انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «الأونروا» : النهب يفاقم مأساة غزة مع اقتراب شبح المجاعة    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    م. الرميح رئيساً لبلدية الخرج    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «الأنسنة» في تطوير الرياض رؤية حضارية    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    إطلالة على الزمن القديم    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لقاء مع "رابطة أدباء الاختلاف". ليس هناك بؤرة غنية ثقافيا ومتوثبة ومتقدة كتلك التي في الجزائر 1 من 2
نشر في الحياة يوم 23 - 01 - 1999

هل هناك شيء آخر غير الموت في هذه القارّة الشاسعة التي هي الجزائر؟ نعم هناك الكثير، وعلى كلّ صعيد، فالبلاد التي انفجر فيها كل شيء: المجتمع والسياسة والأفكار والفن، وسقط في انفجاراتها عشرات آلاف الضحايا، كانت حصة الثقافة والمثقفين فيها كبيرة. فقد سقط بالرصاص والقنابل عشرات الكتاب والشعراء والمفكرين والصحافيين والفنانين، من أمثال الشاعر والناقد بختي بن عودة والشاعر يوسف سبتي والروائي الطاهر جاعوط والمسرحيان عبدالقادر بن علولة وعزالدين المجوبي والروائي الهادي فليسي، والصحافي عمر ورتيلاني، ومغني الراي الشاب حسني، وغيرهم كثر. وإلى هذه العينة اللامعة من الأسماء التي لقيت حتفها، هناك عدد من الشعراء والكتاب الجزائريين الذين قادهم التأزم السياسي والاجتماعي في بلادهم إلى الانتحار، من أمثال الشاعرين فاروق سميرة وعبدالله بوخالفة. ومع ذلك، فإن هذه الأحداث الجسام وما جرّته من آلام، لم تفلح في إطفاء جذوة الروح الجزائرية المشتعلة. وما الأصوات الأدبية الجديدة هذه إلا الدليل الحي على روح المقاومة الجديدة في المجتمع.
بدءاً من مطلع التسعينات نشط الجزائريون، في ظل حالة انكسار الواحدية في المجتمع والسياسة، في تأسيس الجمعيات. كان ذلك بفعل دستور 1989 الذي جاء إثر أحداث في 5 تشرين الأول اكتوبر 1988 . وإذا كان السياسيون الجزائريون أسسوا في عام واحد ما مجموعه 64 حزباً وجمعية سياسية قامت على أنقاض حزب "جبهة التحرير الوطني" الذي قاد الجزائر إلى الاستقلال، فإن المثقفين والفنانين والرياضيين والاقتصاديين والزراعيين والحرفيين، وحتى قصار القامة الأقزام سوف يؤسسون في ظلّ "حمّى التعددية" ما يصل عدده إلى آلاف الجمعيات والروابط.
وفي الثقافة، فإن ثلاث جمعيات، على الأقل، يمكن اعتبارها الأبرز على مستوى التراب الجزائري، هي "جمعية الجاحظية" التي يرأسها الروائي الطاهر وطار، ويقع مقرها في شارع رضا حوحو في حي تقليدي محافظ، وجمعية "رابطة أدباء الاختلاف" وترأسها الشاعرة نصيرة محمدي، وليس لها مقر، حتى الآن، ويجتمع أعضاؤها في بيوتهم وفي المقاهي، أو في مقر اتحاد الكتاب الجزائريين، و"رابطة الإبداع" التي يرأسها الشاعر طاهر يحياوي، ومقرها في شارع محمد الخامس، وراء جامعة الجزائر. هذه الجمعيات، إضافة إلى اتحاد الكتاب الجزائريين ذي الطابع الرسمي، حتى الآن، تتقاسم الجسد الثقافي الجزائري.
في البداية استقطبت "جمعية الجاحظية" المثقفين والمبدعين الخارجين على مؤسسة "اتحاد الكتاب" الذين باتوا ينظرون إليه على أنه مؤسسة ترمز إلى الواحدية الآيلة إلى الزوال، فكان بين أعضائها المؤسسين كتاب وشعراء من أمثال واسيني الأعرج، بختي بن عودة، زينب الأعوج، يوسف سبتي، عمار مرياش، بشير مفتي، عمار بلحسن، سعيد بوطاجين، أحمد منور، رشيدة خوارزم، نجيب أنزار، منصف بوزفور، غنية سيّد عثمان، إدريس بو ذيبة، عادل الصياد، وعشرات غيرهم.
