أثارت زيارة الرئيس الايراني علي اكبر هاشمي رفسنجاني للسودان وشرق افريقيا مخاوف من تحالف سني ? شيعي لنقل الثورة الاسلامية من خلال "الهدايا" النفطية والوساطات الى القارة السمراء وتعزيز نفوذ النظام الاصولي السوداني هناك. وفي الوقت نفسه بدأت المعارضة السودانية الاستعداد لتنسيق كفاحها المسلح ضد الخرطوم، وتبذل مساعي كبيرة حالياً لفتح جبهة اكبر في الشرق بمعاونة اريتريا واثيوبيا. وفيما تتمسك حكومة الرئيس عمر البشير بمواقفها وسياساتها، بدأت تواجه تساؤلات ملحة عن الحال الصحية لعقلها المدبر الدكتور حسن الترابي الذي يعتقد انه لا يزال يعاني تأثيرات حادث اعتداء تعرض له في كندا قبل بضع سنوات. تبدو مدن العاصمة السودانية المثلثة هادئة كعهدها. الموظفون والعمال يقضون لياليهم في محاولة يائسة لدفن فقرهم المدقع في كؤوس الشراب البلدي. وكثيرون ينامون "ابطهم والنجم" كما يقول مثل العامة هناك. وفي معظم الليالي تلتقي المجموعة الخماسية التي تسيطر على مقدرات الشأن السوداني، تخطط وتدرس وتقرر وتتفق، وفي كل حال لا تزيد عضويتها ولا تختلف على ما توصلت اليه. وهي لا تتناول الشأن المحلي فحسب، بل تخطط لما تقوم به خارج الحدود. وتضم المجموعة الشيخ حسن الترابي والدكتور عوض احمد الجاز والدكتور غازي صلاح الدين ومجذوب الخليفة. وهي ليست وحدها المجموعة التي تنتظم اجتماعاتها في ليل الخرطوم البهيم. ففي مكان ما داخل العاصمة تتوالى اجتماعات نحو 40 خبيراً ايرانياً وعراقياً وسودانياً لتخطيط مستقبل المنطقة والعالم الاسلامي. وتستخدم هذه المجموعة التي لا تنقطع عنها الكهرباء، ولا يتجول أفرادها في شوارع ام درمان او الخرطوم بحري، احدث اجهزة الكومبيوتر لرسم تحليلاتها وتخزين معلوماتها ورصد الظواهر التي تعنى بها. وتنتظم حلقات اخرى تضم بقية المتنفذين من قادة الجبهة الاسلامية لدرس السياسات الداخلية، مع استعراض مسيرة العمل الخارجي. وكل حلقة من تلك الحلقات محكمة، تجتمع في مناطق مُؤَمّنة واعضاؤها هم انفسهم لا يزيد عددهم ولا ينقص. وكلمة السر لنجاح فرض اي سياسات او قرارات في هذه الحلقات هي اسم "الشيخ" الذي يمثل المرجع الأوحد في المنظومة الحاكمة، وكل أمر منه الى رئيس الدولة يمثل تعليمات عسكرية صارمة لا تقبل النقاش او التعديل. غير ان الشيخ نفسه اضحى يشكل علامة استفهام كبيرة. فهناك خصومه الذين يتحدثون عن صراعات مراكز القوى المحيطة به، وخوفه من ان تكون رأسه الثمن الباهظ الذي يجب ان يدفعه ليجد نظامه قبولاً اقليمياً ودولياً في المدى الطويل. والمثير ان بعض مشايعيه غدوا يتحدثون عن انه لم يعد يملك الطاقة الجسمانية والعقلية التي تتيح له الاستمرار في الامساك بخيوط لعبة الحكم. ويتحدث كثيرون عن نوبات الصداع الرهيب التي تلم به، وشعوره بالارهاق المستمر. بيد ان الأكثر اثارة ان الشيخ الذي التزم صمتاً مطبقاً حيال التطورات المتسارعة في بلاده منذ التحسن الذي لم يدم طويلاً في العلاقات مع الجارة الشمالية مصر، بدأ يطلق تصريحات غريبة حدت ببعض رجال نظامه الى التدخل لازالة التشويش الذي خلّفته. فقد قال عندما تقرر فرض حظر على رحلات الطيران التجاري السوداني ان ذلك سيكون مفيداً لأنه سيتيح تكريس التواصل بين المطارات الداخلية