يكاد التاريخ الشعري العربي يخلو من حضور المرأة كمبدعة، إلا في ما ندر. فمنذ البداية كان على الشاعرة أن تجد خيمة تحتمي بها... ولم تفلح سنوات التسعينات الحافلة بتكريم أدب المرأة في فك العزلة عن هذا الشعر، بل حصر التكريم المجاني المرأة ضمن اطار المقاييس الخاصة بها كأنثى. واليوم بعد ترسّخ انعطافة قصيدة النثر، لم تتبدّل التحديات وبقي السؤال المطروح نفسه: متى تتم القطيعة مع "المرأة كموضوع" ليبدأ التعامل مع "المرأة كذات"؟ خلال السنوات القليلة المنصرمة ازداد عدد الشاعرات العربيات بشكل مضطرد، في وقت بقي وجودهن شبه هامشي في اطار الشعر العربي عموماً. فنادراً ما تدرج أعمالهن بين التجارب المهمة التي تتعرض إلى الدراسة والتمحيص النقدي. ولم تفلح سنوات التسعينات الحافلة بتكريم أدب المرأة في فك العزلة عن هذا الشعر، بل حصر التكريم المجاني المرأة ضمن اطار المقاييس الخاصة بها كأنثى، في حين استطاعت الروائية وكاتبة القصة بشكل ما، أن تجد لها مكانة أكثر رسوخاً على الساحة الابداعية. والحال أن التاريخ الشعري العربي يكاد يخلو من حضور المرأة كمبدعة الا في ما ندر. وهناك أكثر من سبب يدعو إلى التصور بأن نازك الملائكة استطاعت أن تثبت قدرتها على المنافسة عبر طروحاتها النقدية، فخصوصيّة عملها الابداعي لم تبرز إلا في سياق مقارنة غير متكافئة بينها وبين أندادها من الرجال. ولا نحتاج إلى جهد لكي نطال السبب المباشر لهذا الموقف، فالمرأة في الذاكرة التاريخية للشعر العربي تنظر كموضوع ومن الصعب قبولها كذات مبدعة. لعل عائشة التيمورية التي سبقت نازك الملائكة بجيلين أو ثلاثة أرادت أن تثبت ما يقال عن المرأة الشاعرة من أنها "أخت الرجال"، كما فعلت الخنساء قبلها. وباستحياء سربت بعض مطاليبها النسوية مستظلة بخيمة محمود تيمور الأخ والنصير، فكان عليها أن تكون أولاً ورعة وأديبة حية وقادرة في النهاية على أن تطرح أسئلتها: هل تقبل أيها الرجل أن تظلم زوجتك باشراك امرأة أخرى في حياتها؟ وهل يقبل ضميرك أن يضرب هذا المخلوق الرقيق كما تضرب الكلبة... وهل؟... هل؟... وكانت كلّما تقدمت خطوة في الشعر، ازدادت خشيتها من أن يقال عنها شاعرة وحسب، فراحت تذكّر بأنّها مصلحة اجتماعية ومهتمة بالدين والورع. كما اختارت أن تكتب الرواية لكي تصبح مرشدة وواعظة بحق. منذ البداية كان على الشاعرة أن تجد خيمة تحتمي تحتها، زوجاً أو أخاً أو أباً، عيناً ترعاها وتدفع عنها الشبهات. لنتذكر الأسماء: عائشة تيمور، وردة اليازجي، مي زيادة، فدوى طوقان، ونازك الملائكة أيضاً، بهذا الشكل أو ذاك، فوالدها شاعر وصاحب مكانة اجتماعية مرموقة. مي زيادة لم تستطع أن تحلّق بعيداً بعد أن مات والدها الياس زيادة صاحب جريدة "المحروسة" الذي رعى أول ديوان شعر أصدرته بالفرنسية. فالأديبة التي تحولت إلى مجالات أخرى كثيرة بما ملكته من تاريخ لا يخص البيئة العربية الا بصلة لاحقة، لم تصمد بعد أن فقدت الراعي، وانفض صالونها الأدبي، ودخلت مرحلة الجنون والهجران بعده. شعر بلا ميراث إستطاع الأدب الستيني تجاوز حاجز الحياء الأنثوي، بما جاد به من نساء بلغت بهن الشجاعة حد الاعلان عن النفس في سياق اجتماعي لم يكن يعترف للمرأة بهذا الحق. كان الشعر النسائي يتعثر بأذياله، وسجّلت فدوى طوقان، الخمسينية مزاجاً وحساسية، أولى بوادر تمرد الشاعرة على شرطها الاجتماعي، فنظمت قصائد الغزل بالذكر. لكنّها بقيت تحتفظ في قصائدها بالروحية ذاتها التي ترى المرأة فيها نفسها موضوعاً