بين الأربعينات والستينات لعبت نازك الملائكة دوراً رائداً وتأسيسياً في الانعطافة التي عرفتها القصيدة العربية، قبل أن تعلن سنة 1967 أنها "على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف، وسيرجع الشعراء إلى الأوزان". والشاعرة العراقيّة التي كانت المرأة الوحيدة في مغامرة أدبية وفكريّة خاضها رجال، انزلقت بالتدريج إلى ليل من الأنزواء والمرض، حتّى كاد يطويها النسيان. وتشهد الساحة الثقافية حالياً بوادر عدّة لاعادة الاعتبار إلى ابنة الوسط المخملي التي تعالت عن أقرانها، وتعامت عن الواقع، لكنّها تركت بصماتها شعراً وتنظيراً على مسيرة الشعر الحديث. منذ سنوات طويلة انتهت نازك الملائكة كشاعرة وأديبة، بعد أن شغلت عقدين من الزمن حفلا بالصراع حول الشعر العربي الجديد. بين الأربعينات والستينات كانت نازك الملائكة من المبادرين المهمين في اطلاق وجهات نظر أثارت الجدل وجعلت الاختلاف ممكنا، واستدعت شتى صنوف المناقشات حول مفاهيم الشعر الحر والقصيدة الجديدة والوزن والتفعيلة واللغة والشكل والمضمون، وكل ما يمت بصلة إلى متعارفات اللون الشعري الجديد. وفي السنوات الأخيرة، وبعد أن بدا الأمر وكأن نازك الملائكة تنحّت إلى الأبد من ذاكرة الناس، بدأ الاهتمام المتجدد بدورها وريادتها من قبل عدد من الكتّاب العراقيين والعرب. ولعل اشتداد مرضها وعزلتها هما وراء اعادة الاعتبار المتأخّرة، بعد أن تنبّه الأدباء إلى أهمية دورها وريادتها وحياتها التي تختصر دورة الابداع العراقي المتعثرة بين تجدد ونكوص. فظهور نازك في الاربعينات بين الجيل الجديد من الشعراء كانت مؤشراً إلى اتطور في الحياة الاجتماعية والثقافية العراقية، وثمرة لجهد مثابر خاضته الشرائح المتنورة في مجتمع غير متجانس أصلاً، لذا كان نسيجه يحوي هشاشة قابلة للاختراق والنكوص، عند أول منعطف أو هزة تواجهه. في استعادة ذكرى نازك الملائكة التي أفل نجمها كمجددة منذ السبعينات، صدرت في السنوات الأخيرة دراسات عن حياتها وشعرها وتنظيرها. وكانت تلك الاصدارات تواجه مشكلة من مشكلات الكتابة عن الماضي، من بينها اسقاط الحاضر عليه، كأن تدرس قصيدة للشاعرة وفق منهج ينطقها بما لا طاقة بها عليه، أو التكفير عن الاهمال بالاحتفاء المجامل، إلخ. وكما في كل مرة خضع أدب نازك الملائكة إلى صيغتين من المعالجة: الهجوم والقسوة أو التكريم والمجاملة. إن أهمية نازك الملائكة تتحدد باعتبارات كثيرة، أولها أنها تكاد تكون الشاعرة العربية الأولى التي أشبعت دورها كمثقفة ومبدعة، وليست هاوية أو صاحبة مزاج ووجدان تحاصره العاطفة الانثوية فيفيض بالشعر. وزمنها هو زمن الوعي الشعري الجديد بذاته الثقافية. وبصرف النظر عن امكاناتها الابداعية، كانت تعي دورها في العملية الأدبية كمحاورة لنتاج مجايليها ولتراث شعري يشغلها مثلما يشغلها اعتمال صيغته الجديدة. والاعتبار الآخر لأهميتها يأتي من مفارقة في نتاج المرأة العربية في هذا الميدان، وتتحدد في بقاء نموذجها كشاعرة تملك قوة الاستمرار بسبب فراغ لم يشغل من قبل النساء الا بالتماعات في هذا البلد العربي أو ذاك سرعان ما تنطفئ أو تنتهي من دون أن تترك أثراً يذكر. ومع أن مرحلة الستينات وما بعدها كانت منطلقاً لخوض النساء العربيات في شتى التجارب الابداعية، إلا أن الكتابة الشعرية بقيت في أبرز نماذجها مقتصرة على الرجال. وحتى يومنا هذا، من الصعب أن نرتّب المشهد الشعري العربي إلا وفق متعارفات هذا التقسيم الواضح الذي