للبلاد! وهو نموذج فحسب لسلسلة من التصريحات التي اثارت ارتباك مسؤولي الحكومة السودانية في المحافل الدولية مراراً. وسئل ايضاً عن العقوبات الدولية فقال: انها اذا طبقت فالسودان سينتهي. ويستمر السودانيون في مجالس انسهم في تداول الاشاعات عن خلافات حكامهم من الاسلاميين، خصوصاً بعدما عُين الترابي رئيساً لبرلمان لا يملك حق عزل رئيسه، لكن يحق له عزل رئيس الجمهورية. ويتردد في هذا السياق ان الترابي وجماعته لا يثقون ثقة مطلقة في العسكريين الذين يتزعمهم الفريق عمر البشير، ويعتقد بأن المتنفذين حول الشيخ الترابي قرروا رفع حال التأهب في ميليشياتهم وأسلحة الجيش الموالية للجبهة الاسلامية القومية اثناء انعقاد القمة المصرية - السودانية التي عقدت على هامش قمة القاهرة في حزيران يونيو الماضي. وبدا واضحاً منذ البداية ان الصلح المصري - السوداني لن يدوم رغم ان مصر رأت ان مصالحها تملي عليها محاولة استقطاب البشير لينقلب على الترابي. وهو أمر يؤكد قادة النظام انه مستحيل، باعتبار ان الفريق البشير ضابط "اسلامي منظم" ولا يواجه اي مشكلات مع شيخه. غير ان المسألة لم تكن لتمر بأي حال لأن الترابي يدرك ان رأسه يجب ان تكون ثمناً لأي تغير يتيح انفراج عدد من ازمات كثيرة تواجه الحكومة السودانية. لكن كل شيء مضى في طريق التصعيد، خصوصاً بعدما نزل طلبة الجامعات الى الشوارع يتظاهرون ضد سياسات الخبز والفقر والفساد المستشري. وفي الوقت نفسه استمرت محاولات الانفصال الجهوي في مسعى من المعارضة العسكرية لالحاق الهزيمة بالنظام. غير ان عنصراً جديداً وقديماً في آن معاً برز في المنطقة ليدفع الامور باتجاه ثورة الانقاذ الوطني: ايران. وثارت مع الزيارة التي قام بها الرئيس الايراني هاشمي رفسنجاني الى شرق القارة الافريقية وجنوبها - بما في ذلك السودان - تساؤلات عن مدى الدعم الايراني لنظام الترابي، وهل سيعزز ذلك غريزة البقاء رغم ان كل الدلائل تشير الى ان الحكومة عاجزة حتى عن احتمال التأثيرات النفسية لعقوبات دولية من المقرر ان تدخل حيز التنفيذ نهاية السنة الحالية؟ وفيما التقطت المعارضة السودانية انفاسها، وبدأت تستعد لاحتمالات انتفاضة جوع، سعت الى تعزيزها بعمليات عسكرية في القطاع الشرقي من البلاد، جاءت مبادرة رفسنجاني لاصلاح العلاقات بين السودان وأوغندا لتفرض قيوداً محتملة على اهم العناصر العسكرية في تجمع المعارضة: الجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يتزعمه العقيد جون قرنق. ويستخدم هذا الجيش اوغندا عمقاً امنياً وطريقاً حيوية للحصول على الامدادات العسكرية والتموينية. ويقضي الاتفاق الذي وقعته الخرطوم وكمبالا بوساطة ايرانية في العاصمة السودانية الاسبوع الماضي باستئناف العلاقات الديبلوماسية، واتخاذ ترتيبات أمنية لاعادة بناء الثقة بين الطرفين، أهمها ان يلزم كل منهما المتمردين المناوئين للطرف الآخر بالانسحاب 100 كيلومتر داخل حدوده. ويعني ذلك عملياً ان قوات قرنق لن تصبح قادرة على شن هجمات من مناطق الحدود المشتركة. وينطبق الشيء نفسه على قوات "جيش المقاومة الالهي" المناوئة للرئيس يويري موسيفيني ويتزعمها القس الكاثوليكي المتطرف جوزيف كوني. لكن خبيراً عسكرياً غربياً في لندن قال ل "الوسط" ان