خادم الحرمين يوجه بناءً على ما رفعه ولي العهد بتمديد العمل ببرنامج حساب المواطن    غربلة في قائمة الاخضر القادمة وانضمام جهاد والسالم والعثمان وابوالشامات    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي واستعمال أوراق نقدية مقلدة والترويج لها    الجامعة العربية بيت العرب ورمز وحدتهم وحريصون على التنسيق الدائم معها    وزير الاستثمار: 1,238 مستثمرًا دوليًا يحصلون على الإقامة المميزة في المملكة    866 % نمو الامتياز التجاري خلال 3 سنوات.. والسياحة والمطاعم تتصدر الأنشطة    مدير المنتخب السعودي يستقيل من منصبه    تعطل حركة السفر في بريطانيا مع استمرار تداعيات العاصفة بيرت    مسرحية كبسة وكمونيه .. مواقف كوميدية تعكس العلاقة الطيبة بين السعودية والسودان    بحضور وزير الثقافة.. روائع الأوركسترا السعودية تتألق في طوكيو    وزير الصناعة في رحاب هيئة الصحفيين بمكة المكرمة    NHC تطلق 10 مشاريع عمرانية في وجهة الفرسان شمال شرق الرياض    جبل محجة الاثري في شملي حائل ..أيقونه تاريخية تلفت أنظار سواح العالم .!    أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    نهاية الطفرة الصينية !    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشماليون اختاروا قرنق قائداً ومجلس الأمن يستعد لتشديد العقوبات . الترابي يدق طبول حرب البقاء
نشر في الحياة يوم 04 - 11 - 1996

دخل السودان نفقاً مظلماً جديداً قبل أقل من اسبوعين من إجراء مجلس الأمن الدولي مشاورات في شأن تشديد عقوبات كان قد فرضها على حكومة الفريق عمر البشير لتشمل حظر تحليق طائرات الخطوط االجوية السودانية خارج المجال الجوي للبلاد. إذ صعدت المعارضة المدنية والعسكرية في الخارج مقاومتها للنظام، وسط دلائل على أن قوى أجنبية تؤازرها، وهما خطوتان انقسم السودانيون في شأن جدوى كل منهما، بين مؤيد ومعارض. غير أن الفريقين حذرا من أن فتح جبهة مواجهة في شرق السودان الى جانب الجنوب والغرب، وهو يعني في نهاية المطاف تآكل الدولة المركزية، يفتح الباب واسعاً أمام احتمال تمزق الكيان السوداني. غير أن ذلك يثير أيضاً مشكلات على صعيد القوى الأجنبية التي تتسابق لتوسيع نطاق نفوذها في المنطقة، لأن لهب انفجار برميل البارود السوداني - إذا حدث - لن يتوقف عند حدود الدولة السودانية الحالية.
بدأ تفاقم الأزمة السودانية الاسبوع الماضي عندما بدا واضحاً أن الحكومة السودانية تشعر بقلق شديد من احتمال فرض مجلس الامن حظراً جوياً على الناقل الوطني السوداني سودانير التي تمثل أحد أهم مصادر تدفق العملات الصعبة ونقل الصادرات السودانية. ومن المقرر أن يجري المجلس مشاورات في هذا الشأن منتصف تشرين الثاني نوفمبر الجاري، وسط دلائل ترجح أنه سينفذ تهديده للسودان الذي ضمنه قراره الرقم 1070 الصادر في آب أغسطس الماضي، وأمهل فيه الحكومة التي تسيطر عليها الجبهة الإسلامية القومية التي يتزعمها الدكتور حسن الترابي ثلاثة أشهر لتسلم ثلاثة مصريين مطلوبين للمثول أمام العدالة الاثيوبية بتهمة تدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في حزيران يونيو 1995.