تغيب فيه المرأة عن منافسة الرجال في ابداعهم الشعري، على خلاف ما يجري في بقاع مختلفة من العالم. "تيار الشعر الحر سيتوقف!" هذا الأمر يدفعنا إلى الاعتقاد، بأن نازك الملائكة كانت ولا تزال تشكّل حالة فردية يمكن أن تدرس في سياق ظاهرة عامة للتطور، ينطوي فيها الواقع الاجتماعي على مفاجآت لا تملك قوة الديمومة والاستمرار، لأنها تفتقر إلى ما يمهّد لها زمنيّاً. فظاهرات الحداثة، أياً كانت، لن تأخذ مداها الحقيقي إن لم يكن لها امتداد في الماضي، أو كان الماضي لا يملك أسلحة تكفي للاجهاز عليها. ولا نظننا مبالغين إن قلنا إن نازك الملائكة، لو لم تكن امرأة في مجتمع ومحيط معينين، لما آلت الأفكار والنزعات الجديدة لديها إلى ما آلت اليه. فالشاعرة التي كتبت مقدمة "شظايا ورماد" 1949 غيرها التي كتبت بعد قرابة عقدين في "شجرة القمر" 1967: "واني لعلى يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشعرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهانة بها". مقدمة ديوان "شظايا ورماد" اعتبرت في حينها بمثابة بيان حدد هوية القصيدة الجديدة، أو ما سمّي بالشعر الحر. وهذه المقدمة حوت أفكاراً وتصورات فيها تختلف كثيراً عن كل ما جاء قبلها، في الحساسية، وفي نبض التعامل مع مفهوم القصيدة الجديدة. المهمّ أن نازك الملائكة قدّمت نفسها، عبر النصّ المذكور، كمجتهدة في ميدان التنظير الشعري. والأهم من كل ذلك أن منظومة افكارها بدت على جانب كبير من التماسك والمعرفة بمصادرها وبحيثيات موضوعها. وقد لا ينطبق ذلك على زملاء مرحلتها، وأبرزهم بدر شاكر السياب. لأن معظم كتابات السياب حول الشعر الحر والقصيدة الجديدة تكشف عن تفاوت بين قدراته الشعرية وامكاناته في التنظير. فنثره ضعيف، ومقارباته لمفاهيم وأفكار القصيدة الجديدة يكتنفها الكثير من التبسيط. وحتّى نهاية الستينات بقيت نازك تملك منطقاً متماسكاً في الدفاع عن آرائها، ثمّ جاءت انتكاستها الصحية مطلع السبعينات، وانزواؤها في حدود حياة زوجية أعادت انتاج تقاليد عائلتها الأولى. كانت عائلة نازك الملائكة تجمع إلى أفكار التطور والتنوير والاعتقاد بحرية المرأة، أسلوباً تربوياً ينشئ الفتاة على رهبنة تدفعها إلى الاستعلاء، والشعور بقيمتها كذات طاهرة لا ينبغي ان تخالط المحيط الذي يغويها بالخطيئة. إن ما قاله أحد النقاد عن وجه التشابه بين الشاعرة العراقيّة والاخوات برونتي وجين أوستن وغيرهن من كاتبات عصر التنوير في انكلترا... لا ينطبق على نتاجها، بقدر ما ينطبق على دورة حياة مرّت بها نازك الملائكة، والمرأة عموماً في منطقتنا، وعلى وجه الخصوص بين عائلات النخبة المتعلمة فيها. هكذا كانت عائلة الملائكة تستقبل في صالونها الأدبي كتّاب مصر والعراق وأدباء بلغوا شأواً في الشهرة. لكن نازك لم تستقبل أدباء العراق من مجايليها، ولم تلتقيهم حتّى في المقاهي والنوادي المختلفة التي انتشرت في بغداد الأربعينات والخمسينات، لذا بقيت أسيرة عالمها العائلي، وعوامل الجذب المحافظة التي كانت تطوح بها بعيداً عن ذائقتها ورغباتها الأولى. وعند زواجها من أديب محافظ واستاذ جامعي هو الدكتور عبدالهادي حبوبه، بدأت حياة نازك تضيق بأفكارها السابقة، لا على صعيد الكتابة الشعرية بل على صعيد العلاقة مع الأدب كحساسية، إذ راحت تحاول الربط بين تصوراتها الأدبية والأخلاق. إن سيرة نازك الملائكة الشخصية، تساعد كثيراً على معرفة أسرار التحولات الأدبية في حياتها. وتلقي الضوء