لكن "الجاحظية" سرعان ما اهتزت مكانتها بفعل غياب بعض أهم أعضائها بختي بن عودة، ويوسف سبتي اغتيالاً ، عمار بلحسن موتاً، واسيني الأعرج، رشيدة خوارزم، بشير مفتي، زينب الأعوج، عمار مرياش، وغيرهم.. انسحاباً. ولم تلبث الجاحظية أن تحوّلت إلى مجرّد مركز ثقافي يكافح لإبقاء الكلمة في المدى المجدي من اهتمام الناس، ولم تعد كما كان يحلم بها البعض من المبدعين الذين أسسوها موئل ثقافة جديدة مغامرة، لا سيما أن رئيسهاالطاهر وطار اتخذ، كما قال لي بعض الأدباء، مواقف سياسية باسم الجمعية تتوسط القوى السياسية المتصارعة ولا تقطع مع أحد، وهو ما كان يُعتبر، بالنسبة إلى عدد لا بأس به من أعضائها، ضرباً من الوسطية غير المستحبة، وبراغماتية تجدر بالسياسي أكثر مما تجدر بالأديب، ونأي بالذات عن صراع لا يمكن النأي بعيداً عنه. فالرصاص، في النهاية، كان بالمرصاد حتى لأولئك الأدباء الذين اعتبروا أنفسهم الأبعد عنه!
إلى جانب "الجاحظية" نشطت "رابطة إبداع" وضمت شعراء وكتاباً بعضهم كان ينتمي إلي التيار الاسلامي، أو هو في فضاء هذا التيار الذي وجد له رواجاً كبيراً خلال الفترة التي شهدت صعود "الجبهة الاسلامية للانقاذ". لكن مع انفجار العنف والتأزم السياسي الذي شهدته البلاد، ضمرت هذه الرابطة، بانسحاب البعض منها، وصعود البعض إلى الجبال للانضمام إلى الجماعات الإسلامية المسلّحة، وهو ما فعله الشاعر عيسى الحيلح أحد أبرز الشعراء التقليديين الذين أسسوا الرابطة.
ثالث الجمعيات المهمة، بالمعنيين النوعي والجمالي، هي "رابطة أدباء الاختلاف". وتضم بين أعضائها مبدعين من الجيل الأجد في ما يسمى بأدباء الحداثة الذين يطالبون بإحداث قطيعة جمالية وفكرية مع الماضي. لن أصف هؤلاء المبدعين، لئلا أصادر عليهم، ولن أتكلم نيابة عنهم، لكنني سأترك الندوة التي أدرتها معهم تتكلم بالنيابة عنهم.
يمكن القول أن هذه الندوة تقدم الصورة وقراءة الصورة من جانب مبدعين جزائريين يعتبرون أنفسهم الصوت الجديد والعين الجديدة والفضاء الجديد للثقافة في جزائر التسعينات. إنهم إلى جانب مسعاهم الإبداعي لتأسيس كتابة أدبية جديدة يتسلحون بنظرة نقدية للمجتمع الجزائري الراهن. ولعل ما يضاعف من أهمية عملهم أنهم مبدعون بالعربية، وأنهم مصرون على الكتابة بالعربية، إنما من منظور مختلف عن "العروبيين" الذين يصدرون عن موقف قومي أو إسلاموي. إنهم جيل التعريب الذي الذي ولد بعد انتصار الثورة سنة 1962وهم ضد تطرف النخبة الفرنكوفونية، لكنهم، أيضاً، ضدّ التعريب بإملاء من البنية الفوقية في المجتمع.
"أدباء الاختلاف" هم صورة للجيل الجديد الذي ما أن خرج من تحت هيمنة الحزب الواحد حتى بات مرشحاً ليكون ضحية الصراع الدامي بين القوى والاتجاهات المتصارعة على السلطة.
