قبل حوالي أسبوعين كان اللبنانيون شبه مجمعين على الشك في حصول الانتخابات النيابية في موعدها، أي أواخر هذا الصيف، على رغم التأكيدات التي دأب على اعطائها عدد من المسؤولين والفاعليات السياسية. واستند اللبنانيون في شكهم الى أربع اعتبارات هي الآتية: 1- تجاهل اركان السلطة التأكيدات التي اعطوها خلال الربيع والصيف الماضيين بأن الانتخابات الرئاسية ستجري في موعدها، واقدامهم، بعد التشاور والتنسيق مع دمشق، على تهيئة ظروف ادت الى ارجاء هذه الانتخابات ثلاث سنوات وتمديد ولاية رئيس الجمهورية الياس الهراوي. 2 - تأخر اركان السلطة في وضع القانون الذي يفترض ان تجري الانتخابات النيابية على اساسه، علما ان المهلة التي تفصل اللبنانيين عن هذا الاستحقاق لم تعد تتجاوز ثلاثة أشهر، فيما الاصول تقضي أن يكون القانون جاهزا قبل الانتخابات بستة اشهر على الاقل ليتمكن المعنيون به من مرشحين ومقترعين، من الاستعداد. ولا يمكن في هذا المجال القول ان التأخير غير مهم لان قانون الانتخاب موجود، والمقصود هنا القانون الذي جرت على اساسه انتخابات العام 1992، ولأن الانتخابات يمكن ان تجري وفقا لنصوصه اذا دهم الوقت الحكومة، ذلك ان المعنيين بالشأن الانتخابي، من رئيس الجمهورية الى الحكومة ومجلس النواب الى الفاعليات السياسية والدينية المعارضة والموالية، اجمعوا على ان القانون الحالي لا يفي بالغرض وأن المشاورات بين بعضهم البعض، وبينهم وبين دمشق، تتناول عددا من تفاصيله الدقيقة، خصوصاً المتعلقة بتقسيم الدوائر الانتخابية. اذ ان النية تتجه الى جعل هذا التقسيم مختلفا عما كان عليه في القانون السابق. 3 - اعتراف اركان السلطة والفاعليات السياسية والدينية بوجود احتمال ضئيل لا تتجاور نسبته 15 في المئة لتأجيل الانتخابات النيابية، وربطه باحتمال تطور الوضع مع اسرائيل في اتجاه سلبي كأن تقوم بعملية عسكرية واسعة ردا على عمليات المقاومة. اما بعد تأكيد نائب رئيس الحكومة وزير الداخلية ميشال المر ان الانتخابات النيابية ستجري ونفيه ان تكون هناك نسبة ارجاء لها وان كانت في حدود الواحد في المئة، وكشفه الخطوط العريضة للقانون الانتخابي، بعد هذه التأكيدات تراجعت شكوك اللبنانيين بنسبة كبيرة وبدأوا يتصرفون على اساس ان الانتخابات ستجري. لكن هل يعني ذلك ان الانتخابات اصبحت حتمية! بين ستين وأربعين تعطي المصادر الديبلوماسية الغربية حصول الانتخابات نسبة مرتفعة الى حد ما تبلغ ستين في المئة. وتعزو الخوف من عدم حصولها الذي تقدره بنسبة اربعين في المئة الى جملة اعتبارات، ابرزها اثنان: الأول، الوضع الاقليمي الذي بررت به سورية والمسؤولون اللبنانيون تمديد ولاية الرئيس الهراوي ثلاث سنوات اضافية. وفي هذا المجال فان التصعيد العسكري مع ما قد يرافقه من قتل وتهجير ليس السبب الاقليمي الوحيد الذي يفرض ارجاء الانتخابات وانما الوضع الاقليمي في حد ذاته، خصوصاً بعد فوز الليكود في الانتخابات، وهو الذي رفض اثناء الاعداد للمعركة الانتخابية المبدأ الذي على اساسه قامت عملية السلام أي "الارض