على فترة مهمة من تاريخ العراق الثقافي والاجتماعي عند مفترق الطرق الفاصل بين وعي جديد يتشكل، وحاضنة اجتماعية تنكره أو تؤطّر خطواته بمعاييرها وقيمها المتعارف عليها. وحول هذه السيرة، صدر كتاب للعراقية حياة شرارة وهي أديبة وأستاذة جامعية تربطها بنازك علاقة عائلية ساعدتها كثيراً، فالتقت بأفراد عائلتها وحصلت منهم على معلومات ووثائق بصدد حياتها، ووصلت إلى الشاعرة نفسها مخترقة الطوق الذي يعزلها عن العالم الخارجي، وخاضت معها أحاديث مبتسرة عن أدبها وسيرتها الشخصية. شخصية يتجاذبها عالمان كتاب حياة شرارة "صفحات من حياة نازك الملائكة" دار رياض الريس، يؤكد جانباً من شخصية نازك الملائكة التي عاشت في عزلة عن محيطها الثقافي، على الرغم من اسهاماتها الفاعلة عبر المنابر التي نشرت فيها كشاعرة وناقدة. هذه العزلة كانت شديدة التأثير في بلورة شخصية يتجاذبها عالمان: عالم قراءاتها وتطلعاتها القائم على نبذ الأفكار الأدبية الراسخة، وعالمها العائلي المحافظ الذي شكل منها شخصية منكفئة متوجسة تخشى الخارج وتخاف الارتطام به. وتبرز أهمية كتاب شرارة في تسليطه الضوء على جانب من الحياة الاجتماعية العراقية وجانب من السيرة الأدبية والشخصية للشاعرة. ويخيل إلى المرء أن الجهد الذي بذلته المؤلّفة في صياغاتها اللغوية وطريقة اعداد الكتاب وترتيب معلوماته، على شيء من الاتساق مع الصورة التي يريدها الماضي عن نفسه. فهي فخورة حين يأتي الحديث عن المتحد العائلي والمنحدر الاجتماعي النبيل حيث تعود بنسب نازك إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء! هكذا نجد أنفسنا أمام ما يمكن تسميته سطوة الماضي وثقل ظله المهيمن على الحاضر. تلك البيوت العابسة التي تعلق شجرة أنسابها على الجدران، في وقت كان الأدب العراقي، أيام ظهور نازك الملائكة، قطع شوطاً في التمرد على طقوس اجتماعية أدرك الأدباء قبل غيرهم قلة قيمتها وثقل ظلها. فالرصافي عاش بين البغايا متعمداً، وأعلن مثليته الجنسية تحدياً للقيم الاجتماعية، وغزا جيل الأدباء من الأصول الفقيرة وأدباء القرى والأرياف البعيدة، عبر صحف ومجلات بغداد... حتى اضطرت القلة التي تعود بنسبها إلى عوائل ثرية، إلى الانسلاخ عن وسطها العائلي وتكريس أدبها على عكس ما تشتهي رياح طبقتها. وعلينا أن نتذكر هنا أن نازك كانت تجذّف آنذاك عكس هذا التيار، فلم تمسها الدعوة إلى اجتماعية الشعر على سبيل المثال، بل هاجمتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" واعتبرت مقولات من نوع "الأبراج العاجية" و"الشعراء الذاتيون" و"المتهربون من الواقع" التي كانت تغمز بقناتها، محض نبرة عصبية تحتمل النقد فنياً وانسانياً ووطنياً وجمالياً. ولعلّ المتتبع لكتاب شرارة عن نازك الملائكة، سيستدل على حياة فيها الكثير من الفرص الرخية التي تحفظ الأديب من الانشغال عن الأدب بمتاعب الحياة. فهي لم تتعرض إلى جوع أو تشرد أو سجن، على عكس ما تعرض له السياب ومعظم الأدباء من أقرانه. ولكن بيتها العريق الذي نشأت فيه ترك أثراً في تحديد ملامح شخصيتها لاحقاً. تقول نازك عن هذا البيت: "أذكر أننا كنا نعيش في منزل شاهق عتيق، يقوم في ناحية من بغداد القديمة، وقد انحدر إلينا من الأدباء والأجداد. وهو أمر كنا نحسه في طفولتنا، إذ كان القدم يخلق حول البيت جواً من الرهبة الغامضة والعظمة الصامتة التي تركت في حياتنا حتى اليوم آثاراً شديدة العمق". مرض الاكتئاب ومضت الشاعرة - حسب تتبع