وعلى رغم أن هناك تكالباً على هذا الجيل من قبل القوى السياسية المختلفة في محاولة استقطابه وتجنيده في صفوفها، إلا أن هذا الجيل يبدو ضد كل شكل من أشكال السلطة. إنه يدعو إلى أخذ الفرد وقضاياه على محمل من الجد أكبر من ذي قبل. لذلك نجدهم يتكتلون ويتجمعون كأفراد لا يجمع في ما بينهم من أيديولوجيا سوى عقيدة "أن نختلف لنتحقق" كأفراد يجتمعون تحت مظلة "الاختلاف". وهم كذلك لأن لهم الحق كلّ الحق في أن يكونوا مختلفين، ويرون أنفسهم عجيبين لأن المجتمع الجزائري القائم على تنوع ثقافي كبير: الإسلام، العروبة، الأمازيغية أي الإفريقية والعربية، زائد ثقافة فرنسية زائد جيل جديد من المتطلعين إلى الانكليزية وثقافتها في زمن هيمنة العولمة.
ندوة أدباء الاختلاف تضيف إلى القاريء العربي، بما تنقله من قلق هذا الجيل وتطلعاته وأفكاره، معرفة بما قد يجهل تفاصيله إلى وقت طويل بفعل الانقطاع المشرقي عن الجزائر.
ما هو أبرز ما يجمع بينكم، وهل إن هذا اللقاء كان ضرورة أدبية وفكرية، أم أنه تحقق لمجرَّد أنه كان متاحاً وممكناً في ظلّ ظروف سمحت بتأسيس جميعات أدبية وثقافية في الجزائر؟
نصيرة محمدي:
أظن ان اجتماعنا كجيل جديد في ظلّ رابطة أطلقنا عليها اسم "رابطة كتّاب الاختلاف" تم في ظل لحظة فقد، وفي ظرف شعرنا معه أننا جيل يعيش اليتم الثقافي، في ظلّ عدم وجود متكآت ثقافية ومعرفية نستند إليها. نحن تشكل وعينا إثر هزَّة تشرين الاول اكتوبر 1988، كانت هناك اسئلة صارخة تشغلنا، لم نكن نعي تماماً ما كان يحدث لوطننا الجزائر، لكننا في غياب مناخ ثقافي صحي تقاطعت هواجسنا واشتركت أحلامنا لكي تنبثق روح جديدة في ظلّ مأساة كبيرة نعيشها في الجزائر.
وجودنا معاً هو، في نظري على الأقل، ضرورة كانت لها حتميتها، انتجتها معطيات وسياقات اجتماعية وثقافية. ونحن، كجيل جديد، لنا أفكارنا وأحلامنا وتطلعاتنا الكبيرة المشتركة في خلق رؤى تجمع الحساسيات الثقافية المختلفة.
الثقافة في الجزائر مُغَيَّبَة. هناك مثقفون، لكن الثقل الثقافي غير موجود.
نحن معزولون عن العالم ثقافياً، والعناصر المحركة التي كانت موجودة، من امثال الكاتب الراحل بختي بن عودة، ودّعت الجزائر إما اغتيالاً أو هجرة، الأمرالذي ضاعف من يتمنا. بختي بن عودة كان صديقاً نجتمع معه وتقاطعنا معه في اسئلتنا الموجعة، وفي قلقنا الكوني في ظلّ الظروف الدموية التي تعيشها بلادنا.
اللحظة التي افقدتنا بختي بن عودة اغتيالاً جعلتنا نفكر في أن نتحمل المسؤولية في صورة انضج واكثر حركية، وهو ما جعلنا نهتدي إلى تأسيس هذه الرابطة، التي سرعان ما وجهت إليها اتهامات وانتقادات كثيرة. بينما كانت تكسر الجمود بقولها، أو بمحاولتها قول المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع.
نحن كشباب في مجتمع جزائري نشعر ان مجتمعنا يقوم على تنوع وغنى كبيرين.
وبسبب الفراغ الذي وجدناه يهيمن على اللحظة الجارحة والحادة، وعلى ضوء الظروف التي لمستَ بعضها في بلادنا، امتلكنا جرأة المغامرة، واقتحام اللحظة بتأسيس الرابطة لنعبر من خلالها عن أنفسنا، وعن أفكارنا وروحنا التي نعتقد أنها جديدة، لكونها أفكار جيل يحاول ان يحقق اختلافه بواسطة جماليات أدبية جديدة ووعي نقدي للثقافة واطرها الاجتماعية.
