أعدت صندوق الاموال الى عرفات وودعته وجهاًً لوجه مع بشير الجميل وحكاية مشادتين في القصر انصاره كثيرون وخصومه كثيرون. وهو في المعادلة اللبنانية الحالية رقم صعب يتعذر شطبه ويستحيل تجاهله. انه نبيه بري رئيس مجلس النواب ورئيس حركة "أمل". في 6 شباط فبراير 1984 وجه بري الضربة القاتلة الى الجمهورية الأولى التي كانت أصيبت بجرح بالغ في "حرب الجبل" في 1983. فمنذ ذلك التاريخ بدأت عملياً المفاوضات لاعادة صياغة النظام اللبناني وتوزيع المقاعد والصلاحيات والمواقع والحصص. في 6 شباط انطلقت ورشة إزالة آثار الاجتياح الاسرائيلي في 1982، وبدأ عملياً عصر الادارة السورية للسلام اللبناني. لكن قصة نبيه بري بدأت قبل ذلك، وتحديداً منذ اليوم الذي جلس فيه الى جوار الامام موسى الصدر وبعدها منذ الساعة التي اختار فيها اطلاق المقاومة ضد اسرائيل. لم تبخل عليه الطائفة الشيعية بالدعم وكان الجنوبيون الاشد سخاء. وفي 1992 سلمته الجمهورية الثانية مطرقة رئاسة مجلس النواب بعدما كانت "امل" سلمته رئاستها في 1980. متكئاً على رصيده في حركة المحرومين وعلى رصيد الموقف المقاوم لإسرائيل وعلى علاقة ثابتة مع سورية، خاض بري الثمانينات فحارب وحورب وتعذر الانتصار عليه. وخصومه يقولون ان تحالفاته حصنته ضد الخسائر او الهزائم. لا تكتب قصة الاحداث التي عصفت بلبنان منذ مطلع الثمانينات من دون التوقف طويلاً عند دوره. وتبقى سلسلة "يتذكر" ناقصة ما لم تتسلل الى ذاكرته وها هو يتذكر. تحدث بري عن بدايات علاقته مع الامام موسى الصدر وتجربته معه ابان حرب السنتين وصولاً الى تغييب الامام خلال رحلته الى ليبيا وما تبع الحادث من تحقيقات وما توافر من معلومات. حكى عن الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982، معتبراً ان أول رصاصات المقاومة اطلقت في معركة خلدة. وتحدث عن رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت. وروى قصة 6 شباط بما لها وما عليها. وتطرق الى الحروب مع الحلفاء والى حرب المخيمات ايضاً. وكشف ان البريطانيين فاوضوه لاطلاق الطيار الاسرائيلي رون آراد... لكن مصطفى الديراني المحتجز حالياً في اسرائيل انشق عن "امل" وأخذه معه. وتحدث عن خطف "امل" ركاب طائرة ال "تي. دبليو. اي" الاميركية من خاطفيهم بعدما تأكدت خطورة الحادث. وأكد بري ان "الترويكا" ماتت ودفنت وتحدث عن علاقته بالرئيسين الياس الهراوي ورفيق الحريري، مشيراً الى ان تعبير الرئيس الدائم غير صحيح في لبنان، ومذكراً بالقول الشهير "لو دامت لغيرك ما وصلت اليك". قال بري أنه عمل باستمرار من أجل بناء الدولة والمؤسسات وعرض دائماً تخطي منطق الحصص في التعيينات محملاً الآخرين مسؤولية التمسك بهذا المنطق. واعتبر أن اللبنانيين هم الذين يتسببون في تدخل سورية في ملفات لا تريد التدخل فيها أصلاً، وقال: "غيري يذهب ويشكوني إلى دمشق". حاورت سلسلة "يتذكر" أبرز اللاعبين اللبنانيين في العقدين الماضيين: حسين الحسيني، صائب سلام، رفيق الحريري، ميشال عون، ريمون اده، وليد جنبلاط، سمير جعجع، فؤاد بطرس، محسن دلول، كريم بقرادوني، جورج حاوي، جوني عبده، نايلة رينيه، معوض وصولانج بشير الجميل. وكان الغرض من هذه الحوارات قراءة الماضي القريب الذي صنع الحاضر وعبر تعدد الأصوات واختلاف