مقرات خلال الحصار في بيروت المحاصرة اين كان مقركم؟ اين كنتم تجتمعون؟ - كنا فريق عمل واحداً مع ياسر عرفات و"ابو جهاد" وسعد صايل نقضي القسم الاكبر من الوقت في غرفة العمليات، نجتمع ونناقش ونتنقل من مكان الى آخر تفادياً للقصف احياناً وتمويهاً لمواقعنا في احيان اخرى. وكنا تحضرنا سابقاً فاخذنا في بيروت ملاجئ عدة بعضها في الطبقة السادسة تحت الارض. وكان مقري الرئىسي تحت سينما "مارينيان" اليوم قرب مدخل مستشفى الجامعة الاميركية ولم يكن احد يتوقع ان تكون في هذا المرآب غير المنجز تجهيزات لقيادة عمل شعبي وعسكري في ظل ظروف الحصار. هناك بقي معي عرفات حوالي شهر ونصف الشهر في الطبقة السادسة تحت الارض في آخر فترة الحصار. كان هناك سريران عسكريان وعندما اشتد القصف جاء عرفات واعجبه المكان، فطلبت من زوجتي التي كانت تزورني من وقت الى آخر ان تخلي مكانها لعرفات. كذلك في الطبقة السابعة من البناء نفسه كان جورج حبش. في مكان آخر قريب من سينما "كليمنصو" كان عندي ملجأ آخر في الطبقة السادسة تحت الارض في بناء على العضم لم ينجز بعد عقدت فيه اجتماعات قيادة المقاومة والحركة الوطنية، كان يأتي ابو عمار و"ابو جهاد" واحمد جبريل وجورج حبش وقادة الحركة الوطنية. وفي شارع كليمنصو ايضاً قرب السفارة الفرنسية كانت عندنا شقة وملجأ وقريب منها مكتب خصصته لجمع عرفات مع عدد من السفراء منهم سفيرا اليونان ويوغسلافيا، ومع مسؤولين اجانب كانوا يخرقون الحصار مثل وزير خارجية كوبا الذي جاء الى بيروت واجتمع معنا وأكد دعمه لنا. وحصل حادث طريف، اذ تناولنا العشاء جميعاً مع الرفيق وليد جنبلاط والوزير الكوبي الذي ابلغنا ان فيديل كاسترو قرر ارساله عن طريق الشام لتحدي الحصار والتعبير عن تضامنه مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية. وسأل ما هي مطالبكم؟ فنفر جنبلاط على طريقته المعهودة غير البروتوكولية واجابه: ماذا تستطيع ان تفعل لنا؟ هل تستطيع ان ترسل مالاً، مقاتلين؟ اسلحة؟ هذا كلام فارغ... فرد عليه الوزير الكوبي كمناضل وديبلوماسي جواباً ديبلوماسياً جعلنا نحرج من مطالبته على هذا النحو الامر الذي دفع جنبلاط الى اعادة الحديث بصيغة سياسية ومهذبة وتوطدت الصداقة بينهما. كان عندنا مقر في فندق "الريفييرا" على البحر. هناك استقبلنا وفد الفنانين المصريين وبينهم نادية لطفي ومحسنة توفيق. واذكر حادثة طريفة في هذا المجال. ففي نهاية مأدبة غداء اقمناها على شرف الوفد ضمت كل ما لذ وطاب من المآكل نظرت نادية لطفي الى احد اعضاء الوفد وسألته: "واحنا ايمتى حيجينا الحصار؟" ومتى يصلنا الحصار. انا لم اغادر بيروت الا بعدما خرج الاسرائىليون ومن اجل حضور تشييع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، ولا شك ان ترتيباتنا المسبقة وتقاليدنا السابقة في العمل السري جعلنا نحتاط لظروف الحصار. كنت