أبو بكر زمّال:
ليس فقط إطار "رابطة كتاب الاختلاف" هو الذي جمعنا، بل قبلاً الحياة المشتركة في مدينة الجزائر، وهي حياة بالغة التعقيد. التأسيس لم يكن بطبيعة الحال بسبب ردّ فعل على واقع، وإنما جاء ثمرة تفكير أوسع، وأيضاً بشيء من العفوية. من جهة ثانية نحن، قبل أن نؤسس الرابطة، كنا أشخاصاً فاعلين في أطر ثقافية أخرى، وكان لنا نشاطنا في ملتقيات أدبية وثقافية. أقصد لم يكن احساس الواحد منا بالتهميش الشخصي هو ما دفعنا إلى تأسيس الرابطة، وإنما إحساس بأن الجزائر تعيش لحظة انتقالية فيها ما يموت وما يولد، وما يتغيّر. ولا بد من إطار فكري وثقافي يجعلنا نستوعب المتغيرات ويساعدنا على تطوير أدواتنا الفكرية ورؤيانا الجمالية، بصدد ما يجري في الثقافة وفي المجتمع. نحن، إذن، بصدد بناء مختبر للعلاقة بين الفكرة المشتركة والأفكار المختلفة، وهي محاولة، بالتالي، لاستثمار المناخ الذي ولد إثر انتفاضة أكتوبر لتكريس التعددية في الكتابة والتفكير، والتصريح، والحوار مع الآخر المختلف فكرياً وثقافياً في مجتمع يقول انه بات يسمح بالتعددية. إننا نجرب، إذن هذا "الادعاء" نمتحنه، ونحاول في المناخ الذي يتيحه قول انفسنا كجيل أدبي وشعري جديد.
آسيا موساي:
بشكل عام نرى جيداً ان الوضع الثقافي والحضاري، عموماً، في الجزائر، هو وضع متخلف. ما يزال يُنظر إلى المثقف، هنا، في الجزائر على انه مرتزق، أو انه مشروع مغامر لكسر سلطة سياسية ما، باستمرار، وينظر إلى الكتاب والمنتوج الثقافي عموماً كما ينظر إلى البضائع الممنوعة التي يتعقب مهربوها على الحدود. هذا يحدث عربياً، وهذه الصورة عربية بامتياز، لكن في الجزائر هناك ما هو حتى أكثر من ذلك. فلدينا ما هو مشترك في تخلفنا مع اخوتنا العرب، لكن أيضاً، لدينا خصوصيات أخرى تجعل الفراغ الثقافي أعمق. لدينا في الجزائر مأزق الهوية، ولدينا قضية اللغة التي لم تناقش كما ينبغي، لدينا مشاكل حول دور المثقف، والكاتب المهمش الذي لا يجد من يقرأ له. المجتمع الجزائري في التسعينات لم يعد كما كان قبلاً، إنه مجتمع قليل القراءة. لدينا أصولية دينية لم تقرأ الدين قراءة ثقافية حقيقية، ومع ذلك فهي تدعي بأنها حارسة الأصول. لدينا بالمقابل، أيضاً، أناس يدعون انتماءهم إلى افكار العصرنة، لكنهم لا يملكون آليات العصرنة والحداثة. وكل هذه وغيرها من القضايا والموضوعات هي أقرب إلى الاستعمال السياسي والمزايدة السياسية، والاغراض الايديولوجية، وبالتالي فهي لم تناقش علمياً ومعرفياً او حتى أكاديمياً، على سبيل تفكيكها وتحويلها إلى نقاط اختلاف وتعدد وتنوع، بدلاً من أن تكون نقاط اختلاف وتأزم. نحن في "رابطة أدباء الاختلاف" قلنا ببساطة اننا لا نريد ما يريده، عادة، الكتاب الذين يستعملون الكتابة كمطية للوصول إلى اهداف معينة. تنازلنا، منذ البداية، عن هذه الأشياء، وقلنا دعونا نعمل، دعونا نطرح هذه الأسئلة ونناقشها بعيداً عن كواليس السياسة ومجالاتها، بطريقة فكرية ومعرفية على سبيل المساهمة من جانبنا، كجيل جديد، في تفكيك الآليات التي تجعل من مجتمعنا مجتمعاً متخلفاً. إننا نتساءل، ونريد ان نستمر في التساؤل: لماذا نتخلف، لماذا لا نستطيع ان نملك آليات التقدم؟
هذه هي الخلفية، والأفكار الأولى التي تجمع في ما بيننا. ويشفع لنا اننا نضع لمساتنا الأولى، خطواتنا الأولى على هذا الطريق، ونحن نعتقد ان الطريق امامنا طويلة، وربما تكون شاقة. ما نقوم به هو حركة في الوعي، عبر الندوات التي ننظمها والمحاضرات التي نعقدها، والتي يعتقد كثيرون أنها غير ذات فائدة، لكننا نؤمن أن تراكم الفعل، وتراكم المعرفة عبر الزمن، ومحاولة اجتذاب الناس إلى عملنا، كل هذا سيؤدي إلى شيء ما سيكون مُهماً، مَهما كان يبدو صغيراً. هذا ما نحاول ان نعمله.