شرارة - إلى بيوت أخرى تحفّها البساتين والأنهار، وتخيّم عليها الحياة العائلية الهانئة التي تحفل بمجالس الضيافة ولقاءات الأدب والثقافة والتراث. فوالدها عبدالصاحب الملائكة كان شاعراً ومهتماً بالتراث والنحو، ووالدتها كانت شاعرة نشرت في عدد من المجلات، وبيتهم كان صالوناً أدبيّاً، وأقاربهم ومعارفهم كانوا من الأدباء والمهتمين بالثقافة. كل تلك الأجواء لم تمنع عن نازك مرض الاكتئاب الذي صاحب مرحلتها الرومانسية الأولى. فالألم بالنسبة إليها بدا أشهى من الحياة وأحلى. ويبدو أنّها أصيبت بمرض الاكتئاب في مرحلة مبكرة، إذ بدأ لديها تصور جماليّ للحياة هي المتشبعة بأفكار شوبنهاور وفلسفة التشاؤم. لكنه لم يلبث أن تحول إلى مرض لا طاقة لها على هزيمته. ولا تتعرض حياة شرارة سوى بإيجاز إلى قصة مرض الشاعرة، إلا أنها تورد بعض المعلومات المهمة عن ارتباط هذا المرض بصمتها الابداعي. فهي تقول في واحد من الفصول: "ومما يزيد من ألم نازك في حديث الشعر والشعراء، هروب الشعر منها واحساسها أن ينابيعه التي انبجست مبكراً في حياتها أخذت تنضب لأشهر طويلة تتجاوز السنة أحياناً، وهذا ما يؤرق عليها عيشها. ولا شك في أن ذلك يعود إلى الحبوب المهدئة التي كانت تتناولها وتبعث الخمول في أوصالها، فتميل إلى الرقاد وتجعل مشاعرها فاترة هادئة لا تنفعل ولا تهتز". إن مصير صاحبة "عاشقة الليل" تقرّر منذ ديوانها الأوّل هذا، بانفصالها عن الحياة إلى عالم آخر. فعند صدور هذا الديوان تساءل الناس عن سرّ حزنها واكتئابها، وحار النقاد جواباً بعد تتالي مجموعاتها الشعرية على هذا المنوال. أمّا النقّاد الذين طالبوها بألا تكرر حزنها، لأنها استنفدته في ديوانها الأول، فما دروا أن نازك لن تستطيع منه فكاكاً. في كتاب حياة شرارة نجد محطات كثيرة للشعر، وأخرى للحياة. تستعيد المؤلّفة الذكريات بحنين بالغ، حتى يخال القارئ أنها تتذكر أيامها الخوالي. فهي تكتب بعاطفة تفيض حتى تغرق معالم كثيرة من صورة نازك الحقيقية. وربما عاد ذلك إلى كون أغلب ما استقته من معلومات لم يصدر عن الشاعرة ذاتها، بل عن أقاربها وأهلها الذين ينظرون إليها كمثال مكتمل، ونموذج لا يبارى. ولعل بعض المحطات تدلنا على معالم من تلك الحياة. فشرارة تذكر ردود فعل الوسط الثقافي عند صدور باكورة نازك الشعريّة، وكيف التقى مجلس أدبي في دار الملائكة سنة 1948، وارتجل المجتمعون، وكان بينهم الشاعر محمود الحبوبي النجفي وعبدالوهاب الصافي وآخرون، أبياتاً وقصائد يعبرون فيها عن فرحتهم بولادة شاعرة عراقية. أما نازك ووالدتها فكانتا تبادلان الحاضرين مشاعرهم عبر أبيات من الشعر ترسل من وراء الحجاب، في وقت كان بمقدور الشاعرة أن تخالط الرجال في مجالس أخرى كثيرة! لكنّ كتاب حياة شرارة يخلو من معلومات حول علاقة نازك الملائكة مع الوسط الثقافي العراقي برجاله ونسائه، عدا علاقتها بالقاصة ديزي الأمير التي تذكرها بشكل عابر. في حين تعرّج شرارة على علاقات الشاعرة مع بعض المثقفين الأجانب الموفدين إلى العراق، وتروي كيف نمت لديها الرغبة في السفر لغرض الدراسة حتى توافرت أول فرصة في صيف 1950، بعد أن حصلت على مقعد دراسي عبر "مؤسسة روكفلر" في جامعة برنستون الأميركية. ولم يكن من تقاليد هذه الجامعة قبول النساء، فكانت نازك الملائكة أول امرأة تفدها. وتلك مفارقة صاحبتها في محطات كثيرة في حياتها، فكأن الفرص تتحين وقتين لنازك الملائكة: وقت للوحدة وسط الرجال وآخر للتميز وسط النساء.