الاتفاق لن يعني نهاية تمرد قرنق، "لأن قواته تنتشر اساساً في اراض سودانية لا تسيطر الحكومة السودانية إلا على بضع مدن فيها تاركة الريف لسيطرة قرنق". توحيد البندقية المعارضة وفي معلومات "الوسط" ان الوساطة الايرانية بين كمبالا والخرطوم بدأت قبل اسابيع من زيارة رفسنجاني الى كل من كينيا وأوغندا والسودان وجنوب افريقيا. فقد اوفدت اوغندا وزير الدولة في وزارة الخارجية والممثل المقيم لبرنامج الأممالمتحدة للتنمية في كمبالا، وهو مواطن اوغندي، الى الخرطوم قبل 10 ايام من وصول رفسنجاني. ويعتقد ان موسيفيني يواجه ضغوطاً داخلية شديدة لانهاء التمرد في شمال بلاده، وتتمثل آخر نصيحة اسداها له مستشاروه في هذا الشأن في ضرورة التوصل الى اتفاق مع السودان لكبح نشاط المتمردين. وعندما اتصل به الايرانيون وعرضوا وساطتهم في مقابل تزويده كميات من النفط بشروط دفع ميسّرة وجد نفسه مضطراً الى الرضوخ لضغوط والاغراءات. غير ان هذه الوساطة ليست الاولى بين الدولتين المتجاورتين، فقد توسطت قبل ايران كل من ليبيا ومالاوي والنمسا، ولم تحقق اي وساطة منها نتيجة تذكر. ومن الملاحظ ان العقيد قرنق ربما احيط مقدماً ما ينوي موسيفيني - زميل دراسته - الاقدام عليه، ولذلك توجه قبل نحو اسبوعين الى العاصمة الاريترية اسمرا حيث شارك في اجتماعات عدة حضرها مسؤولون اريتريون اكدت مصادر المعارضة السودانية ل "الوسط" انها بحثت في ما سمته "توحيد البندقية" السودانية المعارضة. وهي اشارة الى ضرورة تنسيق العمليات بين اكثر من منظمة عسكرية تقاتل الخرطوم. وزار العقيد قرنق الذي يقاتل الجيش الحكومي السوداني في جنوب السودان وغربه وجنوب شرقه اثيوبيا وبقي فيها يوماً واحداً في اول زيارة يقوم بها لاديس ابابا منذ ان ابعدته مع قواته الحكومة الاثيوبية الحالية التي يرأسها ملس زيناوي العام 1991 اثر سقوط نظام الرئيس السابق منغستو هايلي مريام. وتفقد قرنق في اريتريا قواته التي عززها بقرابة 700 مقاتل من ابناء الشمال السوداني. وفيما اكدت مصادر ديبلوماسية افريقية في العاصمة الكينية ان اريتريا تبذل مساعي مكثفة لاحداث تنسيق بين قوات المعارضة العسكرية السودانية، توقعت ألا تسفر زيارة قرنق لاديس ابابا عن تفاهم يذكر مع الحكومة الاثيوبية، خصوصاً انه لم يقابل مسؤولين على مستوى عال خلال الساعات التي قضاها هناك قبل عودته الى نيروبي ليدرس تأثير الصلح السوداني - الاوغندي في قواته. وقالت المصادر ان حزبي الامة والاتحادي الديموقراطي اللذين يتزعمان المعارضة السودانية - وهما اكبر حزبين سياسيين في السودان - اقاما معسكرين في الاراضي الاريترية لتدريب قوات تابعة لهما. ويقود معسكر الحزب الاتحادي الديموقراطي ضابط سابق برتبة عميد من خريجي الدفعة 23 في الكلية الحربية السودانية، فيما يقود معسكر مقاتلي حزب الامة الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي ضابط برتبة نقيب. وزار العقيد قرنق اثناء وجوده في اريتريا قوات ما يسمى "لواء السودان الجديد" التابعة له التي تقول مصادر عسكرية في منطقة القرن الافريقي ان عددها يصل الى 5 آلاف مقاتل يقودهم الضابط السابق عبدالعزيز الحلو. وتفيد المعلومات ان قرنق نجح في ضم 700 مقاتل شمالي الى قوات اللواء