للرجل، حتّى وإن كانت هي صاحبة مبادرة الابداع. في واحدة من قصائدها توضح الأمر: "قلت: في عينيك عمق/ أنت حلوة/ قلتها في رغبة مهموسة الجرس/ فما كنا بخلوة/ وبعينيك نداء/ وبأعماقي نشوة/ أي نشوة/ أنا أنثى/ فاغتفر للقلب زهوه". ولم تستمر فدوى طوقان طويلاً، فحملت لقب الخنساء بعد أن مات أول أخوتها ثم تبعه ابراهيم طوقان، وتحولت أثر نكبات فلسطين إلى رمز المرأة الملتزمة بقضية وطنية. في الستينات برز عدد من الشاعرات في لبنان والعراق وسورية ومصر، وكانت تلتمع كالنجوم المتباعدة التي تخبو بعد فترة عابرة: روز غريب، أمال الزهاوي، وفاء وجدي، سنية صالح. أما الثمانينات وما بعدها فجاءت أوفر حظاً بالأصوات الشعريّة النسائيّة، وان لم يظهر اسم ينافس في الحظوة نازك الملائكة أو فدوى طوقان في زمن تألّقهما. ما بين عقدين تعرفنا على مجموعة كبيرة من الشاعرات يفوق من حيث العدد كل ارث المرأة الشعري خلال قرون طويلة. ولم يقتصر الأمر على البلدان التي نالت فيها المرأة بعض حريتها، بل كان من نصيب البقاع الأكثر انغلاقاً مجموعة من الشاعرات توازي - من حيث الكمّ - عدد الشعراء أو تضاهيه،. ولكن مقامهن بقي كما هو: حركة ملحوظة إنّما بطيئة، يتعمد النقد في الغالب اهمالها. الرسالة الأنثويّة وهذا الأمر يستوجب التأمل في ظل وضع تغيرت فيه حوافز النشر وشروطه. فالشعر النسائي الجديد بدا وكأنه جاء متأخّراً عن موعده، ويريد مع ذلك أن يقول مرة واحدة الكلام الذي فاته والذي ينتظر من يقوله. وهذا الشعر يظن أن ما فاته هو الرسالة الانثوية، أي كيف ينبغي أن تقدم المرأة نفسها إلى جمهورها. وهذه المسألة تختلف من بيئة إلى أخرى، على رغم النقاط المشتركة الكثيرة. ولعل الأكثر وضوحاً بينها، اظهار رقة ورومانسية تليق بأنثى، ومن جهة أخرى اشهار فصاحة تكشف ولا تستر التورية الجنسية. والحق أن هذه الحالة الأخيرة سبق أن رافقت موجة شعرية رجالية عاتية ارتفعت فيها النبرة الايروسية، أي ان المرأة اقتربت من المناطق الشعرية التي حُرّمت عليها، أو خافت أن تخوض غمارها. ومن معالم الشعر النسائي الجديد تبنّيه قصيدة النثر بصيغتيها: السردية، أو المقتصدة التي تعتمد اختزال القول وتكثيفه في عبارات موحية. وإذا استطعنا أن ننحّي رسالة التمرد عن هذا الشعر - وهي في أحيان كثيرة حلية مفحمة - سنجد أن الوظيفة الانفعالية تتراوح لديه بين وعي قيمة الشعر كحالة خلق تتداخل فيها الموهبة بالثقافة بمعرفة أسرار التقنية الشعرية، وبين كونه عاطفة رومانسية سطحية. وهذا الأمر أضاع شعر القلة الجيدة في بحر من المحاولات الفائضة. والغريب أننا نجد أن الشاعرة الواحدة قد تجمع هذا وذاك في ديوان واحد. إن اشكالية قصيدة النثر التي ما زالت تخضع إلى اختبارات تحديد ماهيتها عربياً، تجعل التثبت من قيمة هذا الشعر ذوقية، وتخضع إلى اعتبارات مسبقة حول المناسبة والمنبر. فما دامت المرأة تقول هذا الشعر، فهي محكومة بشرطها الأنثوي الذي ترى من خلاله العالم ويراها النقد من خلال معاييره. وقد تكون محكومة بما تنطوي عليه قصيدة النثر من منزلقات خطيرة وسقوط في السهولة التي تستدرج كثيرين إلى مطبّاتها. ولكن الشاعرة تبقى على الحافة الأخطر لأنها كامرأة، ومن دون ارث شعري يخصها، عليها أن تنتج خارج شروط الالتزام بأدوار تثبت أو تنفي رسالة موكلة إليها كجنس. فما من شعر تميز حتى عند أكثر الشاعرات الغربيات استغراقاً بقضية المرأة، إلا بما لصاحبته من قدرة لكي تكون، بحقّ، مالكة لناصية هذا الابداع