هناك مجموعة من النقاط نود أن نطرحها معكم. مثلاً: لمن تقرأون في العالم العربي، من هم الشعراء والأدباء الذين تشعرون بقربكم منهم، وتعتقدون ان كتابتكم ترتبط بأواصر جمالية وتعبيرية مع كتاباتهم.. أين تكمن مرجعيتكم، إن على صعيد الثقافة العربية، أو على صعيد تكوينكم الخاص داخل النسيج الثقافي الجرائري؟ ثم هل تشعرون انكم في حالة حصار داخل الأزمة التي تعصف ببلادكم؟ وهل انتم في حالة اتصال مع الأجيال الأدبية الجديدة في العالم العربي، أم انكم في حالة انقطاع عنها، وقبل كل هذا، ما هو توصيفكم للوضع الثقافي والإنساني في الجزائر، وما هو تصوركم لدور الثقافة في الخروج من الأزمة، إذا كان في وسع الثقافة ان تفعل شيئاً.؟ أخيراً، ما هو تصوركم لعلاقة الثقافة بالسياسة وبالسلطة؟
جاءت "رابطة كتاب الاختلاف" كثمرة نضال ثقافي طويل العمر، لجيل ثقافي جديد حاول البعض كسر شوكته عندما اعتبر انه بات يشكل الرهان البديل في الثقافة الجزائرية.
جاءت أيضاً كتنويع لمرحة بدأت معالمهاتتحدد منذ هبة اكتوبر 1988 مع انهيار الخطاب الأحادي وسقوط نظام الحزب الواحد.
لاحظنا ان مطلع الثمانينات شهد ظهور أصوات جديدة رفضت ان تكون ظلالاً لأجيال سابقة، خصوصاً ان الاجيال السابقة كانت في معظمها أحادية في توجهاتها، ومقسّمة ايديولوجياً بين الإسلاميين والشيوعيين وغيرهم. لكن بعد العام 1988 بدأت تظهر حقيقة التنوع الثقافي في البلد، وراحت الحساسيات المهمشة تبرز، وتعلن عن خطابها. بدأنا نعرف أن في الجزائر هناك خطابات بينها العروبي، والأصولي، والديمقراطي، والأمازيغي، ولا يمكن لرابطتنا ان تنفصل عن كل هذا التنوع دون ان تعترف به وتحاوره وتفتح معه جدالاً حول مستقبل الجزائر ثقافياً.
بالنسبة لنا الاختلاف هو دعوة لمسايرة تطلعات وأشواق النص الجديد نحو فتوحاته ومغامراته، من دون ان تكون هناك أية حزازة. لقد بدأ النص الجديد يعلن عن نفسه كقطيعة مع النصوص السابقة مع مجموعة من الأصوات التي فتحت هذا الشق داخل جدار النص الأول.
نذكر هنا الشعراء عبدالله بوخالفة، فاروق سميرة، نجيب أنزار، عادل الصياد وغيرهم ممن حاولوا منذ البداية اختراق النص الايديولوجي المتكلس، وحتى الركيك على مستوى الكتابة، خروجاً نحو نص مختلف.