المذكور التي تنتمي غالبيتها الى قبيلتي الدينكا الجنوبية والنوبة في غرب السودان. وقال ديبلوماسي افريقي ل "الوسط": "لأسباب تتعلق بالحسابات القبلية الدقيقة والحساسيات بين الفئات السودانية المختلفة المعارضة اقيم معسكر قوات قرنق في عمق المنطقة التي تتوقع اسمرا ان تكون مسرحاً لعمليات عسكرية مع الجيش السوداني وقوات الدفاع الشعبي ميليشيا الجبهة الاسلامية القومية. فيما اقيم معسكرا قوات التحالف السودانية بقيادة العميد عبدالعزيز خالد ومنظمة مؤتمر عموم البجا كبرى قبائل شرق السودان في الخط الامامي للجبهة". ويعتقد ان محادثات قرنق في اسمرا تطرقت الى تحديد المناطق التي يمكن ان تصل اليها قوات قرنق وخالد في عمق الاراضي السودانية، ومعرفة مدى التدخل المطلوب من قوات اريترية لتعزيز مساعي المعارضة الرامية الى اسقاط النظام السوداني. وذكرت مصادر افريقية ان حكومة اسياس افورقي ترى ان نظام البشير سينهار عقب تشديد العقوبات التي فرضها عليه مجلس الامن الدولي. وطبقاً لما يتردد في عواصم بلدان القرن الافريقي فإن الرئيس الاريتري حصل على تأكيدات من رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي بأن اديس ابابا ستطالب بتصعيد العقوبات التي تبدأ في تشرين الثاني نوفمبر المقبل بحظر تحليق الطائرات السودانية خارج المجال الجوي للبلاد لتشمل حظراً على تزويد طرفي النزاع السوداني الحكومة والمتمردون بالأسلحة. وذُكر ان افورقي بدأ مساعي حثيثة في الآونة الاخيرة لاحداث تنسيق بين قوات قرنق وخالد وقبيلة البجا "على اساس اذا حصل انهيار مفاجئ في السودان يكون هناك بديل جاهز". لا حكومة ولا معارضة وفي المعلومات ان الرئيس الاريتري توسط بين المعارضة السودانية وقرنق من جهة، واثيوبيا من الجهة الاخرى. وكانت اديس ابابا قد حافظت على نأيها عن المعارضة السودانية منذ سقوط الرئيس مريام. وبقيت علاقاتها مقطوعة تماماً مع قرنق الذي تتهمه جبهة تحرير التيغراي - كبرى منظمات "الجبهة الشعبية الثورية الديموقراطية لشعوب اثيوبيا" التي تحكم البلاد - بالزج بمقاتليه ضد رجالها اثناء حربهم ضد نظام مريام. ولذلك فإن الخبراء الافارقة في شرق القارة الافريقية يعتقدون بأن زيناوي قبل على مضض السماح لقرنق بزيارة بلاده. وكان الميرغني الذي يرأس تجمع احزاب المعارضة السودانية زار زيناوي قبل اسابيع، وهي الزيارة الاولى لزعيم سوداني معارض منذ اتخاذ اثيوبيا اجراءات ضد الحكومة السودانية في اعقاب محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في اراضيها في حزيران يونيو 1995. وكان لافتاً ان مكتب رئيس الوزراء الاثيوبي لم يصدر اي بلاغ في شأن محادثات زيناوي مع الميرغني، فيما قال الميرغني في بيان اصدره مكتبه في القاهرة ان المحادثات كانت ايجابية وناجحة. وطبقاً لديبلوماسي اثيوبي في المنطقة فإن زيناوي اكد ان اثيوبيا لا تسعى الى اسقاط النظام السوداني "لأن هذا ليس عملها"، وانها لا تؤمن بجدوى سياسة فتح مكاتب للمعارضة السودانية في اراضيها لأنها تدرك ان النظام السوداني سيرد بالمثل. وأضاف ان اثيوبيا ترى ان انهيار الدولة السودانية سيعني بداية انهيار كبير في منطقة القرن الافريقي، وتدرك ان منطقة "بني شنقول" الاثيوبية التي كانت تتبع السودان