ان يكتب على جبينه كلمة "متطرف". ونحن جميعاً نعرف ان كلمة متطرف مكتوبة على كل جزء من جسم شارون". لكن نتانياهو كان يخشى ايضاً الضرر الذي سيلحق به شخصياً بصفته حامل راية فكرة "اسرائيل الكبرى" لو انه أسند الى شارون، بما عهد عنه من تطرف، احدى الوزارات المهمة، لأن هذا كان سيعني افول نجم رئيس الوزراء وبروز شارون بقوة على ساحة القيادة. وفي مقدمة برنامج شارون هذه الايام، مثلما كان الحال دائماً في الماضي، خلق الحقائق على الارض واقامة العقبات الجغرافية والعملية في وجه اي انسحاب محتمل من الاراضي المحتلة. فهو يرى انه مهما كانت الخرائط التي يرسمها الديبلوماسيون ويتفقون عليها فان "الحقائق" التي يخلقها على الارض هي التي ستقرر المستقبل. وخارطة اتفاق اوسلو الثاني، على سبيل المثال، تكاد تكون انعكاساً كاملاً لخطة شارون الاستيطانية التي تقوم على اساس انشاء "كانتونات" يديرها الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة وسط بحر من المستوطنات والطرق اليهودية. باختصار: حجر الزاوية الاساسي في سياسة شارون واستراتيجية هو بناء المستوطنات من دون توقف من دون اي قيود، اذ قال في مقابلة معه في نهاية العام الماضي: "لو لم تكن المستوطنات اليهودية قائمة اليوم في مرتفعات الجولان والسامرة ويهودا الضفة الغربية لكانت اسرائيل قد انسحبت منذ مدة طويلة الى الخط الاخضر. ولهذا فالمستوطنات اليهودية هي العامل الوحيد الذي حال دون موافقة هذه الحكومة حكومة رابين على الانسحاب وهي ايضاً التي أدت الى نشوء المصاعب في المفاوضات". وقبل أقل من شهر من فوز ليكود في الانتخابات اعلن شارون برنامجه للاستيطان خلال السنوات المقبلة. اذ قال: "انا مقتنع بأن المستوطنات الحالية ستتوسع. وهذا التوسع وارد بشكل واضح في الخطط الاساسية وسيتم على الارضي التي تملكها الدولة. كما انني سأضيف مستوطنات جديدة في المناطق الامنية التي يرد وصف لبعضها اليوم في اتفاقات اوسلو التي تشير الى تلك الاراضي بعبارة "المنطقة ج". فهي خارج اطار المناطق السكنية العربية. مثلاً المستوطنات الواقعة الى الشرق من الخط الاخضر... هناك مناطق حولها خالية من السكان مما يعني انه ليس هناك اي سبب يمنعنا من بناء مستوطنات جديدة فيها. بل وفي وسعنا حتى ان نقول انها ستكون مجرد توسيع للمستوطنات القائمة الآن. واذا ما ألقينا نظرة على هذه المستوطنات اليوم فاننا نجد انها اشبه بمراكز منعزلة عن بعضها. لكنها ستصبح في نهاية الامر مراكز سكانية متصلة ببعضها وستشكل استمرارية جغرافية واحدة". واستطرد شارون في شرح استراتيجيته فقال: "يجب الاستيطان في المناطق الضرورية لحماية الغالبية اليهودية في مدينة القدس الكبرى وعلى طول محاذاة السفوح التي تطل على السهل الساحلي. كذلك يجب ان نستوطن بين القدس وشمال البحر الميت في وادي الكلت وحول جدول كيدرون. وعلى هذا الاساس سنوسع معال ادوميم لأن افضل مكان لتشجيع المستوطنين على بناء منازلهم بأنفسهم هو المنطقة الواقعة الى الشرق من معال ادوميم". الاستيطان من دون حدود ونظراً الى الصلاحيات التي اسندت الى الوزارة الجديدة التي استحدثها نتانياهو لشارون فانه سيكون في وسعه ان يتابع بسهولة عملية تنفيذ استراتيجيته القائمة على الاستيطان من دون اي قيود او حدود في الاراضي المحتلة، استناداً الى المعطيات الآتية: اولاً انتزع شارون السيطرة على دائرة