الاختلاف، ايضاً، بالنسبة لنا رفض لأبوية الأب، الذي يراقب ويشهّر بكتابتنا باعتبارنا نحاول ان نرفض اي وصاية ثقافية أو سياسية، لاننا نرى ان مصدر كل البؤس الثقافي في الجزائر هم جيل الأبوية المريضة بالزعامة والإقصاء والأحادية. والتي تحاول، باستمرار، ان تكون وصية على الكتابة الجديدة. أحياناً يفسح للكتابة الجديدة المجال باغراءات بسيطة، لكن هذا يحدث ليس بهدف دفعها نحو مزيد من المغامرة، وانما على سبيل قتلها، ودفعها حتى إلى الانتحار أو الإنهيار. الاختلاف، بالنسبة لنا أيضاً، دعوة إلى تقديس الحرية، والتي تعني لنا في هذه اللحظة الجزائرية ذات الطابع الدموي ان تكون مصاغة بطريقة تتعشق الخروج عن الأصل المشوه.
رؤيتنا لدور الثقافة في اللحظة الحاضرة تتم عبر إعادة طرح الأسئلة الحقيقية المغيبة في الواقع الجزائري. هناك ثوابت فرضت من دون ان تناقش، وهناك مسائل كثيرة تطرح كبديهيات وهي كانت في الحقيقة في لب الصراع الدموي الذي نعيشه. فعندما نقول أن الإسلام دين الدولة، وان اللغة العربية هي اللغة الرسمية في الجزائر، نطرح السؤال التالي: هل العربية هي حقاً اللغة الرسمية في الجزائر؟ ألا توجد هناك لغات كما تقول الباحثة خولة طالب الابراهيمي في الجزائر تحتاج منا إلى طرح السؤال حولها؟ وعندما نقول ان الإسلام هو دين الدولة "فماذا يعني ذلك؟ هل يعني، مثلاً، انها دولة علمانية، ام انها دولة دينية بشكل مختلف عن النماذج الأخرى للدولة الدينية في العالم العربي؟
هذه المسائل تبرز لنا، الآن، كنقاط أساسية من الضروري مناقشتها، بل لا يمكن تفادي مناقشتها. ونحن في"رابطة كتاب الاختلاف" قمنا بعدة ندوات ومحاضرات حول قراءة النص الديني دامت مدة شهر، وفي كل مرة كنا نتناول مسألة ذات طابع اشكالي ونطرحها على النقاش، وكذلك قمنا بندوات حول قراءة الخطاب السياسي في الجزائر، وتاريخ الحركة الوطنية، وحاولنا ان ننبش في هذا الماضي المغلف بالتقديس والبطولات التي تبلغ أحياناً درجة اسطورية، من دون ان نصل إلى عمق المسائل الجوهرية التي يمكن ان نصل إليها. بالنسبة إلى المرجعيات الجمالية، فنحن في "الرابطة" لا نتبنى خطاباً مشتركاً فكل كاتب او مبدع ضمن جماعتنا له ميوله الايديولوجية والثقافية والسياسية الخاصة. نكاد نقول اننا نحاول ان يكون "الاختلاف" هو الذي يؤالف في ما بين طروحاتنا، لكننا، بطبيعة الحال، نحاول ان نتقاطع مع شعراء وكتاب الحداثة العرب، وإن كانت ثقافتنا في الجزائر تسمح لنا ان نحتك، في الدرجة الأولى، بالثقافة الفرنسية.
نصيرة محمدي:
أريد ان أوضح أن النقطة الأساسية التي جمعت بين اعضاء "كتاب الاختلاف" هي تلك الحساسيات الفكرية والجمالية المختلفة، وايضاً الصداقة التي نعتبرها الفضاء الأول الذي سمح لنا بالتواصل الحر والمفتوح بكل أشكاله. نحن انطلقنا من نقطة اساسية مفادها ان المثقف الجزائري لم يتخذ مواقف ايجابية منذ فجر الاستقلال وحتى الآن، المثقف الجزائري، ما عدا استثناءات قليلة، كان سلبياً. وهناك شكلان للمثقف لدينا. هناك ذاك الذي احتوته السلطة ودجنته، وهناك الآخر الذي اختار الهامش ليحافظ على نقائه، لكنه، بالمقابل، آثر الصمت، ولم يعبر عن مواقفه الشجاعة حتى حيال المأساة الدموية في الجزائر.