ابان استعماره قد تكون اول اقاليمها التي ستقدم على المطالبة بالانفصال، وهي مع ذلك ترى انه "يتعين انقاذ السودان من ثورة الانقاذ ولكن من دون عنف يهدد وحدته التي تمثل عنصراً استراتيجياً مهماً للحفاظ على استقرار المنطقة". ولخص الديبلوماسي الاثيوبي الذي تحدثت اليه "الوسط" موقف بلاده بأن يتمسك ب "الحفاظ على السودان". واستدرك: "ليس حباً في السودان ولكن خوفاً من نتائج التغيير الذي قد يشهده". وعززت المعارضة السودانية موقفها ضد النظام بزيارة وصفت بالأهمية قام بها رئيسها الميرغني الى واشنطن ونيويورك حيث التقى مسؤولة الشؤون الافريقية في البيت الابيض، وعدداً من المسؤولين الحاليين والسابقين في وزارة الخارجية، والأمين العام للأمم المتحدة. وقال مساعدون للميرغني ل "الوسط" انه اكد للادارة الاميركية ان السودانيين عازمون على خوض معركتهم وحدهم من دون تدخل خارجي، ولا يريدون وصاية من جهة، وان "التجمع الوطني الديموقراطي" تنظيم المعارضة "بديل شرعي جاهز" لتولي السلطة حال سقوط النظام. ايران في السودان لقد ظلت العلاقات الايرانية - السودانية تثير علامات استفهام منذ وقوع الانقلاب الاسلامي الذي تزعمه الفريق البشير. واتهمت المعارضة السودانية ودول غربية طهران بتزويد السودان اسلحة وآليات لمواصلة حربه ضد المتمردين الجنوبيين. وذكر قبل نحو اربع سنوات ان طهران دفعت للصين 300 مليون دولار لتزويد الخرطوم مروحيات عسكرية. واتهم وزير الاعلام السوداني السابق بونا ملوال - وهو جنوبي موال لقرنق - ايران في مطلع الشهر الجاري بأنها تنوي ارسال قوات من حرسها الثوري لحماية حقول النفط في جنوب السودان التي تنوي الحكومة السودانية استغلالها لتقليص آثار الحصار والعزلة اللذين تعاني منهما. ويعتقد ان الزيارة التي قام بها الدكتور عوض الجاز وزير الطاقة والتعدين السوداني، الذي يعد احد أبرز معاوني الترابي، لايران في ايار مايو الماضي ومحادثاته مع غلام رضا فروزش وزير "جهاد البناء" الايراني اسفرت عن اتفاق تنقل ايران بموجبه 10 آلاف مقاتل الى منطقة حقول النفط السودانية لمنع تعرضها لأي هجمات قد يشنها ثوار الجيش الشعبي لتحرير السودان والفصائل المنشقة عنه. وعلى الصعيد الاقليمي اثارت زيارة رفسنجاني مخاوف من زيادة الاهتمام الايراني بمياه البحر الاحمر. وترددت معلومات عن اتفاق ابرمه رفسنجاني مع كينيا وأوغندا يمنعهما من المشاركة في اي مسعى مصري - اريتري لمحاصرة السودان او ضربه. وأشارت معلومات اخرى الى ان مجموعة الخبراء ال40 العاملين تحت غطاء "المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي" الذي يتزعمه الترابي يخططون اساساً لتحديد افضل السبل للسيطرة على زمام الامور في المنطقة. وطبقاً لمسؤول في جهاز أمني في دولة عربية كبيرة فإن هؤلاء الخبراء توصلوا الى قناعة مفادها ان بسط نفوذ التيار الاسلامي الذي يتزعمه الترابي وتسانده ايران يواجه مشكلة رئيسية تتمثل في التمويل، وخلصوا الى ان ذلك يحتم ان يستولي الاصوليون على السلطة في دولة عربية غنية، وتتجه انظار المجموعة تحديداً الى ليبيا او الجزائر او دولة خليجية صغيرة، لكنهم توصلوا ايضاً الى قناعة بأن حظوظ خططهم في النجاح قليلة ما دام النظام المصري قوياً. ويعتقد