يعد لوران غاسبار، المجري الأصل، والفرنسي اللسان والجنسية، واحداً من كبار الشعراء الفرنسيين. وقد عاش هذا الشاعر الذي هو في الوقت نفسه طبيب جرّاح من المستوى الرفيع، سنوات طويلة في فلسطين 1954 - 1969 حيث عمل في المستشفيين الفرنسيين المتواجدين في القدس وبيت لحم. بعدها انتقل إلى تونس حيث ظل يعمل في مستشفى شارل نيكول حتى احالته على التقاعد، قبل قرابة خمس سنوات. وهو الآن يعيش بين باريسوتونس. وهذا الخريف، أصدر غاسبار كتاباً أنيقاً تزيّنه مجموعة صور بالأبيض والأسود، بعنوان "دفاتر القدس". يجمع فيه بين النثر والشعر، بين التاريخ والاسطورة، بين الماضي والحاضر، بين الواقع والخيال، ليقدم لنا نصّاً من أروع النصوص المكتوبة عن القدس، هذه المدينة العريقة في القدم، التي تبدو لنا كما لو انها تختزن الجزء الأكبر من تاريخ الشرق، بمختلف أديانه وشعوبه ولغاته. في الطائرة التي حملته من بيروت إلى القدس سنة 1954، شاهد لوران غاسبار لأول مرة تلك الجبال العارية. وما رآه آنذاك وما أحسّ به، بدا له جدّ جليّ وجدّ مضيء، حتى انه لم يستطع العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عن مشاعره. وكان عليه أن ينتظر طويلاً ليتمكن من تجاوز تلك العقبة: "كنت مفتوناً بالحضور الملموس، كأن أمواج الجبال الفارغة هي التي تكشف للتو عن تلك القوة العارية. وكنت أعثر على ذلك في كل مكان وفي كل شيء". نسيج في غاية التعقيد ومنذ خطواته الأولى في القدس يبدأ عشقه لهذه المدينة، ذلك العشق الذي ظل مستعراً حتّى هذه الساعة. ويقول لوران غاسبار إن القدس هي واحد من تلك الأماكن النادرة في العالم التي يشعر فيها الانسان بأن بين المدينة وساكينها منذ الازل، تواطؤ، وتبادلات، وتساؤلات مختلفة، واهتمام من جانب الأحياء بأن يهبوا ما كان باستطاعتهم أن يلتقطوه من مشاهدها وألوانها ومفاتنها. ويكتب غاسبار : "نسيج في غاية التعقيد لقطعة من الواقع الحيّ - مرتبطة بزمن، في حين تتجاوز خيوطها وحركاتها هذا الزمن - نسيج محاك بالحجارة والضوء، بقباب وأودية، بحوار بين الناس والأشياء، بقراءات في الكتب، بنا وبالعالم، ببضع شجرات ورد وبصحراء في متناول اليد. وأيضاً بضحكات وبدموع الاطفال الذين نراهم يكبرون، بافراح وأحزان بيت يعج بالأشياء، بحيوانات وعابري سبيل، بمصاحبة المرضى وبالتدرب البطيء على الانصات إلى الآخر، بالمرح وبمصاعب الحياة، بالنقاشات الليلية على السطح قرب الياسمين بمواجهة الجبل المجلل بالعتمة، بالرجع البعيد لكلمات في الليل يقابلها القرب المثير للنجوم ولفكر اللانهاية... كل هذا، وأشياء أخرى، هي القدس بالنسبة إلي". ولا ينسى الشاعر أن يستنطق التاريخ. فيعود بنا إلى العصور السحيقة مستعيناً بالأساطير، وبكتب التاريخ، وبالاكتشافات الأثرية، وأيضاً بالانجيل والتوراة والقرآن الكريم. ثم يروي لنا وقائع من الحروب الصليبية، متوقفاً طويلاً عند العلاقة الحسية بين الملك الجرماني فريديريك الثاني الذي كان يتقن العربية، ويكن احتراماً كبيراً للاسلام والمسلمين، وبين الكامل سلطان مصر الذي كان شاعراً أو لغوياً متميزاً. ويتحدث لوران غاسبار عن سنوات اقامته الطويلة في القدس، وعن جولاته الكثيرة في الصحراء، وعن علاقته بالبدو، وعن بعض أصدقائه الفلسطينيين. بين هؤلاء عساف الذي يتحدر من عائلة مسيحية، وينتمي إلى فصيلة من المثقفين العرب يتميزون بذوق رفيع، غير انهم، حسب رأيه، مهددون بالانقراض بسبب "العواصف السياسية الهوجاء والمصادمات العسكرية التي تهزّ منطقة الشرق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى هذه الساعة". سقوط القدس ويروي الشاعر العربيّ الهوى أن صديقه عساف هذا، تناول خلال سهرة من السهرات كتاباً، وقرأ له هذا المقطع، وهو لفيلسوف يهودي يدعى فيلون السكندري نسبة إلى مدينة الاسكندرية: "على مدى الزمن، حكام كثيرون بطبائع وميول مختلفة عاشوا في هذه البلاد: بعضهم نافس الحيوانات الاشد وحشية في قسوتها وفظاظتها، مضحياً برعاياه مثل قطعان الغنم، أو قطّعهم ارباً ارباً مثلما يفعل الجزارون. والبعض الآخر من هؤلاء الحكام يعوّض الهياج والغضب بنوع من الخبث، ويخطب بهدوء لكن تحت الكلمات العذبة المهذبة تختبئ روح حقودة. وهؤلاء يبدون ناعمين مثل تلك الكلاب التي تكون عضتها مسمومة وقاتلة". ويفرد لوران غاسبار فصلاً جميلاً على شكل يوميات لبعض الأحداث والوقائع التي عاشها خلال حرب الايام الستة. ويصف لنا بدقة سقوط القدس في يد الاسرائيليين والفظائع التي ارتكبوها هناك. فهو يسجّل مثلاً وقائع الخميس 8 حزيران يونيو 1967 كالآتي: "حرارة خانقة. من المدينة القديمة تفوح روائح لا تحتمل. فرق من المتطوعين وأهل الخير يجمعون الجثث. في الملجأ النمسوي، وهو المستشفى الوحيد داخل المدينة العتيقة ليس هناك مكان واحد لاستقبال الجرحى. الشوارع التي تغصّ عادة بالناس فارغة تماماً، وغارقة في صمت مخيف". ويروي غاسبار قصة صبية تدعى و. في الثامنة من عمرها، جاء بها أبوها بعد أن أصابتها شظية في الركبة. وعند الفحص تبيّن أن شظية أخرى دقيقة جداً أصابت عصباً بصرياً، سيؤدّي إلى فقدان عينها اليمنى. بصوت رمادي رتيب روت تلك الصبية للاطباء والممرضين المحاطين بها كيف أن أمها واخواتها الاربع قتلن بجانبها. ثم توقفت عن الكلام. وظلت كذلك إلى ان خرجت من المستشفى. وقبل أن يغادر القدس في شتاء 1969، يسأل الكاتب العجوز الذي يعنى بحديقته عن حال العالم الآن. فيجيب هذا الأخير: "العالم ليس سيئاً. الزهرة هي الزهرة. الشجرة هي الشجرة. الأرض هي الأرض. أما الناس، فلا أدري عنهم شيئاً". في كتابه البديع، يدافع لوران غاسبار عن القدس، كمدينة للسلام، والتحابب بين الثقافات والاديان، ويأمل في ان تظل كذلك حتى يتجنب الشرق مزيداً من الآلام والكوارث.