وزار الخرطوم الاسبوع الماضي الاخضر الابراهيمي مبعوث الامين العام للأمم المتحدة الدكتور بطرس غالي الذي كلف رفع تقرير الى الامين العام في شأن الخطوات التي قامت بها الحكومة السودانية للانصياع للقرار 1070. وسبقت زيارة المبعوث الدولي زيارة قامت بها مسؤولة رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الاميركية، غير أن الترابي رفض التحدث اليها، فيما استمر معاونوه في التأكيد بأن ثمة حواراً مستمراً بين السودان والولايات المتحدة. ويقول الناشط السياسي السوداني عادل حسن أحمد الذي يقيم في بريطانيا: تتحدث الخرطوم بلا انقطاع عن عدم وجود أي من المطلوبين الثلاثة في أراضيها. المشكلة أن ممارساتها وما عهد عنها من تهرب من الحقيقة جعل من الصعب على المواطنين والدول الاخرى، بل المنظمات الدولية تصديقها. إنها تماماً مثل قصة محمود الذي صاح "الذئب الذئب"، ولما هرع اليه الآخرون لم يجدوا ذئباً. وعندما دهمه الذئب حقاً لم يجد من يصدّق أنه جاد. من يصدق الخرطوم الآن؟
وأجمع السودانيون - مسؤولين ومواطنين - على أن حظر الطيران سيسفر عن استفحال الازمة الاقتصادية التي زادت تردي الوضع المعيشي للسكان. غير أن الدكتور الترابي لا يزال متمسكاً بأن السودان سينهض في حال فرض الحظر! وقال الاقتصاديون إن صادرات السودان ستتوقف تماماً أو ستصبح خارج حلبة المنافسة إذا توقفت تسهيلات النقل التي يوفرها لها الناقل الجوي الوطني. وهدد الدكتور غازي صلاح الدين عتباني الأمين العام للحزب الحاكم المؤتمر الوطني من أن الحظر ستكون له انعكاسات مباشرة على ما سماه "التجربة الديموقراطية وحقوق الانسان" في البلاد.
تزامنت تلك التطورات مع انعقاد اجتماع موسع لقادة المعارضة السودانية في العاصمة الاريترية اسمرا برئاسة السيد محمد عثمان الميرغني رئيس "التجمع الوطني الديموقراطي" أحزاب المعارضة ومنظماتها. وقد أسفر الاجتماع عن اتخاذ قرار يقضي بتوحيد "البندقية المعارضة" - على حد تعبير سياسي سوداني بارز - وذلك بتكليف العقيد جون قرنق زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" الاشراف على العمليات العسكرية في الجبهة المطلة على شرق السودان.
ومنذ الاعلان عن تلك الخطوة، لا يزال الاعلام السوداني يشن حملة انتقادات وسباب ضد مناوئي النظام، خصوصاً أن الحكومة السودانية لم تكن تتوقع أن يتحول الزعماء المدنيون التقليديون لاشهار البندقية بوجهها. وأثار ذلك بالطبع اتهامات للمعارضة، منها ما ذكره وزير العدل السوداني عبد الباسط سبدرات الذي قال إن الرئيس الاريتري أسياس أفورقي قال للمعارضين إنه يريد "معارضة خنادق وبنادق وليس معارضة فنادق".
وفيما عمدت الحكومة في البداية الى التقليل من شأن ما أقدمت عليه المعارضة، والاعلان أنها كلفت مجاهديها فحسب الذود عن شرق البلاد، من دون حاجة الى الاستعانة بالجيش، أظهرت حادثة فرار طيار عسكري سوداني بطائرته من طراز ف-6 الى المملكة العربية السعودية أن الحكومة السودانية نقلت عدداً كبيراً من مقاتلاتها التي يقدر خبراء عسكريون اوروبيون عددها الاجمالي بنحو 52 طائرة الى بورتسودان - كبرى مدن الشرق والميناء الوحيد للبلاد - لتكون جاهزة للتدخل في حال تفاقم الصدام مع خصومها.
ما الذي حدث في اسمرا تحديداً؟ يقول الدكتور عمر نور الدائم عضو هيئة قيادة التجمع الوطني الديموقراطي وأمين حزب الامة الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي إن اجتماعات اسمرا أسفرت عن "توحيد سبعة فصائل عسكرية و12 مجموعة سياسية تحت قيادة واحدة". ومضى ليصف ذلك بأنه "ينم عن عبقرية سودانية لأننا نجحنا في ما أخفقت فيه المعارضة العراقية والكردية والمجاهدون الأفغان بعد انسحاب السوفيات". وعلمت "الوسط" أن العقيد قرنق القائد الجديد لقوات المعارضة السودانية باشر مهمته في الحال. وتقيد مصادر مقربة اليه أن نشاطه لن يكتفي بالجبهة الشرقية وحدها، "وإنما سيشمل تنشيط القوات الموالية لنا داخل العاصمة السودانية لزعزعة النظام وخنقه".
وفي معلومات "الوسط" أن الحكومة السودانية التي كانت تعتمد عادة على قوات في الشرق قوامها كتيبة من المشاة الى جانب قوات حامية بورتسودان وسلاحا البحرية والدفاع الجوي اللذان يوجد مقرهما أصلاً في بورتسودان، حشدت في الآونة الأخيرة لواءين ما يصل الى 6 آلاف رجل، تعززهما وحدة من مجاهدي قوات الدفاع الشعبي يبلغ عددها 5 آلاف مقاتل، وعدد من الطائرات المقاتلة استعداداً للرد على أي عدوان محتمل.