ان المسؤولين الايرانيين والسودانيين اتفقوا خلال المحادثات التي اجراها رفسنجاني في الخرطوم على تعزيز قدرات السودان لتحقيق واحد من ثلاثة اهداف استراتيجية في كل الحالات. - اما ان ينجحوا في ازاحة حكومات البلدان العربية التي يعتبرها الطرفان عقبة امام "المشروع الاسلامي". - واما مواصلة الضغوط حتى ترضخ السلطات هناك لاجراء حوار مع الاسلاميين للبحث في ترتيبات لاقتسام الحكم. - واما الاستمرار في السياسات المتشددة وزعزعة استقرار المنطقة حتى تقتنع الولاياتالمتحدة بجدوى الحوار مع الاصوليين وزعيمهم الترابي ليكون هذا الحوار مع موقف قوة. فجوة الحليف الدولي ومع ان واشنطن نددت بمساعي ايران لايجاد موطئ قدم في القارة الافريقية، الا ان المراقبين لاحظوا ان ايران - مثل السودان - تعاني من "فجوة حليف دولي للنظام" على حد تعبير الديبلوماسي السوداني الحارث ادريس الذي اشار الى ان طهران تسعى الى ملء الفراغ الذي خلفه تحجيم العراق منذ حرب الخليج، وفي سياق مسعاها الى الخروج من قمقم العزلة تفيد من عدم وجود صراع معاي خصم اقليمي ينهك قواها. وتبدو طهران اشد جرأة في محاولتها وضع اقدامها في مناطق كانت تعتبر حتى زيارة رفسنجاني الاخيرة مناطق نفوذ غربي عموماً، وأميركي على وجه الخصوص، مثل اوغنداوكينيا وجنوب افريقيا. ويقول ادريس: "سياسة رفسنجاني تدعو الى انهاك اميركا، وهي استراتيجية اعدت منذ فترة وأُحكم اعدادها حتى لا تجهضها اميركا التي قد لا تستطيع ايجاد مبررات لضرب ايران حالياً لاعتبارات انتخابية رئاسية". غير ان السؤال الأهم: هل سينعم النظام السوداني باستقرار يتيح له الافادة من الدعم الايراني الموعود؟ وهل يستطيع الترابي - في ضوء ما يتردد عن حاله الصحية ان يخطو الى الامام في مشروع يتيح زواجاصًسنياً - شيعياً في افريقيا؟ لقد ظل الحديث عن صحة "الشيخ" يدور همساً في احياء مدن العاصمة المثلثة لا يجرؤ احد على الجهر به. غير ان صحافياً سودانياً معارضاً استدرج رئيس تحرير صحيفة سودانية موالية للجبهة الاسلامية القومية فأدلى بمعلومات اكد نشرها ما ظل يتردد في هذا الشأن منذ استئناف الترابي نشاطه في اعقاب حادث الاعتداء عليه في كندا في ايار مايو 1992. اشار الصحافي الموالي في حديثه الذي نشر في القاهرة الى "ان الترابي لم يعد قادراً على التركيز. وجاء حديث الصحافي المقرب الى الشيخ ليؤكد علامات الاستفهام الكبيرة المحيطة بدور الزعيم السوداني الذي يتحدث زواره باندهاش شديد عن ميل لم يعهد فيه للزهو بنفسه وتعليمه وعدد اللغات التي يتحدثها، وكيف كان يحتل المرتبة الاولى في صفوف الدراسة... ويقول سودانيون قريبون من أسرته انه يصاب بنوبات صداع مخيفة ويشعر بالانهاك سريعاً. أكبر انقلاب اسلامي وسألت "الوسط" وزيراً سابقاً على صلة اسرية وثيقة بالترابي عن وضع الزعيم الاسلامي 65 عاماً فقال: "لا أعتقد بأن المرض افقده هيبته ونفوذه على جماعته، بل ويبدو لي من خلال اتصالاتي به انه غدا اشد تعطشاً للسلطة وليس مستعداً لسماع اي نصيحة، ويشعر بأنه صاحب رسالة لا بد من أدائها مهما كانت العقبات". وأضاف: "ما يحيرني حقيقة في "شيخ حسن" انه مستعد في كل لحظة للتظاهر بالغاء أهدافه الأممية المعلنة يلتّقي السهام المصوبة نحوه، اذ تخلى