في مقابل السلام". وكرر هذا الرفض زعيمه بنيامين نيتانياهو بعد الفوز عندما قال لا لاعادة الجولان الى سورية ولا لقيام الدولة الفلسطنية ولا لتقسيم القدس، ونعم لابقاء المستوطنات وتعزيز الاستيطان. ورافقت ذلك تطورات اقليمية لا تدعو الى الارتياح لا سيما عند سورية المعنية مباشرة بلبنان ومنها تصاعد حدة الخلاف الكلامي بين دمشق وأنقرة، سواء حول مياه الفرات او حول "حزب العمال الكردستاني" او حول الاتفاق العسكري التركي- الاسرائيلي. ومنها ثالثا اعلان الادارة الاميركية حصول انفجارات في سورية، الامر الذي اعتبرته دمشق موقفاً سلبياً منها قد تكون له خطوات لاحقة، ومنها رابعاً خوف سورية من اقدام الليكود على استعمال "اوراقه" اللبنانية. وفي هذا المجال لا تستبعد دمشق ان تكون اسرائيل، وان في صورة غير مباشرة. وراء الاجتماع الاخير للمعارضين المسيحيين في فرنسا، العماد ميشال عون والرئيس امين الجميل والمهندس دوري شمعون. ومنها خامسا واخيرا اقتناع دمشق بوجود اصرار اميركي واوروبي على اجراء الانتخابات وعلى ضرورة ضمان الحد الادنى من سلامتها ونزاهتها وحريتها، وخشيتها ان يكون ذلك جزءا من خطة للضغط عليها من خلال لبنان. الثاني، احتمال تخلي المعارضة المسيحية الراديكالية المقيمة في الخارج، او معظمها على الاقل، عن مقاطعة الانتخابات. وفي هذه الحالة فان المعركة الانتخابية قد تكون "شرسة" نظراً الى حجمها الكبير سواء في المناطق المسيحية او في المناطق المختلطة طائفياً، كما قد تكون نتائجها في غير مصلحة سورية وحلفائها في لبنان. وقد تزداد شراستها اذا وضع العالم بتحريض من اسرائيل واوروبا والولايات المتحدة الساحة اللبنانية تحت المجهر وأصر على حد ادنى من النزاهة والسلامة والحرية للانتخابات. وطبيعي اذا كانت الحال على هذا النحو ألا تتحمس السلطة اللبنانية نفسها ومعها حليفتها سورية لاجراء الانتخابات اعتقادا منهما بأنها ستكون احدى وسائل الضغط على سورية بسبب سياستها الاقليمية، سواء المتعلقة بالسلام أم بالاعمال الارهابية التي يختلف المفهوم السوري لها عن المفهوم الدولي وتحديداً الاميركي - الاسرائيلي. ستجري رغم العقبات اما القريبون من دمشق فيؤكدون ان الانتخابات ستجري في موعدها ولن تثني الحكومة عن اجرائها اية عقبة حتى ولو كانت اعتداء اسرائيليا وحشيا مثل اعتداء نيسان ابريل الماضي، وتؤكد ايضا ان لدى الحكومة حلولاً متنوعة بتنوع الحالات التي قد تتسبب في نشوئها اعتداءات من هذا النوع. وهي تعزو تأكيدها الى الوضع الاقليمي نفسه الذي استندت اليه المصادر الدبلوماسية الغربية المطلعة لتأكيد ان الانتخابات لن تحصل، ذلك ان هذا الوضع يستهدف لبنان وسورية. وربما سورية اكثر من لبنان. ومن خلال هذا الوضع ستسعى اسرائيل نتانياهو الى اتعاب سورية وربما الى انهاكها. ولبنان هو الساحة المؤهلة لذلك بسبب انقساماته وانفتاحه على "الانخراق" من القوى الخارجية سواء المعادية لسورية ام لا. والانتخابات النيابية هي المناسبة التي يمكن استغلالها لاظهار رفض لبناني واسع للوجود والدور