هواجس الكتابة الجديدة، انها تغوص في الحياة وأوجاعها، تعبّر عن اشواق الجيل الجديد، لكن بلغة ترفض النبرة الفقهية، او تلك المعبأة بالايديولوجيات، لأن الكاتب عندنا كان احادي النظرة غالباً، وظل ينطلق من ايديولوجيات الحزب الواحد، وهو مثقف استغلته السلطة بشكل بشع، إلى درجة انها مسخته تماماً في بعض الحالات. ايضاً، فإن النصوص التي نكتب هي نصوص متمردة تقف في الهامش لتقول حريتها، وتقول ألم اللحظة بصورة عارية، وتحاول ان تمتلك ادوات متقدمة لصياغة خطاب نقدي للثقافة، مغامرٍ في الادب، مؤسسٍ في الجمال.
بشيرمفتي:
ربما ان من مظاهر البؤس الثقافي في الجزائر اننا تربينامنذ الصغر على كراهية اسماء ثقافية وأدبية معينة، من دون ان يعلموننا كيف نقرأ ونفحص ما نقرأ، إذا كان ثمة سبب لنبذ كتابة ما. كاتب ياسين مثلاً كان من الأسماء الثقافية العالمية التي ربتنا المدرسة الوطنية للكتابة على رفضها، فقط لأن كاتب ياسين كان يدعو فكرياً إلى خصوصية جزائرية، كان علينا ان نحترمها في حقيقية الأمر.
هناك اسماء ادبية وفكرية كثيرة كانت ملغاة من الذاكرة الإبداعية الجزائرية، فقط بسبب مواقفها النقدية الشجاعة، هذه الأسماء التي نفيت داخل ثقافتها، بل أقول طردت من ثقافتها، كانت وما تزال تشكل مصدراً من مصادر السؤال الفكري والجمالي الشجاع بالنسبة إلينا، ومصدراً من مصادر الإلهام الأدبي احياناً. ونحن نجد ان اكثر هذه الأسماء الادبية هي لكتاب وضعوا ادبهم بالفرنسية من أمثال رشيد ميموني وكاتب ياسين ومولود معمري والطاهر جاووت، ومحمد ديب. وهؤلاء جزائريون اردنا ام ابينا، حتى لو كانوا كتبوا باللغة الفرنسية، لكن ذلك كان ثمرة سياسة عرجاء في الجزائر، لم تضع أي استراتيجية حقيقية للتعريب، وانما كان "التعريب" بالنسبة إليها شعارات مزيفة اساءت للعرب وللعروبة أكثر مما خدمتهما. لذلك نجد في الرابطة ان كتاب الجزائر بكل اللغات التي يعبرون بها، أكانت العربية ام الفرنسية ام الامازيغية، هم مصدر ثراء للتجربة الجزائرية في الأدب، وإن الوصول فيما بعد إلى جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد لن يتم ويقدر له النجاح بواسطة قرارات رسمية وانما عن طريق الحوار والتكامل بين هذه اللغات، وعن طريق وحدة المثقفين والمبدعين، لأن الصراعات التي دارت بين المعربين والفرنكوفون في صفوف المثقفين الجزائرين إنما كانت صراعات وهمية استخدمها "السياسي" في فترة من الفترات، من دون ان يفتح مجالاً للنقاش بين هؤلاء المثقفين حتى يتمكنوا من بناء أرضية مشتركة في ما بينهم. والذين حركوا دواليب هذا الصراع بين المعربين والفرنكوفون هم تجار اللغات، وبعضهم، للأسف، اذناب يخدمون في إطار سياسات خارجية ضد مصلحة وطنهم وثقافتهم.
* المشاركون في الندوة: نصيرة محمدي شاعرة، بشير مفتي روائي وقاص، أبو بكر زمّال شاعر، عادل الصياد شاعر، نجيب أنزار شاعر، آسيا موساي كاتبة وطبيبة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.