التلفزيون الحكومي عن انتقاد اسرائيل، وامتنع عن بث اخبار حرب الشيشان قبل ان تضع اوزارها. وفي الوقت نفسه تظل "مجموعات الليل" مستمرة في التخطيط لأكبر انقلاب اسلامي من نوع في العالم". صمت وخيارات محدودة وكان الترابي قد التزم صمتاً مطبقاً تجاه عدد من التطورات التي شهدتها بلاده منذ نهاية حزيران الماضي. ويعتقد محاضر في جامعة الخرطوم ان الخيارات امام الرجل ونظامه باتت محدودة، "لأن اوراق حياته لم تعد في الداخل والترابي كان براغماتياً فقط في تحالفاته الداخلية من اجل البقاء، وانطلق في الخارج يمارس مهمة تصدير الثورة والدور الأممي في وقت لا يملك فيه السودان موارد تؤهله لذلك. وعندما شعر بانهيار تحالفاته الداخلية وتفاقم العزلة الخارجية التفت لاصلاح الوضع الداخلي لكنه وجد الفأس وقعت على الرأس كما يقول المثل السوداني". وتساءل الاستاذ الجامعي: "من غير رفسنجاني من الرؤساء يستطيع زيارة السودان الآن؟ الترابي ليس امامه سوى تقديم ضحايا وقرابين ليضمن استمرار النظام، ومثلما كان مستعداً للتضحية بكارلوس وبن لادن، عليه ان يدرك ان القربان المطلوب هذه المرة رأسه شخصياً!" واضاف: "الترابي بحكم عمره لم يعد قادراً على اعادة القوى الشبابية المتطرفة التي اطلقها من قمقمها، وإحداث تحول في بنية النظام يحتاج الى شخصية اخرى. المصريون يراهنون على البشر باعتباره اضعف حلقات النظام، ويرون انه ليس مثل الترابي الذي صنعته ايديولوجية وأفكار وانما صنعته مصالح يميل معها حيث تميل". وكان أطباء الزعيم الاسلامي السوداني خلصوا العام 1992 الى ان الضربة التي تعرض لها في مطار أوتاوا احدثت ارتجاجاً في المخ ونزفاً داخلياً امكنت السيطرة عليه. وبقي بعدما افاق من الغيبوبة فاقداً النطق بضعة ايام، لكن سرعان ما استعاده قبل عودته الى الخرطوم حيث اقيمت له "صلاة شكر" حشدت لها الجبهة الاسلامية مئات الآلاف من مؤيديها. وقال طبيب سوداني بارز في لندن "لا بد ان يؤثر ذلك الحادث في قواه، خصوصاً مع تقدمه في السن. والجانب الاهم ان حكم السودان ليس شأناً هيناً، فقد بدأه الرئيس السابق جعفر نميري بالقفز على سطوح القطارات وانتهى بالاغماء في استديو التلفزيون الحكومي. فكيف يكون وقعه على رجل رقيق البدن والمشاعر مثل الدكتور الترابي؟". وإثر تظاهرات الخبز العنيفة التي اجتاحت مدن العاصمة السودانية اخيراً، سألت "الوسط" احد القادة الشبان في جبهة الترابي عن مستقبل زعامتها، فأجاب من دون تردد: "من الشجاعة ان نقر بأن الحركة قصد الجبهة اضحت الآن اشبه بمراكز القوى في عهد الرئيس جمال عبدالناصر. وكلما توصلنا الى اتفاق مع دول اخرى تأتي مجموعة اخرى داخل الحركة لتنسفه". وأضاف: "مشكلتنا الاساسية مع بقية اخوتنا انه لم يعد هناك نظام لحكم الناس في السودان. قبل حل الجبهة كانت هناك آليات معروفة وتراتبية هيكلية لحل النزاعات. ولذلك فإن اندلاع صراع بات حتمياً. ونحن لا نخشى شيئاً الآن قدر خوفنا من هذا الصراع الحتمي". ورأى ان الحل الوحيد امام النظام يتمثل في حل مشكلة الجنوب بما يرضي الجنوبيين والغرب، لكن اقر بأن "سحب القوات الحكومية من الجنوب وارد لدى الحكومة، لأن الجنوب هو قطعة البطاطا الساخنة التي سنرميها لنتفرغ لنزاعات الشرق والغرب اذا