اتخذت اجراءات فرضتها على المكتب السياسي لخروج رفاق لنا الى الخارج، كلهم رفضوا لكني بمسؤولية اردت هدفين: الاول تنشيط الحملة العالمية ضد الحصار الاسرائىلي في دمشق وعدن وموسكو وباريس وغيرها... والثاني سلامة قيادة الحزب مستقبلاً لتنشيط النضال مجدداً. واستجاب الجميع للقرار ما عدا الرفيق نقولا الشاوي رئىس الحزب الذي قال: "قراراتك صحيحة يا جورج. انت تريد المحافظة على امكانات النضال اللاحق اذا ضربت هذه القيادة سيكون هناك بديل اضافة الى العمل السياسي حالياً. انا مكاني هنا. انا اعطيت طوال حياتي واذا استشهدت في بيروت سيكون عطائي كبيراً، ورفض الخروج. والوحيد الذي قبلت منه الرفض نقولا الشاوي، ما عدا ذلك كلهم رفضوا وكلهم اجبرتهم على الخروج. "بكفاءة وصلابة" كم كانت صلابة عرفات في تلك المرحلة؟ - خلافي الآن مع عرفات كبير، لكن ذلك لا يعفي من القول انه كان صلباً جداً. لا احب المزايدات ولا اخشى الاتهام بالمزايدات. هو في طبيعته ميال الى الحلول دائماً، يعمل دائماً لعدم الوصول الى استعصاء، يبحث دائماً عن حل، وبالتالي يبدو مرناً وفي كثير من الاحيان يقدم تنازلات مجانية. ولكن في صمود بيروت كان يخوض المعركة بكفاءة وامانة. طبعاً هناك اخطاء شاملة منها لماذا وصلنا الى ما وصلنا اليه في بيروت يتحمل قسماً كبيراً من مسؤوليتها ياسر عرفات، ولكن غير صحيح القول انه تخاذل او كان يدعو الى التخاذل وان غيره كان بطل صمود بيروت. متى حدثكم عن الخروج من بيروت؟ هل صنع القرار بالتشاور معكم او مع الحلقة القريبة من عرفات؟ - الخروج من بيروت كان يبحث منذ اللحظة الاولى للاجتياح. ليس في اجتماع القيادة؟ - لا، ولا اكشف لك سراً اذا قلت ان اجتماعات القيادة كانت آخر مكان للقرار. هي للاخراج، واحياناً اخرى لانضاج القرار. على سبيل المثال، بعد الاجتياح الاسرائىلي الجزئي عام 1978 جرت مشاورات عن طريق الاممالمتحدة لوقف النار. ووقع خلاف على هذا الموضوع. نحن كنا ضد القرار كلبنانيين لان ارضنا احتلت ومن واجبنا القتال، لكنا قلنا للفلسطينيين انهم يمكن ان يقفوا وراء قرار الحركة الوطنية لأنها هي التغطية والاساس. جرت اتصالات شملت فرنساوالاممالمتحدة لوقف النار، وكان الصديق سمير صنبر ممثلاً الاممالمتحدة في بيروت. واعتبر عرفات القرار انتصاراً سياسياً يحمل اعترافاً اسرائىلياً بالفريق المقاتل الذي هو الثورة الفلسطينية. وبعد التشاور فهمنا نحن ان عرفات يريد ان يسجل هذا المكسب، وطلب ابو عمار ابلاغ صنبر الموافقة على وقف النار على ان يكون ذلك في الخامسة بعد الظهر. لفت نظر ابو عمار الى وجوب ان يدعو اخوته في القيادة المشتركة لبحث الامر لأن هذا الموقف اساسي وخطير ويهم الجميع، فقال لي: "سيبك، حنسمع مزايدات ودروس في الوطنية". فاصريت على دعوتهم ووافق، وكان الحضور كثيفاً. قلت في الاجتماع ان منظمة التحرير تستطيع ان