المواقع. وكان واضحاً أن القارىء اللبناني ومعه القارىء العربي المهتم يتطلع إلى رحلة في ذاكرة لاعب كبير بحجم نبيه بري. ولد نبيه بري في 1938 في سييراليون ودرس الحقوق في الجامعة اللبنانية وقاد تحركات طالبية قبل ان ينتقل الى المحاماة ومنها الى السياسة. متزوج وله تسعة أولاد وهنا نص الحلقة الأولى: في السادس من حزيران يونيو 1982 حصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان، هل كنتم تتوقعون اجتياحاً بهذا الحجم؟ واذا توقعتم ماذا كانت استعداداتكم لمواجهته؟ - في الحقيقة ان الجواب هو نعم ولا. عادة في تذكر شيء مضى يحب الانسان ادعاء امتلاك معلومات لم تكن لدى غيره، لكنني سأرد مستنداً الى وقائع: قبل الاجتياح بحوالى اسبوع حصلت صدامات في اكثر من بلدة من بلدات الجنوب، وكانت قوات منظمة التحرير الفلسطينية تطوق نحو 16 قرية من بينها البيسارية والانصارية واللوبية وغيرها. كان ذلك تحديداً في 28 أيار مايو و29 منه. وتوجهت شخصياً الى الجنوب بعدما عقدت اجتماعات عدة مع ابو عمار وقيادات فلسطينية اخرى في محاولة لوقف النزف. وشارك في الاجتماعات التي كانت في اطار لجنة التنسيق العليا ممثلون للحركة الوطنية اللبنانية وللاخوان السوريين. توجهت الى الجنوب وعقدت اجتماعين احدهما في النادي الحسيني في اللوبية والآخر في النادي الحسيني في الانصارية. وطلبت من كل الافرقاء من قوى فلسطينية ويسارية لبنانية، اضافة الى حركة "امل"، حضور اللقاءين. وفي واحد منهما قلت لهم الآتي: اذا دخلت اسرائيل الآن، وأظنها تعد لذلك، أما زلتم منظمة التحرير، انتم المسؤولين عن أمن الجنوب، تملكون الرصاص لمقاتلة اسرائيل بعدما استخدمتموه في المواقع الداخلية اللامسؤولة ضد الاهالي وضد القرى وضد حركة "امل"؟ اعتقد بأنكم لم تعودوا تملكون سلاحاً، وان كان لا يزال لديكم منه فهو ليس كافياً. لذا يفترض ان تحدث مصالحة وان يفك الحصار عن القرى. كنت أخاطب الفلسطينيين والقوى الوطنية و"أمل". لم تنقض أيام على هذا الكلام حتى دخل الاسرائيليون. لم تكن لديّ معلومات مؤكدة لكن الاجواء كانت تنذر بشؤم ما وخطر كبير، خصوصاً ان تصريحات الاسرائيليين في تلك الفترة كانت تنبئ، بعزمهم على القيام بعمل ما. لكن ما لم أتوقعه هو مدى الهجمة الاسرائيلية ومساحة الاجتياح فقد كان الكلام الاسرائيلي يدور على البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية، وكان الاعتقاد السائد ان اي امر عسكري سيقتصر، اذا حصل، على محاولة كسر البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية بدءاً من الجنوب. وقد ترافقه طلعات جوية لضرب المواقع الفلسطينية خارج الجنوب. لم يكن احد على الاطلاق ينتظر ان يصل الاسرائيليون الى بيروت لتصبح أول عاصمة عربية تحتل وتدمر بعد القدس. على ابواب العاصمة أين كنت عندما بدأ الاجتياح؟ - كنت في مقر قيادة حركة "امل" في برج البراجنة في ضاحية بيروت، وهو لا يزال موجوداً حتى الآن، ورحت أتابع مع مجموعة من قادة الحركة اخبار الاجتياح ونتخذ بعض الاستعدادات الاحتياطية. فجأة وصلني خبر مفاده ان الاسرائيليين وصلوا الى مداخل خلدة خلال اقل من 36 ساعة من بدء الاجتياح. للوهلة الأولى لم أصدق واعتقدت بأن ثمة بلدة في الجنوب اسمها خلدة وأنا لا أعرفها! لم أتصور مطلقاً ان يصل الاسرائيليون بهذه السرعة الفائقة الى خلدة ومشارف بيروت. وبحركة، بوسعك تسميتها مدروسة بعفويتها انتزعت رشاش احد الشباب وركضت على الطريق في اتجاه المطار وخلدة. جرى ذلك في حضور كثير من الاخوة الحركيين وبينهم النائب السابق علي عمار اصبح لاحقاً في "حزب الله". ركض الشباب خلفي وردوني، لكن تلك الحركة اشعلت الحماسة فاتجه فريق كبير من شباب الحركة الى مدينة الزهراء، في اول خلدة، واتخذوا استعداداتهم. كان القرار واضحاً بالتصدي للاسرائيليين أياً كان الثمن. واستطيع القول جازماً ان المعركة الحقيقية الأولى التي تصدت للعدو كانت في ذلك الموقع وكانت نتيجتها تدمير دبابة ونصف مجنزرة وقتل من فيهما وأسر ناقلة جند اخرى، قادها الشباب الى مقر قيادة "امل" في الضاحية الجنوبية بعدما جالوا بها في شوارع بيروت، الأمر الذي أثار حماسة منقطعة النظير، فالتف الناس حول المقاومة. ترافق ذلك مع اجتماعات للتنسيق بيننا وبين الحركة الوطنية وقيادة منظمة التحرير. حوصرت بيروت فماذا فعلت في المدينة المحاصرة؟ - إثر بدء الاجتياح الاسرائيلي، وفي غضون ساعات، سقطت كل الاشكالات التي كانت قائمة بين "أمل" من جهة والمقاومة الفلسطينية و"الحركة الوطنية" من جهة اخرى. ونشأت في الواقع جبهة موحدة امام الخطر المشترك. وتركز البحث على سبل مقاومة العدو. وعقدت سلسلة اجتماعات في برج البراجنة وفي منزلي في بربور في بيروت واماكن اخرى، وانصبت كلها على اعداد مستلزمات الصمود والمواجهة. واتخذ بعض الاجتماعات طابعاً سرياً وكنا ننقل مقر الاجتماع من مكان الى آخر. كانت فترة الحصار قاسية وترافقت مع مطاردات جوية متلاحقة. في تلك الفترة نمت في منازل عدة احدها منزل شقيقتي ومنزل آخر لأحد شباب الحركة في الضاحية الجنوبية يبعد نحو 080 متر عن موقع برج البراجنة. لجأت الى ذلك البيت مع بعض شباب "أمل" ومنهم حسين الموسوي الذي كان نائب رئيس الحركة وزكريا حمزة الذي ترك الحركة الآن والشهيد محمود فقيه الذي انضم الينا قاطعاً زيارة كان يقوم بها لايران. لم أنم في بيتي في بيروت الغربية لكنني كنت خلال الحصار اعقد فيه اجتماعات ولقاءات. هل تعتقدون بأن الفصائل الفلسطينية قاومت طلائع الاجتياح كما يجب؟ - لم تحصل مقاومة جدية في الجنوب اللبناني، والدليل ما اشرت اليه، وهو ان الاسرائيليين وصلوا خلال 36 ساعة الى مشارف خلدة. هناك من قال ان حركة "فتح" تلقت امراً بالانسحاب من الجنوب؟ - لا علم لي بهذا الموضوع. ما أعرفه هو انني عقدت اجتماعاً في ملجأ تابع لمجلس قيادة "امل"، وفي الوقت الذي كان اخواننا الفلسطينيون ينسحبون من الجنوب اعطيت اوامر لقادة من "امل" بالتوجه الى الجنوب، وبينهم محمود فقيه المسؤول التنظيمي في الجنوب. وطلبت من هؤلاء التوجه عبر الشوف او اي طريق آخر للاتصال بالشباب في الجنوب. أدركنا ان علينا ان ننظم انفسنا لمعركة طويلة نوجه خلالها ضربات متلاحقة الى الاحتلال. هل تبين لكم ان ثمة اختراقات اسرائيلية لتنظيم حركة "امل" في الجنوب؟ - كانت "امل" في الجنوب، عشية الاجتياح، عرضة للضغط والمطاردة. كان ابن حركة "امل" ممنوعاً، ويا للأسف، من دخول صور وبلدات وقرى اخرى. كنا حركة شعبية اكثر منا حركة مسلحة. والواقع هو ان السلاح كان في يد المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وعندما حصل الاجتياح كانت الاجواء في الجنوب شديدة التوتر لكننا سارعنا الى توحيد الموقف في مواجهة الخطر الاسرائيلي. سأورد لك حادثة: خلال حصار بيروت أردت الاطمئنان الى شباب "امل" والحركة الوطنية الذين باشروا بناء دشم على مشارف بيروت، فتوجهت متخفياً في سيارتين والتقيتهم في موقع قرب كلية العلوم. واثناء عودتي طالعني فجأة حاجز ل "جبهة التحرير العربية" الموالية للعراق. وهم كانوا يطالبون برأسي. ارتبك السائق ولم يعرف ماذا عليه ان يفعل لكنني طلبت منه التوقف امام الحاجز وحييتهم فردوا التحية كأن لا دم بيننا ولا مشاكل. اضرب لك هذا المثل لأؤكد ان الصفحة المؤلمة التي سبقت الاجتياح طويت بسرعة بعد بدئه وانصرفنا الى تحصين المواقع وتوفير مستلزمات الصمود، ورحت أعد العدة لمسار المقاومة في المرحلة المقبلة. كانت مرحلة الحصار صعبة والغارات تتلاحق والقصف رهيب واسرائيل تمارس القنص بالطائرات. كان لا بد من التحرك بحذر شديد بعيداً عن استخدام الهاتف وايكال مهمة ترتيب اللقاءات الى اشخاص موثوق بهم. طبعاً، في تلك المرحلة كانت القيادات الفلسطينية مستهدفة اكثر من القيادات اللبنانية. هل تعتبر ان "امل" أدت واجبها خلال الحصار الاسرائيلي لبيروت؟ - أترك الجواب للقيادات اللبنانية او الفلسطينية او السورية، فقد عملنا جبهة واحدة. وأقول اكثر من ذلك ان حركة "أمل"، منذ ذلك اليوم بدأت تتصدر العمل المقاوم واستمر بزعامتها الى ما بعد 1984. مواجهة في هيئة الانقاذ شكل الرئيس الياس سركيس بعد بدء الاجتياح هيئة الانقاذ الوطني وكنت عضواً فيها مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وقائد "القوات اللبنانية" آنذاك بشير الجميل، ماذا حدث؟ - دعيت هيئة الانقاذ الوطني الى اجتماع في قصر بعبدا فرفضت الاشتراك فيه، واتخذ الاستاذ وليد جنبلاط الذي كان موجوداً في المختارة موقفاً مماثلاً. عندها عقد اجتماع لمجلس قيادة حركة "امل" في منزل الشيخ عبدالأمير قبلان وفي حضور القيادة الدينية الشيعية. وبعد المداولات ظهر اجماع على ضرورة حضور اجتماع هيئة الانقاذ. وعلى رغم ذلك طلبت وقتاً للتفكير. عدت حوالي الخامسة بعد الظهر الى منزلي في بربور واذا بالقيادات الفلسطينية تتوافد: ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة. وطالبوني باصرار بالمشاركة في الاجتماع على الأقل للتمكن من التقاط الانفاس. في هذه الاثناء ورد خبر ان الاستاذ جنبلاط لن يحضر إلا اذا نقلته سيارة السفير الاميركي فاشترطت عندئذ ان لا انتقل وحدي الى الاجتماع بل ننطلق معاً انا وجنبلاط من بيروت لأننا لا نعلم ماذا يمكن ان يحصل على الطريق. صعدنا معاً بعدما أمَّن الاميركيون الطريق ولم نتوقف عند أي حاجز اسرائيلي. وصلنا، وحصلت مشادة في الاجتماع بين وليد جنبلاط وبشير الجميل من جهة وبيني وبين بشير من جهة أخرى. لماذا المشادة مع بشير وفي اي موضوع؟ - كان فيليب حبيب مبعوث الرئيس الاميركي رونالد ريغان بدأ مهمته، والبحث في جوهره يتناول خروج الفلسطينيين من بيروت. وظهر في الاجتماع طرح يدعو الى اصدار بيان يطالب بانسحاب جميع القوات الاجنبية من لبنان وورد اسم القوات السورية قبل الاسرائيلية. تدخل جنبلاط وقال ان الموضوع هو موضوع الاجتياح الاسرائيلي فلماذا التطرق الى وجود السوريين؟ فقاطعه بشير ليقول ما معناه ان السوري محتل ايضاً فنرفز وليد وطلب من بشير عدم مقاطعته وتكهرب الجو فقال وليد لبشير: "انت متعامل مع العدو" فرد بشير "انت استقبلت شمعون بيريز". احتدم الجو فطلبت الكلام، وقلت: لا يمكن الحديث عن تشابه بين الوضعين السوري والاسرائيلي في لبنان فالفارق كبير. الجيش السوري جيش شقيق وجاء بناء على طلب لبنان وقاتل معنا وضحى، ونحن الآن امام العدو الاسرائيلي الذي اجتاح ارضنا. وحاول بشير مقاطعتي فتوقفت عن الكلام وطلبت منه التقيد بآداب الجلسة، خصوصاً انه لا يرأسها. وقلت له ايضاً انه حتى الكلام على الفلسطينيين الذين تقاتلنا معهم ممنوع الآن وان عملية التدمير الجارية لن تشل ارادتنا ومقاومتنا. واوضحت للمجتمعين ان البيان الوحيد الذي يمكننا التوقيع عليه هو البيان الذي يطالب بانسحاب اسرائيل من دون قيد أو شرط وبتعويض اللبنانيين من دون ان يؤتى على ذكر السوريين وحتى الفلسطينيين. بعدها رفعت الجلسة بسرعة لأننا سمعنا قصفاً شديداً. فخرجت الى شرفة القصر الجمهوري ولم أعد أذكر هل خرج وليد معي أم لا، وشاهدت الضاحية الجنوبية تحترق وحمم الحقد تنهال عليها. قلت ان هذا الضغط لن يجدي حتى وان دمرت بيروت عن بكرة ابيها وازيلت الضاحية من الوجود. وفي اليوم التالي جاء فيليب حبيب للمشاركة في الاجتماع وكان القصف مستمراً على الضاحية فانسحبنا أنا ووليد جنبلاط وقلنا لهم ان هذه الاجتماعات لن تصل الى نتيجة. وهكذا انتهت هيئة الانقاذ الوطني. "أحلاهما مر" من هي القوى التي برزت في معركة بيروت؟ - ونحن نتكلم عن دور المقاومة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، يجب الا ننسى دور القوات السورية. دفعت سورية ثمناً غالياً لتصديها للاجتياح الاسرائيلي للبنان. ضحى السوريون حتى حدود صوفر بما لا يقل عن 12 ألف شهيد. خاضت القوات السورية معارك مشرفة سواء على تلال خلدة وصولاً الى قلب بيروت أو في صوفر ومناطق اخرى، وكان لها الدور الأكبر في دعم صمود بيروت في تلك الفترة. وبعدها تأتي المقاومة الفلسطينية وكل فريق حسب حجمه. لم تكن لدى حركة "أمل" آنذاك مدافع ولم تكن للحزب الاشتراكي مدافع في بيروت. هيئة الانقاذ كانت واحداً من حدثين مهمين حصلاً في تلك الفترة. اما الحدث الثاني فهو خروج المقاتلين الفلسطينيين. اشتد الحصار على بيروت واستمرت عملية التدمير وتزايدت معاناة سكان العاصمة، وبدا واضحاً ان مهمة فيليب حبيب تنص على خروج المقاتلين الفلسطينيين وترحيلهم. في هذه الاجواء دعت القيادة الفلسطينية الى اجتماع عقد في ملجأ في منطقة برج ابي حيدر قرب ثكنة الحلو وشارك فيه قادة فلسطينيون وقياديون من الحركة الوطنية و"امل". وتحدث ابو عمار وفلسطينيون آخرون وأثاروا موضوع انسحابهم من بيروت او عدم انسحابهم منها. بمعنى آخر انهم طالبوا القيادات الوطنية والاسلامية اللبنانية بتحديد موقف. لتوفير مخرج؟ - توفير مخرج لانسحابهم. تناوب الجميع على الكلام بمن فيهم وليد جنبلاط، بينما لذت انا بالصمت. هل كان جنبلاط مؤيداً لخروج الفلسطينيين؟ - اعتقد بأنه لم يكن معارضاً. لماذا التزمت الصمت في الاجتماع؟ - لأنه لم تكن لديّ رغبة في الاذعان لشروط العدو ولم يكن بوسعي تحمل شرف المسؤولية الكبرى عن مصير بيروت وأهلها. بقيت صامتاً واذ بخليل الوزير ابو جهاد رحمه الله يقول: "سمعنا الجميع ولم نسمع الأخ نبيه"، فأجبت: "لم أطلب الكلام". تدخل ابو عمار وأصر على سماع رأيي فلم يمر ببالي غير شطر من بيت شعر يقول "امران احلاهما مر". وأضفت: أنا يا أبو عمار لا أقول للفلسطينيين انسحبوا من بيروت بينما الاسرائيلي يدكنا. تردد ان وليد جنبلاط ومحسن ابراهيم وجورج حاوي كلفوا مصارحة عرفات بأن وضع بيروت لم يعد يحتمل. - لم تكن ل "امل" علاقة بخطوة من هذا النوع. في النهاية اتخذ قرار الخروج. ماذا عن لقاءاتك مع أبو عمار بعده؟ - بعد اتخاذ قرار الخروج صارت تحركات ابو عمار اسهل مما كانت عليه، وبدأ سلسلة زيارات وداعية. وأذكر انه جاءني في الرابعة بعد الظهر وقال لي: "أنا لست قادراً على ان أحمل نفسي". كان الجو حاراً والأيام أيام صيام. وأضاف أبو عمار: "لم استطع الاستحمام منذ ثلاثة أيام". وكانت المياه متوافرة في المبنى الذي اسكنه لأنه نجا من القصف. قلت له: "ادخل واستحم" فرد "لا أحمل ثياباً داخلية" فاعطيته مما عندي. وبعد خروجه قال: "انا خارج من بيروت بملابسك والشعب الفلسطيني امانة لديك". اتفقنا على الالتقاء في ملجأ البيكاديللي في الحمراء للوداع في حضور قيادات اذ لن يتسنى للجميع وداعه عند الباخرة التي ستقله. وعندما غادر ابو عمار بيروت اكتشفت انه ترك صندوقاً يحوي مالاً لدعم الحركة أو لي لم أعرف. بالدولار ام بالعملة اللبنانية؟ - لم افتح الصندوق لكنني عرفت انه يحوي مالاً. تركته في مكانه. وفي المساء توجهت نحو البيكاديللي واعتقد بأننا كنا معاً أنا والوزير محسن دلول ونقلت الصندوق في سيارتي. كانت اجواء اللقاء حزينة وكانت هناك مجموعة قيادات وشخصيات: محسن ابراهيم ومحسن دلول وقيادات اخرى. القيت كلمات وداعية اشادت بالتضحيات وأعربت عن الأمل في انفراج. مشى أبو عمار معي مودعاً في اتجاه السيارة فانتهزت الفرصة لاعطيه الصندوق وقلت له: "اعتقد يا أبو عمار بأن لي وطناً على الأقل واعتقد بأن الشعب الفلسطيني يحتاج اكثر مني الى هذا المال". لم ينفع الحاحه ولا تدخل محسن ابراهيم وأعدت الصندوق اليه. في اليوم التالي أعلن رسمياً موعد المغادرة فتغير برنامجنا مرة اخرى. كنت اتفقت مع وليد جنبلاط على ان نلتقي في منزله في المصيطبة وان نتحرك من هناك واذا بأبو عمار يفاجئنا بحضوره الى المكان فتجمع الناس حول المنزل وخرج عرفات لوداع الناس المحتشدين في الشارع. كان الجو مؤثراً فعلاً. ما الذي قاله أبو عمار في تلك الساعة؟ - كان يردد انه سيغادر بيروت تاركاً الشعب الفلسطيني امانة في اعناقنا أنا ووليد. ويقول ان هذه المعركة ليست النهاية وان المهم متابعة الجهاد. وهكذا واكبت مع جنبلاط عرفات وودعناه عند الباخرة. وبماذا شعرت في تلك اللحظة؟ - سأحدثك بصراحة كاملة: الممارسات التي حصلت لم تكن تدفع الى الندب واللطم بسبب مغادرة ابو عمار. ولو رحل عرفات من دون وجود الاحتلال الاسرائيلي لكان الأمر اكثر ميلاً الى الفرح، ولكن مع وجود الاسرائيليين كان الأمر مختلفاً. انا شخصياً لم يكن لدي شعور بالحزن أو بالفرح وانما تملَّكني شعور بالغضب. حكي عن مشاركة لحركة "فتح" في تأسيس حركة "امل" وتسليحها؟ - هذا الكلام قيل ولم أكن حينها رئيساً للحركة اذ كان الامام القائد موسى الصدر اول رجل ذي عمامة يشجع على جمع التبرعات لدعم الفلسطينيين وما زالت كلماته، حتى في التاريخ الفلسطيني، تؤكد صحتها يوماً إثر يوم. ففي خطاب القاه في محلة الاونيسكو قال الامام الصدر: "أعلم يا ابو عمار ان شرف القدس يأبى ان يتحرر الا على ايدي المؤمنين". هل شارك عرفات في تسمية "أمل"؟ - يعود الفضل في تأسيس "افواج المقاومة اللبنانية - أمل" وتدريبها الى الامام الصدر، وذلك قبل الاجتياح الأول للجنوب 1978 خشية ان يصيبنا ما أصاب الفلسطينيين. في تلك الاثناء انشأ الامام علاقة مع المقاومة الفلسطينية وليس مع عرفات وحده وكذلك مع الاخوة السوريين. كان على يقين بأن لاسرائيل مطامع في الجنوب وانها ستجتاحه ذات يوم وان علينا الاستعداد للتصدي لهذا الاحتلال، وان عبء المقاومة يقع على اللبنانيين وليس على الفلسطينيين. واعتقد بأن اقتراح تسمية "افواج المقاومة اللبنانية" واختصار الكلمات الثلاث في ثلاثة حروف هي "امل" تردد اثناء وجود ابو عمار مع الامام الصدر ولم ينف الامام هذا الكلام وقد يكون صحيحاً. وهل شارك في التمويل والتسليح ايضاً؟ - لا، لا. خصوصاً بالنسبة الى التمويل. لم تأخذ الحركة في تاريخها قرشاً واحداً من أحد لا في فترة الامام الصدر ولا بعده، وكذلك الأمر بالنسبة الى السلاح. انا شخصياً استعنت لهذه الغاية باخواننا السوريين. هل يعني ذلك ان ابو عمار لم يسلح الحركة أبداً؟ - في عهدي لا. وقبل عهدك؟ - لم اكن قبل ذلك مسؤولاً عن هذا القطاع. كان الامام الصدر. ربما استعان بمصدرهم وربما بمصادر اخرى. لا استطيع النفي او التأكيد في ما يتعلق بتلك الفترة. من اطلق المقاومة من منزل كمال جنبلاط وجه محسن ابراهيم وجورج حاوي نداء للمقاومة، هل تعتبرون ان ذلك كان بداية المقاومة الوطنية؟ - لا. يتنافس كثيرون في تناولهم هذا الموضوع ويقولون ان المقاومة برزت مع هذه الحادثة او تلك. انا اعتبر ان المقاومة الوطنية اللبنانية بدأت فعلياً من مدينة الزهراء في خلدة، ولا أحد يستطيع نفي ذلك او اطفاء نور الشمس. التصدي الأول تم هناك وتغيرت نظرة الفلسطينيين الى حركة "امل" التي كانت متهمة بأنها عميلة للسلطة، وكان هناك من يروج انني التقي اسبوعياً جوني عبده مدير المخابرات في الجيش اللبناني آنذاك. ألم تكن تعرفه؟ - على الاطلاق لكنهم كانوا يروجون ذلك. كيف استقبلتم انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية؟ - شاركت آنذاك في الاجتماعات التي كانت تعقد في دارة الرئيس صائب سلام. الحقيقة اننا شعرنا بالغضب حيال النواب الذين تسببوا في اكتمال النصاب وانتخاب بشير لأن موقفهم كان بمثابة عملية غدر بنا. شعرنا بأن العصر الاسرائيلي بدأ وان الأمر سيكلف كثيراً. ولم تستغرق المسألة طويلاً فانتخاب بشير الجميل كان البداية الحقيقية او التمهيد لاتفاق 17 ايار. بالنسبة اليّ كان انتخاب بشير بداية لعصر اسرائيلي. وهل شعرتم بالارتياح لدى انتخاب شقيقه امين اثر اغتياله؟ - لا استطيع القول انني ارتحت فالمنحى نفسه كان موجوداً ولكن وعلى الطريقة اللبنانية المعهودة. ظهرت تحليلات تقول ان أمين ليس قائداً ل "القوات اللبنانية" وبالتالي ليست لديه الارتباطات التي كانت للشيخ بشير، وان الرجل يمكن ان يكون مختلفاً وان ليس من المنطقي ان نقيسه على شقيقه في كل شيء. ظهر كلام كثير بهذا المعنى في الأوساط السياسية والصحافية لكننا نحن، خصوصاً انا، لم أكن مطمئناً. لقاءات سرية وتخفٍ غداة اغتيال بشير الجميل دخلت القوات الاسرائيلية بيروت الغربية فماذا فعلت؟ - ان معظم قيادات الصف الأول في الاحزاب او التنظيمات اختفت من بيروت. كانت المرحلة دقيقة جداً وتستلزم وعياً واحترازاً. كان علينا ان ننسق الجهود لترسيخ خيار المقاومة واشعار المحتل بأن وجوده في ارضنا سيكون باهظاً بالنسبة اليه. كان لا بد مثلاً من طريقة لترتيب لقاء بيني وبين محسن ابراهيم. شخص واحد موثوق به يذهب للاتصال وترتيب الموعد مع شخص واحد موثوق به ثم يعقد اللقاء في مكان لا يثير الشبهة ومن دون مظاهر او حراسة. وكانت المرحلة تستلزم الاقامة في بيوت آمنة وتغيير اماكن الاقامة والتخفي. انا مثلاً كنت ألبس حطة وعقالاً او قمبازاً واحياناً اظهر في صورة رجل مسن وأركب شاربين وذقناً. ومحسن ابراهيم كان يتنكر ايضاً، يلبس قبعة أو أشياء من هذا القبيل. وعندما نصل الى المكان المحدد لا تعود هناك حاجة الى التنكر فنبدأ الاجتماع ويغادر كل منا المكان عبر الطريق الذي يعتبره آمناً. كانت لديّ نحو خمسة بيوت اتنقل بينها. عندما دخل الاسرائيليون بيروت الغربية كنت في شارع دخلوه وفي مكان غير بعيد عن منزلي في بربور. كنت في الشارع نفسه ولكن من الناحية الثانية. دخل الاسرائيليون ووصلوا الى المبنى الذي اسكن فيه اصلاً وسألوا عني. الاستاذ النائب زاهر الخطيب يسكن في الطبقة السادسة وأنا في الثالثة. نزل زاهر وتجادل مع الضابط الاسرائيلي وقال ان للبناية حصانة كونه نائباً وان لا حق لهم في الدخول. بعدها استقدم الاسرائيليون دبابة ضخمة من طراز "ميركافا" ووضعوها امام البناية وبقوا هناك نحو اربعة أيام لاعتقادهم بأنني داخل المبنى وانني سأضطر في النهاية الى النزول. وكنت قبل دخول الاسرائيليين بيروت الغربية عقدت مؤتمراً صحافياً في منزلي قلت فيه ان من الافضل للاسرائيليين ان يغادروا سريعاً كل الأراضي اللبنانية وليس العاصمة فقط والا فان احتلالهم سيتسبب في قيام مقاومة تجعلهم يترحمون على المقاومة الفلسطينية. كان ذلك في تموز يوليو وعندما اندلعت المقاومة ذكرت بهذا الكلام. كنت أبحث مع محسن ابراهيم في ضرورة اعادة انشاء المقاومة من جديد وان لا نعتمد على ما كان قائماً قبل الاجتياح، وان نعد بناء تحتياً جديداً لمقاومة لبنانية. وكنا نناقش المواضيع السياسية بعد اغتيال بشير واحتمالات المرحلة المقبلة. كيف تصف علاقتك مع محسن ابراهيم؟ - كان محسن لولب الحركة الوطنية، وفي ايام الاشكالات بين "امل" والحركة الوطنية كان بمثابة الصديق اللدود. في النقاشات والاجتماعات الكثيرة التي حصلت في دمشق وغيرها كان يعبر عن موقف الحركة الوطنية وكان موقفها الى جانب ياسر عرفات. الحقيقة انه كان لولباً ونشطاً. علاقتي معه قديمة جداً وهي علاقة شخصية على رغم الخلاف في الرأي الذي لا يفسد للود قضية. كيف تقوم مواقف مختلف القوى في معركة بيروت؟ - المواقف كانت جيدة، واعتقد بأن كل شخص أو فريق من القوى الوطنية قدم ما يستطيع تقديمه، تم التنازل سريعاً عن الحساسيات واعطيت الأولوية لمواجهة الاجتياح. طبعاً للأدوار علاقة بالاحجام وامكانات العمل لكن الجميع كانوا على مستوى المسؤولية الاسبوع المقبل: العمليات الاستشهادية وقصة آراد