وقال ضابط كبير في الخرطوم إن السلطات السودانية كثفت اعتمادها في الآونة الأخيرة على وحدة "الأمن الإيجابي" التابعة للاستخبارات العسكرية، وتعنى هذه الوحدة بمراقبة ضباط الجيش وجنوده لضمان استمرار ولائهم للنظام. وأكدت مصادر متطابقة داخل السودان وخارجه أن تعليمات صدرت بعدم السماح لأي ضابط متقاعد بالسفر الى شرق السودان إلا بعد حصوله على إذن خاص، أو إذا استطاع أن يثبت أنه من أبناء الشرق. وذلك في مسعى للحد من عمليات الالتحاق بقوات المعارضة.
يقول الدكتور أسامة عثمان وهو خبير سوداني في إحدى المنظمات الدولية في غرب أوروبا إن المعارضة اضطرت اضطراراً الى اختيار نهج المواجهة، "حتى الصادق المهدي نفسه الذي بقي في السودان مقتنعاً بلا جدوى الخيار العسكري بدا في أشد حالات اليأس والإحباط أخيراً. مما أملى على المعارضة خيار العنف شعورها بأن سودان اليوم مجير بالكامل لحساب فئة صغيرة هي الجيهة الاسلامية القومية".
غير أن كثيراً من المراقبين المحليين والأجانب يرون أن المواجهة تحمل معها مخاطر تهدد بتفكيك الدولة السودانية التي أرست دعائمها القوى الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر. ويتردد كثيراً في أحاديث السودانيين سيناريو تتخلى فيه الحكومة والجبهة الاسلامية القومية عن شرق السودان وجنوبه وغربه لتسيطر على الوسط بما في ذلك الخرطوم. يقول الدكتور أسامة عثمان: "ثمة مثل فرنسي يقول: لا يمكن أن تصنع العجة أومليت من دون أن تكسر البيض. أي عمل ينطوي على عنف توجد فيه مخاطر، ووحدة السودان مهددة منذ أن اتفقت الجبهة الاسلامية مع الجنوبيين المنشقين عن قرنق في فرانكفورت العام 1992 على ترتيبات خاصة بمستقبل الجنوب".
ورأى أن توحيد القيادة العسكرية المعارضة تحت قيادة قرنق "عمل ايجابي، لأن ذلك يسحب البساط من تحت أقدام الجنوبيين الذين يساومون على الانفصال. وهي خطوة الى الأمام تتمثل في أن الشماليين للمرة الاولى في تاريخهم الحديث وافقوا على قبول قيادة جنوبية للسودان كله، ومعنى ذلك أننا لم نعد نتحفظ عن احتمال أن يحكم قرنق أو أي جنوبي آخر السودان".
وقال السفير السابق محمد المكي ابراهيم الذي يقيم في واشنطن ل "الوسط": الحل العسكري مُجْدٍ لكنه خطير. كنا نحاول أن نتفاداه، غير أنه تبين لنا أن لا حل سواه. من الممكن أن يؤدي هذا النهج الى تفتيت السودان، وقد يتحول سبيلاً وحيداً لتصفية أي نزاعات بين السودانيين لكن من دفعنا اليه سوى هذه المجموعة من الأشرار المستعدين للإقدام على أي عمل سيء إذا كان سيضمن بقاءهم في السلطة".
ورأى الدكتور نور الدائم أن الخوف من المساس بوحدة السودان وارد ومحتمل، لكنه اعتبر عنف فصائل التجمع الوطني الديموقراطي "رد فعل مشروعاً". لكن عبد الله محمد احمد وزير الاعلام والخارجية السوداني السابق الذي يقيم في لندن قال "أن نعجز عن حل مشكلاتنا بالوسائل السلمية يعد منتهى الفشل. الى أين وصلت المعارضة الأخرى التي لجأت الى القوة كالأكراد مثلاً؟ العنف سيؤدي بنا الى التجزئة، فهل هي من مصلحتنا؟ وهل هي من مصلحة مصر؟ إنه خطأ كبير بحق الأجيال المقبلة، والسودان سيكون مجرد صومال آخر".
وحذر الوزير السابق من أن القبائل السودانية - خصوصاً الرعوية - عرفت حمل بنادق الكلاشنكوف والقذائف المضادة للدروع وآر بي جي منذ الستينات، "وإذا حصل انفجار فلا شك في أن كل قبيلة ستطالب بدولة خاصة بها، ما عدا سكان ضفاف نهر النيل".