تفاقمت". وقال بنبرة جادة: "80 في المئة من الضغوط التي نتعرض لها من الغرب سببها مشكلة الجنوب واذا نجحنا في ابرام صفقة سلام فنعتقد بأن الاميركيين قد يغيرون موقفهم من النظام". وأردف: "صفقة الجنوب ليست خسارة فادحة ولا ثمناً باهظاً، وليس معناها اننا سنبيعه لحيوانات الغابة الاستوائية، وانما سنسلمه الى قرنق وهو ما نعتبره أهون الشرّين". ويعتقد معلق سياسي بارز في الخرطوم "ان السوط الايراني لم يعد يخيف احداً، لأن الشعب اضحى جائعاً، وليس امامه سوى البقاء او الموت جوعاً، ولذلك فإن الحديث عن انتفاضة جياع لهما يبرره". وسألته "الوسط": هل تنجح انتفاضة في ظل الميليشيا الاسلامية المدججة وقوات الامن التي تجوب الطرقات ليل نهار؟ فأجاب: "صحيح ان هناك مخاوف من حمام دم. لكن قدرة الانسان على المواجهة أمر لا يمكن التنبؤ به، ويصح في الوقت نفسه ان يقال ان قدرة الانسان السوداني على الاحتمال عالية جداً". وأضاف: "هناك ايضاً مخاوف من عدم وجود قيادات لكننا في نهاية المطاف مطمئنون الى ان كل زمن يصنع قياداته. والمزاج السوداني اصلاً ثوري وتغييري ولا يحسب الثورة بالأرقام، لكنه لا ينفك يتحدث طوال ساعات اليوم عن جحيم المعيشة والخبز والغلاء. لذلك سلاح الانتفاضة من الداخل وارد ومحتمل جداً". ولدى سؤاله اذا كانت الحماية الايرانية للنظام كافية لتعزيز غريزة البقاء؟ اجاب "يعي الشارع السوداني جيداً ان كل الانظمة المتطرفة فشلت في إحداث التحول المنشود لتكون انظمة اكثر انسانية، القذافي منذ 1969 لا يملك قدرة على التحالف مع اي طرف اجنبي لكنه معتمد على نفطه. نظام طهران لو بقي الإمام الخميني لما كان قادراً على احداث التحول البراغماتي الذي يحلم به". وأشار الى التوتر والاشتباكات التي يشهدها شرق السودان بين الحكومة ومناوئيها وقال: "ليس الجوع وحده هو الهاجس، فقد دخل السودان طور "البلقنة" والجهوية، وهما سببان كافيان لاندلاع ثورة، ولم يعدُ لجوء الترابي وجماعته الى الادعاء بأن الخيار الحضاري المشروع الاسلامي يتعرض لمؤامرات يستعطف الشارع السوداني الذي بيده وحده يقرر هل يبقى النظام أم يذهب؟". تكريس المحورية هكذا يبدو النظام السوداني في اضعف حالاته، غير قادر على استيعاب الارتجاج الداخلي الذي اثارته تظاهرات الخبز الاخيرة، وعاجزاً في الوقت نفسه عن التكيف مع العقوبات الدولية المتصاعدة. ولم يعد يملك استراتيجية لاحتواء ما يجبهه، وليس امامه من حل سوى تكريس محوريته لأنه لا بديل عنده غير ذلك. وهو يدرك ان المطلوب لتفادي الصعوبات المقبلة تقديم تضحية قد تتطلب قضم احدى ركائزه. وتدرك الجبهة الاسلامية القومية انها بحاجة شديدة الى اعادة قراءة واقعها السياسي. ويؤكد بعض الليبراليين من قادتها انها تبحث في خلافة الترابي "على استحياء شديد، خصوصاً بعد تصريحاته المثيرة للعجب التي أدلى بها بعد تصعيد العقوبات على السودان". اما بالنسبة الى المواطن السوداني الذي تدعي الحكومة انه لا يزال يساندها فهو ايضاً يدرك ان الجوع هو الحد الفاصل بين الانسانية والبقاء في دولة باتت تتآكل اطرافها بسبب النزاعات المسلحة ويتهددها اندلاع نزاع موقوت منذ 8 سنوات بين الفريق البشير والترابي، وهو آتٍ آتٍ إلا اذا كان الجوع اقوى من صبر السودانيين.