الاراضي العامة التي كان نتانياهو يريد لها ان تظل تحت سيطرة مكتب رئيس الوزراء، لكنه اخفق في ذلك، اذ ان الدائرة التي تسيطر على 93 في المئة من الاراضي داخل اسرائيل وعلى عشرات الآلاف من الدونمات في الاراضي المحتلة تعطي شارون مساحة هائلة من الاراضي التي يمكنه ان يخصصها لخدمة اهدافه الاستيطانية من دون ان يعترض احد من الحكومة على ذلك. ولطالما حارب شارون من اجل السيطرة على دائرة الاراضي لأنه يعتبرها العنصر الاساسي الحاسم في اي استراتيجية للاستيطان. ولهذا أصر حين كان وزيراً للزراعة في حكومة مناحيم بيغن وحين كان وزيراً للاسكان في حكومة شامير على اخضاع دائرة الاراضي لسيطرته، ونجح في ذلك. وها هو الآن ينجح مع حكومة نتانياهو ايضاً. ثانياً، ضم شارون الى دوائر وزارته الجديدة دائرة مهمة اخرى هي دائرة الاشغال العامة التي كانت تابعة في السابق لوزارة الاسكان. وفي هذا ما يفسر اعلانه الاخير عن الشروع في بناء الطرق الجديدة في الضفة الغربية. فهو يعبتر الطرق العامل الاساسي الذي يضمن سيطرة اسرائيل على الاراضي المحتلة بصورة دائمة، مثلما يضمن توسيع المستوطنات الحالية وبناء المستوطنات الجديدة وربطها جميعاً باسرائيل مباشرة. وما يريده شارون هو ربط الضفة الغربية باسرائيل ربطاً محكماً لا يمكن فصمه من خلال بناء شبكة متكاملة متداخلة من الطرق التي تمتد من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب، علاوة على شبكة طرق اخرى حديثة تربط جميع المستوطنات ببعضها البعض من دون المرور عبر المراكز السكنية العربية، وهي ما أصبح يعرف بالطرق الالتفافية، مثلما تربط المستوطنات بالقدس وتل أبيب. ثالثاً، تولت وزارة شارون الجديدة ايضاً المهام التي كانت مسندة الى وزارة الطاقة التي ألغيت الآن مما سيضمن له تزويد المستوطنات الحالية عند توسيعها والمستوطنات الجديدة التي ستقام، بكل ما تحتاج اليه من امدادات الكهرباء والغاز وتتيح الفرصة امام هذه المستوطنات لبناء الصناعات المختلفة. علاوة على كل هذا سيتولى شارون رئاسة الوفد الاسرائيلي في المفاوضات على قضايا المياه مع كل من السلطة الوطنية الفلسطينية والأردن وسورية وتركيا. وفي ذلك ما يضع شامير في المركز الاساسي الذي تدور حوله ديبلوماسية نتانياهو تجاه جيرانه العرب. ومن المؤكد ان شارون سيستغل الى أبعد الحدود هذه الصلاحيات التي تجعل وزارته واحدة من أهم الوزارات في الحكومة، اذ ان هذه الوزارة وزارة تسيطر على بعض اهم الجوانب في العلاقة مع العرب: الاراضي والمياه والامدادات الكهربائية والمواصلات والطرق. ولا شك في ان شارون سيثير المشاكل لرئيس الحكومة، اذ ان مشاريع الطرق التي اعلنها على سبيل المثال لم تكن وليدة الساعة وانما هي جزء من خطة اعدها عام 1984 ولقيت التأييد من حيث المبدأ من كل من اسحق رابين وشمعون بيريز لكنهما لم يرصدا لها اية اموال مما حال دون تنفيذها. لكن الصورة مختلفة الآن في ظل حكومة ليكود. ومن المؤكد ان شارون سيضمن المخصصات المالية اللازمة لتنفيذ خطته، من هنا يمكننا ان نعتبر الهدف الاساسي من اعلان شارون الاخير هو تسجيل موقفه السياسي بوضوح امام الملأ، اذ انه اراد بهذا الاعلان ان يخبر الاميركيين والعرب بأنه عاد الى المعترك السياسي الرسمي وبعنفوان وتصميم. كما انه اراد ان يقول لنتانياهو نفسه: "انني سأعمل بالطريقة التي تعودتها دائماً... بصخب وصوت عالٍ".