واعتبر أن طرفي النزاع السوداني - الحكومة والمعارضة - يتحملان مسؤولية إدخال البلاد هذا الطور من التفتت والاقتتال، "لانهما لا بد أن يجلسا الى مائدة مفاوضات ويجب أن يكونا مستعدين للقبول بحل وسط. والحل العسكري مغامرة لن تأتي بما تريده المعارضة، لأننا جربنا ذلك في عام 1976 على عهد الرئيس السابق جعفر نميري، وبمساندة من ليبيا التي كلفت شركة مرسيدس-بنز أن تطورمركبة خاصة قادرة على اختراق الصحراء من واحة الكفرة في ليبيا الى الخرطوم في 36 ساعة. ومع ذلك فشلت تجربة العمل المسلح واضطررنا الى مصالحة نميري واتنظرنا من عام المصالحة 1977 حتى 1985 لنحقق هدفنا من الداخل وهو اسقاط نظام نميري".
وتساءل عبد الله محمد أحمد الذي عمل وزيراً في حكومات الصادق المهدي والفريق البشير: هل ستسكت الحكومة عن هجمات المعارضة؟ حتى إذا اضطرت الى سحب جيشها من شرق البلاد هل ستترك للمعارضة مناطق وسط السودان. وأضاف: السودانيون قاطبة يدركون أن الجبهة السلامية القومية تعاني من الانشقاق والانشطار الى مراكز قوى متعددة، فلماذا لا تستغل المعارضة ذكاءها لتحويل هذه الخلافات لمصلحتها؟ لقد بدا واضحاً أن أي عسر اقتصادي يكفي لاغراق الجبهة في دوامة مشكلات، فلماذا لا تحاول المعارضة حلولاً أفضل؟
برميل البارود السوداني
يرى الديبلوماسي السوداني المعارض الحارث ادريس أن العمل العسكري ستكون له انعكاسات خطيرة على واقع المعارضة نفسها، "لأن السودان أضحى مثل برميل بارود مهيأ للانفجار في أي لحظة وذلك بسبب تسييس العرقيات الموجودة فيه، فهنالك صراع قبلي في الغرب، وعمل عسكري جهوي في الشرق، وحرب أهلية في الجنوب، والجبهة الإسلامية القومية قامت بتجييش أنصارها في الداخل". وحذر من أن الصراع المسلح "لن يضع حداً للسلطة الحاكمة فحسب، بل الدولة السودانية ككل". وأضاف أن ذلك لا يمنع من القول إن الجبهة ستدفع ثمن تعنتها وعنادها ورؤيتها الأحادية أضعافاً، وأقل ذلك أنها ستدخل التاريخ من أوسع أبوابه باعتبارها القوة التي تسببت في تفتيت الدولة السودانية وتخريب البلاد.
غير أنه اعتبر أن الحل العسكري سيكون مفيداً إذا كان سيوظف أداة للضغط. وذكر أن البندقية لم تنجح في دول افريقية عدة باستثناء أوغندا في إسقاط الحكومة المركزية. وأردف: "صحيح أن قطاعات عريضة من السودانيين في الداخل والخارج بلغت ذورة اليأس والاحباط، لكن واجب السياسي الحصيف ألا يغذي شعبه مزيداً من اليأس والاحباط".
عنصر التدخل الخارجي
دأبت الحكومة السودانية على توجيه أصابع الاتهام الى أياد أجنبية بالتدخل لاحباط كل مسعى لترسيخ الاستقرار وإحلال السلام في البلاد. وعندما أعلن الرئيس الأوغندي يويري موسفيني الاسبوع الماضي رفضه إبرام اتفاق سلام معها في نطاق الوساطة الايرانية بين البلدين، سارعت السلطات السودانية الى اتهام الولايات المتحدة بارغام كمبالا على رفض الصلح مع الخرطوم. مثلما تتهم مصر بأنها كانت وراء دفع اثيوبيا الى نقل شكواها في شأن محاولة اغتيال مبارك الى مجلس الامن.
وقال أحد قادة الجبهة الإسلامية في الخرطوم، وهو من التيار القديم الذي عمد الترابي الى تهميشه منذ نجاح انقلاب 1989، إن النظام يعتقد أن وقوف الرئيس افورقي وراء نشاط المعارضة الحالي يعني أنه سيطالب بثمن بعد إزالة النظام السوداني، مثلما فعل العقيد معمر القذافي إثر انهيار حكم النميري. وتطرف مسؤولون في الخرطوم الى درجة اتهام الرئيس الاريتري بالتخطيط لضم أراض سودانية الى بلاده.
