ما معنى أن تكون شاعراً في الجزائر اليوم؟ وأية شاعرية يمكن أن تطلع من "خراب الروح والجسد" في تلك البلاد المحترقة؟ وكيف للقصيدة أن تعيش في وطن يذبح فيه الشعراء، من الطاهر جعوط إلى بختي بن عودة؟ يفاجأ المرء حين يكتشف الازدهار الذي تشهده الحركة الشعرية في الجزائر، كأن الشعر هو الملاذ الأخير، هو السلاح الوحيد لمواجهة "الجحيم والجنون"، كما تنبأ الراحل يوسف السبتي قبل أكثر من عشرين سنة. والغريب أن الشعر الجزائري لم يتخلص من الشعارات الكبيرة الحالمة، ومن الرومانسية الثورية التي ظلت ملازمة له وطغت أيضاً على الرواية والمسرح والسينما أيضاً بدرجات متفاوتة، إلا في ظل المأساة الحالية. فالسنوات الدامية الماضية أسقطت نهائياً أوهام تغيير العالم عن طريق الأدب أو بواسطته، وأخذ الشعراء يلتفتون إلى أشيائهم الحميمة، وينشغلون بتفاصيل الواقع اليومي التي لم يفطنوا إليها من قبل، ويلقون على العالم نظرة جديدة. كأنهم يعيدون "اكتشاف العادي" بتعبير عمار مرياش، أحد أبرز وجوه هذه الموجة الجديدة. ولعل كمال معيوف خير من عبّر عن هذه الحالة، في ديوانه الجديد الصادر أخيراً في باريس بعنوان "إذا سألت أمي عني". حيث يلقي على الواقع الدامي الذي تعيشه بلاده نظرة مرهفة مشوبة بمرارة المنفى: "تفككت أوصالي بين أكثر من أرض/ صارت بلدي/ والموت - الفاجعة الكبرى تقتفي أثري/ فإذا سألت أمي عني/ لا تدلوها عليّ!". ومع ذلك لا يلبث أن يراجع نفسه وينتابه تأنيب الضمير: "اقترضت شريط فيديو/ طهوت قهوتي/ وفي ركن من الغرفة الباردة انحصرت/ أيليق بي أن أتفرج الآن على وطن/ تلخص في شريط من انجاز هواة؟". وهو في حيرته وتلعثمه لا يكاد يصدق أن العالم هو حقاً هذا "الذي يحدث الآن/ بين وبين/ وفي لحظة طائشة"، وأن فضاء الحلم يضيق من حوله ليتلخص في "غرفة أوصدت أبوابها على قوارير فارغة"، "وصبية أنهكتها الدروب" وتلبدت سماؤها الصافية. فيعترف بالخيبة والعجز: "جف صوتي واختلطت علي الأبواب "وكل الذي أفعله أني أرتّب الأشياء كما جاءت/ لا أقرأ الأكف/ ولا أزن الأثقال/ فكل أنبياء الزمان مرّوا من ها هنا/ ولا أحد يهمه الانتصاب". إلا أن ذلك لا يمنعه من التطلع إلى أن "ينتزع السبابة من على الزناد/ ويعلم العصافير ثانية موسيقى الشدو وفصول الانجاب".