تعلن وقفاً للنار فوق الارض الفلسطينية، نحن سنستمر في القتال حتى تحرير آخر شبر طالما الارض اللبنانية محتلة وهذا واجبنا. ويمكن ان نطلب منكم الا تقوموا بعمليات القشرة، اي عمليات داخل اسرائىل وليس على الحدود. وبعد تدخل مني ومن محسن وآخرين، اتفقنا على ان وقف النار هو مكسب لكن لا وقف للنار بشكل دائم وهو حالة موقتة في الجنوب. كان ذلك في حضور كل القيادات الفلسطينية فاستدعى ابو عمار قائد الكفاح المسلح آنذاك واسمه ابو حميد وقال له ان يتصل بصنبر، وكانت الثانية بعد الظهر، ليخبره بالموافقة على وقف النار في الخامسة. لكن ابو حميد "الذكي" رد بسرعة: حصل ذلك يا ابو عمار، لقد ابلغته منذ الصباح بناء على تعليماتك"... ضحك الجميع وعلموا ان القرار اخذ وبلّغ وان الاجتماع شكلي فقط. هذا هو واقع الثورة الفلسطينية ومأساتها، وهو واقع ومأساة السلطة الفلسطينية اليوم اذا كان الوضع لا يزال مستمراً. ومن الطرائف ايضاً ان شخصاً لا نعرفه حضر الاجتماع وكان باهراً في افتعال المشاكسات وتوتير الاجواء، فسأله عرفات: من أنت؟ فأجاب: انا ابو عدوي عضو المجلس الثوري ل"جبهة النضال". فرد عرفات حانقاً: "انا لا اقبل ابو عدوي الا بحضور سمير غوشة شخصياً، انا لا اقبل تمثيلاً ادنى من الامناء العامين". وضرب بيده على الطاولة طالباً من ابو عدوي الخروج من الاجتماع. فتدخلت ورجوت عرفات ان يبقيه لأن من حق كل فصيل في القيادة المشتركة للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية ان يتمثل بمن يشاء وبأي مستوى، فقبل ابو عمار على مضض. ومن حسن الحظ ان ابو عدوي ايّد موقف عرفات الذي بقي يستشهد فيه طيلة النصف الثاني من الاجتماع ويسأله: "مش كده يا بو عدوي... وابو عدوي رأيه ان نفعل كذا وكذا" ليصبح ابو عدوي قائداً تاريخياً في الثورة الفلسطينية. لنعد الى قصة الخروج من بيروت. الخروج كان موضع نقاش يومي. اما الآلية الفعلية لتقرير الخروج فكانت كما يلي: فيليب حبيب كان يتولى نقل الرسائل الاسرائىلية الى السلطة اللبنانية التي اختارت ضابطاً صديقاً للوطنيين والمقاومة هو اللواء نبيل قريطم لنقل الرسائل الى عرفات. وكنا نجتمع كل ليلة لنضع الاجوبة على الاسئلة. كان يشارك في الاجتماعات عرفات و"ابو جهاد" و"ابو الوليد" و"ابو اياد"، عندما يكون في حال صفاء وعدم حرد او انشغال آخر ونايف حواتمة، وياسر عبد ربه وصلاح صلاح، وهاني الحسن واحياناً ابو الزعيم، ووليد جنبلاط ومحسن ابراهيم، وسمير صباغ وفؤاد شبقلو ومنير الصياد وانا. انما بشكل عام في النهاية كانت هناك حلقة تسهر طويلاً قوامها عرفات و"ابو جهاد" و"ابو الوليد" ومحسن وانا. وعموماً لم يكن هناك اطار محدد لا يدخل اليه الا ببطاقة، مضافة ابو عمار كبيرة ومن يحضر يشارك. لم يعارض احد من عارض قرار الخروج من بيروت؟ - فعلياً لا احد. لا من الفلسطينيين ولا من اللبنانيين. كانت الامور تبحث: الخروج وظروف الخروج. اقول لا احد من المقررين، اما في الاذاعات والصحف كان كثيرون يدعون الى "مقبرة الصمود" و"نموت ولا نركع"... الى آخره. كنا على تنسيق دائم مع الجناح الثوري المتصلب لكن الواقعي ايضاً، اعني جورج حبش وحواتمة وكنا نبحث في مدى مؤاتاة استمرار الصمود ومكاناته. وكنا ندرك ان المواقف المتشددة المعلنة ل"الجبهة الشعبية" هي جزء من تكتيك تحسين شروط الحل، ولم يكن مطلوباً منها في الحقيقة ان تكون هي المفاوضة او القابلة بالحل. كان الدور التاريخي لها هو رفض الحل كي يتحسن وتصبح شروط الحل الافضل. وهنا النكتة التي رواها لكم هاني الحسن في "الوسط" والتي مع الاسف ذكرها ابو عمار على انها طريقة مني لابلاغهم موقفاً بالخروج من بيروت. في 12 اب اغسطس كنا في احد مقرات القيادة المشتركة في الطبقة الثانية من بناية نسفت كلها في الصنائع وكان عرفات متجهماً جداً في حضور "ابو جهاد" و"ابو الوليد" وحواتمة، فبادرته مع محسن ابراهيم بالسؤال: "مالك يا ابو عمار؟ هل اخافك القصف؟". وكان القصف استمر لمدة 12 ساعة توج بمجزرة سقط فيها اكثر من مئة قتيل في ملجأ في برج البراجنة. فقال: "تعرفان ان القصف لا يخيفني لكن الحال صعبة. الاميركيون يستخدمون الكومبيوتر معنا". ماذا كان يقصد بذلك؟ كان الاميركيون يسألون يومياً عن طريق فيليب حبيب الاسئلة نفسها وينقصون سؤالاً او اثنين او يزيدونها واحداً او اثنين ويقارنون الاجوبة على الاسئلة نفسها ومدى تطابقها. ونحن من طباعنا كعرب، وكلبنانيين وفلسطينيين خصوصاً، وبالأخص ابو عمار الالتزام الكامل بدقة الاجوبة مازحاً. من طبيعتنا ان نرد من دون عناية وان نجيب عن السؤال نفسه بشكلين مختلفين كل دقيقة. فكانت النتيجة ان الاميركيين ردوا بأن الاجوبة غير متطابقة. الاميركيون كانوا يسألون عن الاسلحة وانواعها والخروج وطريقته وبقاء مقاتلين، والاشراف على الخروج... الخ. وقال عرفات: "انهم يستخدمون الكومبيوتر معنا" فضحكت واصر على معرفة سبب ضحكي فاخبرته نكتة عن واحد من الصعيد زار القاهرة فوجد اناساً يلتفون حول كومبيوتر فسأل ما هو الكومبيوتر فاجابوه: تسأله فيجيبك ما تريد. فسأله: من انا؟ فأجاب الكومبيوتر: انت عبدالموجود ابن عبدالموجود مسافر الى طنطا في قطار الساعة الرابعة. ثم سأله مجدداً مع تغيير نبرة صوته: من انا؟ فرد الكومبيوتر الجواب نفسه، وكرر المحاولة مرتدياً ثوب امرأة مع كل الماكياج اللازم وشعر مستعار وسأله بصوت انثوي: من انا؟ فرد الكومبيوتر: "بلاش ملعنة يا عبدالموجود احسن ما يفوتك القطار". اعتبر ياسر عرفات هذا القول بمثابة دعوة مني الى عدم اللف والدوران لئلا يفوته القطار، ودون النكتة على دفتره الخاص. دفتر ابو عمار ما هو دفتر ابو عمار؟ - هو دفتر بطول 12 سنتم وعرض 8 يضعه في جيبه الخلفي ويسجل فيه كل الاحداث التي تمر عليه من صغيرها الى كبيرها. محاضر مختصرة، المواعيد، يعني للمذكرات لاحقاً. ومن الصدف اننا دعينا الى ليبيا بعد الخروج من بيروت وبعد مراحل عدة، وكانت جلسة نقاش بدأها الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بعتاب على خروج المقاومة من بيروت. وتعرفون ان القذافي كان ضد الخروج ومع الاستشهاد في بيروت كي تقوم الاجيال الطالعة بحمل الراية وتحرير القدس وهذا امر لم يكن يشاركه فيه القادة الفلسطينيون، حتى الذين يشاركونه هذا الرأي. في هذا الاجتماع انحى بعضهم باللائمة على عرفات، وكان عبدالسلام جلود وابو بكر يونس جابر حاضرين الى جانب القذافي. فرد عرفات: "انا خرجت من بيروت بطلب من الحركة الوطنية". فاجبته: "يا ابو عمار هذا نصف الحقيقة" فسحب الدفتر وقرأ النكتة، فسألني القذافي: هل هذا صحيح؟ فأجبت: نعم ونحن كنا متفقين مع الاخ ابو عمار على ما يلي: لا هدف لنا الا حماية الثورة في هذه المرحلة وانت عرفات تعرف ظروف الثورة وانها تقاتل في ارض هي غير ارضها ونراك محرجاً فان دعوت الى الخروج المبكر اتهمت بالتخاذل وان دعوت الى الصمود في بيروت حتى آخر لبنان اتهمت بانك تقاتل بغيرك. فكاً لهذا الحرج بينك وبين اخوانك في الثورة الفلسطينية وبين الثورة واللبنانيين خذ انت القرار ونحن نعلنه عنك. ان قررت الصمود فنحن نعلنه لنؤكد اننا مسؤولون عن شعبنا، وان قررت الخروج فنحن نطلب ذلك كي نحميك امام رفاقك في قيادة الثورة. من صاغ هذا المخرج؟ - انا. اما بالنسبة، الينا فنحن باقون ولن نخرج، وسنقاتل بعد خروجك، وواثقون ان اسرائىل لن تكتفي بخروجكم وستدخل بيروت بعد خروجكم، فادرك ابو عمار ان هذا القول مسؤول ولم يعارضني. من كان يفاوض السلطة اللبنانية؟ - المفاوضات الرسمية كانت كما ذكرت. لكن لعرفات خطوط دائمة وخيوط. فهم اجتمعوا في مدريد مؤتمر السلام ثم اكتشفنا ان الخيوط والخطوط اوصلت الى اوسلو من بسام ابو شريف الى ابو مازن مروراً بالعشرات ممن ذكر اسمهم ولم يذكر. ما هي هذه الخيوط؟ - كان هانك الحسن يفاوض، ابو اياد يفاوض، بسام ابو شريف يفاوض، باستثناء حبش كان الجميع يفاوضون اما مباشرة او عن طريق انظمة عربية وسفارات اجنبية. هل كانت هناك قنوات مختلفة؟ - كانت هناك قنوات. صائب سلام كان قناة اساسية. البير منصور؟ - البير لم يكن مفاوضاً باسم المقاومة مع السلطة، هو كلف بمهمة التفاوض مع بشير الجميل في الشأن اللبناني وانتخابات رئاسة الجمهورية. صائب سلام كان قناة رئيسية وفاعلة حتى في الاستعصاءات مع فيليب حبيب، بعض الوزراء فاوض مثل رينيه معوض، رئىس الجمهورية اللاحق رحمه الله، الذي شكل في صلته مع ميشال اده في مكان ومروان حماده في مكان آخر وعبدالرحمن اللبان الوزير السابق لقاءات دائمة في مبنى وزارة السياحة التي كان حماده يشغلها. مخبرو جوني عبده هل فاوضتم مع جوني عبده؟ مدير المخابرات في الجيش اللبناني؟ - نحن لا، لكن كان لجوني بيننا انصار وعملاء وخيوط وخطوط، فكنا نجتمع معه ولا نجتمع ونوجه رسائل عبر الحاضرين وتصل سريعاً. في المناسبة، ما صحة ما قيل ان محاضر الحركة الوطنية كانت تنقل الى عبده حرفياً؟ - هذا صحيح ولا شك فيه. ذات مرة نظر الصديق الظريف سنان براج مرابطون الى احد اعضاء الحركة الوطنية الذي كان منهمكاً بالكتابة السريعة، وباغته بالقول: "دخيل عرضك عندي اولاد". ومرة اخرى، كنت اتحدث عن موضوع حساس وخطر تعرضت فيه الى السلطة، فنظر براج الى شخصين كانا يكتبان وقال لهما: "اكتبا ان جورج حاوي قال مازحاً..." كنا نعرف ان اجتماعاتنا معروفة وان كل حديث بين شخصين او ثلاثة كان يصل. الاختراق على اي مستوى؟ - الامر لا يحتاج الى اختراق. كان عندنا تطوع في نقل الاخبار. في دول العالم كلها العميل يقبض، وفي لبنان يدفع بعض اللبنانيين العاملين في السياسة للشخص الآخر ليعرف منه ماذا قال فلان او ما هو رأي فلان. هذه ربما ميزة لبنانية اسمها "عميل غير مأجور". اين كنتم ليلة خروج عرفات؟ - ليلة الخروج تواعدنا على اللقاء في منزل نبيه بري في بربور، كان وليد جنبلاط وانا ومحسن ابراهيم وسمير صباغ واعتقد "ابو يحيى" مسؤول "امل"، جاء عرفات وكان مرهقاً. طلب ان يستحم عند بري الذي اعطاه ثياباً داخلية من عنده. وهنا اقول نكتة تعبر عن تواضع عرفات في مقابل قادة ثورات اخرى وفي مقابل عدد من ممثلي الثورة في الخارج الذين عاثوا في العالم فساداً. عرفات من هذه الناحية مناضل صامد يعيش عيشة متواضعة جداً. فقد قال لبري عندما احضر له الثياب الداخلية "ثيابي دي نظيفة ماليش اسبوع لابسها!" هذا يضحك لكنه ايضاً يشير الى حاله. وبدأ عرفات يمسح العرق وكانت ايام صيف وفسر ذلك بأن مسام الجسم التي نظفت بعد الحمام تفرز عرقاً اضافياً. كانت حالة عاطفية من الاعتزاز بالصمود والمرارة بسبب الخروج. بعدها انتقلنا الى مكتب سنان براج في مار الياس ونام عرفات هناك، بقي معه محسن ابراهيم وذهبت انا لترتيب استقبالات اليوم المقبل. اريد ان اقول بصراحة ان الحديث عن الصمود سهل لكن المسؤولية عن الصمود ليست سهلة. وقف اهل بيروت الطيبون الى جانب الثورة على رغم الاختلافات السياسية. واذكر هنا مواقف الرئىس صائب سلام والشيخ محمد مهدي شمس الدين رئىس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى والمفتي حسن خالد وعموم الناس ايضاً لكن هناك طاقة على الاحتمال. كان سكان الحي او البناية اذا لمحونا ندخل مع ياسر عرفات الى مبنى يبشون ويرحبون بأدب ثم يغادرون خلال بضع دقائق. كنا عرفات وانا نتأثر. فهذا الشعب يؤيدنا ويحبنا ويدعمنا لكنهم يعرفون الثمن. هل تعرض ياسر عرفات لمحاولات اغتيال خلال حصار بيروت؟ - جرت محاولات عدة لاغتياله اثناء حصار بيروت. لنقل اولاً كيف كان عرفات ينام. الواقع انه كلف شخصاً من المسؤولين الفلسطينيين بأن يبحث له كل يوم عن بيت جديد لينام فيه وكان هذا المسؤول على علاقة مع عرفات ومعي ومع فتحي المرافق الامين لعرفات والمناضل الصامت والواعي الجدير بالاحترام. ذلك المسؤول اصيب لاحقاً في محاولة اغتيال في صيدا واسمه عصام. كان ذلك المسؤول يأخذ عرفات مساء كل يوم الى بيت عادي وغير محمي لأن الحراسة يمكن ان تفضح المكان. وبالنسبة الينا انكشف ملجأنا في الطبقة السادسة تحت الارض وهو كان آمناً من القصف العادي لكن قصف الطيران يمكن ان يحوله الى مقبرة. كنا ذات يوم في بناية في الصنائع. وكانت العادة ان نتغدى ظهراً مما تيسر. فجأة وقف عرفات وقال لي: "يا جورج الحكيمة، يقصد زوجتي، اكيد عاتبة عليك. لماذا لا تذهب وتتناول الغداء معها فهم لا يرونك منذ وقت. انا عاوز انام شوي. في اي حال سنسهر مساء". خرجنا الرفيق محسن ابراهيم وانا وخرج عرفات وابو جهاد خليل الوزير وابو الوليد سعد صايل ونايف حواتمة وآخرون. ما كدت اصل الى شارع فردان حتى سمعنا دوي انفجار لكنه ليس كبيراً كالعادة وبدا عميقاً. وصلت الى البيت فسمعنا ان القصف استهدف مبنى في منطقة الصنائع. عدنا فوراً الى المكان فلم نجد اثراً للمبنى اذ ان 12 طبقة اختزلت وتراكمت. كان المقصود عرفات بالطبع. راحت الايام وجاءت الايام والتقينا في الشام بالصديق العزيز الحالي الوزير ايلي حبيقة وبدأ حديث الذكريات عن المتفجرات والتفجيرات من هنا وهناك الى ان اخبرني، وله ان ينفي ولي ان اؤكد، قصة هذه المحاولة: قال حبيقة: "كنا يوماً مع بشير الجميل وفادي افرام. اخذنا بشير وصعد وقال انه على موعد مع ارييل شارون وزير الدفاع الاسرائىلي آنذاك وذهبنا الى مدرسة مون لاسال ودخلنا مع شارون ورفول ايتان رئىس اركان الجيش الاسرائىلي وعسكريين آخرين. احتجت الراهبات على دخولنا المدرسة فطلب شارون من بشير اسكاتهن لأن القضية كبيرة فتولى بشير الامر. حولوا احدى غرف الدير الى غرفة عمليات ووضعوا فيها كومبيوتر وشاشة موصولة بالرادار وحددوا عليها هدفاً هو المبنى الموجود فيه عرفات في الصنائع. وقفنا نتابع العملية باندهاش شديد امام التكنولوجيا المتطورة". واضاف صديقي حبيقة: "رأينا على الشاشة اقلاع طائرتين اسرائىليتين من مطار اللد وتوجههما لتنفيذ مهمة حددت بقصف البناية المذكورة. وعندما وصلت الطائرتان الى مدى الرماية ظهر على شاشة الرادار شكل معين، كأن داخل علبة كبريت يدخل في غلافها. فنظر ايتان الى شارون الذي اصدر الامر من مون لاسال للطائرتين فانطلق صاروخان اصابا البناية وتفرجنا بالمنظار على انهيارها. ارتفع الضحك وتبودلت التهاني وفتحت قناني الشمبانيا باعتبار ان عرفات قد قتل ولكن عرفات كان قد خرج". هذا وصف تاريخي اسجله انطلاقاً من رواية حبيقة ويكفي للرد على من يقول ان عرفات كان متواطئاً مع اسرائىل وانها لم تكن تريد ان تؤذيه وانها لو ارادت لاستطاعت. الحلقة المقبلة بيان الصلح وكمال جنبلاط