غير أن الخبراء يرون أن التدخل الخارجي "يبقى دائماً جزءاً من لعبة السياسة الدولية، إذ إن لمصر حلفاءها في السودان منذ 50 عاماً ولم يتهمهم أحد بالعمالة. فلماذا ننتقد مسعى أفورقي الى حليف سوداني يعزز أمنه واستقراره"؟ واعتبر معارضون سودانيون أن أفورقي لا يريد أكثر من قوة منظمة علمانية تكون حليفة له، خصوصاً أنه أعلن مراراً أنه لا ينوي مطلقاً الدخول في حرب مع الحكومة السودانية.
وفي الوقت الذي ينكر فيه أنصار الحكومة على القوى الاخرى الاعتماد على تأييد قوى خارجية، تبقى هي نفسها أسيرة للمساعدات التي تغدقها عليها الدول المعادية للولايات المتحدة، خصوصاً العراق وايران وكوريا الشمالية وليبيا.
المواجهة .. أي حل؟
لكن هل ستأتي المواجهة المتوقعة بين الترابي وخصومه بالحل الذي يتطلع اليه الأخيرون ومؤيدوهم من زعماء الدول التي تتهمها الخرطوم بالتدخل في النزاع السوداني؟ قال الدكتور أسامة عثمان إن ثمة حلاً هو وحده الكفيل بمنع وقوع المواجهة: "أن يوافق عقلاء النظام على القبول بحل". لكن المطلعين على الشأن السوداني يستبعدون ذلك لأن مؤيدي الحلول الوسطى مهمشون تماماً داخل الحركة الاسلامية التي يتزعمها الترابي. ويعتقد آخرون أن الترابي نفسه لم يعد يملك نفوذاً بين الشبان الذين مكنهم من إدارة دفة الحكم، وأبرزهم الدكتور غازي عتباني وعلي عثمان محمد طه وزير الخارجية والدكتور مجذوب الخليفة والي الخرطوم وغيرهم.
ويقول عبد المحمود نور الدائم الكرنكي المتحدث باسم الحكومة السودانية في لندن إن الحكومة ليست لديها أي شروط مسبقة للتوصل الى تسوية مع معارضيها، لكنه أكد أن الأحزاب بشكلها التقليدي "لن ترجع لأنها إن فعلت فسترجع بأخطائها وستأتي بقيادات ليست مؤهلة لتحمل المسؤولية". وأضاف: الأحزاب ليست لديها آلية لإسقاط أي حكومة، لكن تدخل الجيش السوداني كان وحده العامل الحاسم في إسقاط حكومتي الرئيسين ابراهيم عبود ونميري". وقال: الفاشل في الحكم لن ينجح في المعارضة!
ويقول السفير السابق محمد المكي ابراهيم - وهو أحد أبرز الرموز الادبية والشعرية التي عرفها الشارع السوداني منذ ثورة تشرين الاول اكتوبر 1964 - "النظام وحده يفرض على الآخرين البديل الآتي. فكلما بالغ في التنكيل بأبناء الشعب وزاد في القسوة أرغم المعارضة على أن تنهج نهجاً مماثلاً. ونحن نعرف جيداً أن العنف يولد عنفاً، وأن القهر ينجب قهراً، لكن أملنا الكبير أن السودانيين بتراثهم الجميل وإدراكهم الواسع سيعون أن ما يحصل حالياً ليس سوى مرحلة موقتة، نعود بعدها لنبذ العنف وإيجاد البدائل من دون اقتتال. فعلناها في السابق مرتين، فهل سيصعب علينا أن نفعلها ثالثة ورابعة؟"
هكذا تجد الخرطوم نفسها محدودة الخيارات بسبب انكفائها وعزلتها. ولأنها ترفض الآخر إذا لم يقبل الذوبان في منظومتها، بل لأنها اختارت القوة منذ اليوم الاول لنظامها اسلوباً لحسم خصومها. لذلك ليس امامها سوى اللجوء الى القوة، معتمدة على خبرتها السابقة في قراءة الواقع السياسي بشكل مغلوط، مثلما حدث إبان أزمة الخليج، حينما رجّحت انتصار العراق على القوات المتحالفة.
لم يعد أمامها الآن سوى الاستمرار في مراهنتها على ضعف قوى المعارضة، وعدم قدرتها على مواجهة حجافل المجاهدين. والواقع أنه ليس بوسعها غير ذلك لأن خيارها الوحيد هو البقاء مهما كان الثمن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.