السوريين في لبنان. ومن هذا المنطلق تعرف سورية ان ارجاء الانتخابات والتمديد لمجلس النواب قد تعتبره اسرائيل والقوى المتربصة بها من داخلية وخارجية، دليلاً على اعترافها بنقص شعبيتها اللبنانية وعلى خوفها من اجراء الانتخابات. وتعرف ايضا ان شرعية مجلس النواب يعتبرها العالم والقوى المذكورة منقوصة في حال التمديد له، وتعرف تاليا انها في حاجة الى مجلس منتخب وان شكك الكثيرون في البداية في شرعيته او في سلامة الانتخابات التي انتجته. اذ ان هذا التشكيك لا بد ان ينحسر مع الوقت، او يتقلص كما حصل مع المجلس الحالي الذي شارفت ولايته على الانتهاء، سواء بفعل نشاط أعضائه او بفعل تغير الظروف الاقليمية والدولية نحو الاحسن بالنسبة الى سورية. واستنادا الى ذلك يمكن القول ان احتمالات حصول الانتخابات باتت اكبر من السابق. استثناءات ومقاسات ومصالح لكن أي قانون ستجري الانتخابات على أساسه؟ المشاورات التي جرت بين المسؤولين والفاعليات اللبنانية او مع سورية ادت الى طي الاقتراح الذي قدمه الرئيس الهراوي وتركز على اعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة. كما أدت الى طي اقتراح اجراء الانتخابات على مرحلتين، والى تضمين مشروع القانون الذي سيعرضه مجلس الوزراء على مجلس النواب مجموعة استثناءات تأخذ في الاعتبار مصالح البعض ومقاسات البعض الآخر وتتجاهل مصالح البعض الثالث، ربما بسبب استمرار استثنائية المرحلة الاستثنائية التي يعيشها لبنان. والقانون المرتقب استنادا الى "بشارة" وزير الداخلية ميشال المر سيعتمد المحافظة دائرة انتخابية مع استثناءين: الاول في الجنوب حيث ستكون محافظتا النبطية والجنوب دائرة واحدة بشكل دائم، والثاني في جبل لبنان حيث سيكون القضاء دائرة انتخابية. وبهذا الاستثناء الثاني تكون السلطة راعت وضع الطائفة الدرزية الموجودة باكثريتها الساحقة في الجبل، كما يراه زعيمها الابرز الوزير وليد جنبلاط، اذ حالت دون ان يكون التمثيل الدرزي رهن اصوات غير الدروز، وتحديداً المسيحيين وتكون راعت ايضا وضع المعارضة المسيحية اذ أفسحت امامها مجال الفوز في عدد من دوائر الجبل، علما ان هذه المعارضة رفضت المعيارين معتبرة ان قانونا كهذا يحرم المسيحيين من خلال معارضتهم القوية فرصة التأثير في الدوائر الاخرى حيث لهم وجود قوي ومؤثر. وفي هذا المجال يمكن القول ان قانون الانتخاب المرتقب لن يختلف عن القانون السابق الا لجهة الدوائر، كون الجميع ليسوا جاهزين، على الاقل حتى الآن، لمعالجة موضوع تعديل سن الاقتراع والبطاقة الانتخابية وما الى ذلك. كيف سيتعامل المسيحيون المعارضون، من رافضين ومعتدلين مع القانون المرتقب ؟ عميد حزب "الكتلة الوطنية" النائب السابق ريمون اده المقيم في فرنسا قرر مقاطعة الانتخابات وطلب من محازبيه الالتزام بذلك ودعا الى التمديد للمجلس الحالي سنة واحدة يمكن بعد انقضائها وفي طور تطور العملية السلمية اي تطور بعد فوز نتانياهو؟ اجراء انتخابات حرة. فيما لا يزال المعارضان الاخران العماد ميشال عون والرئيس امين الجميل المقيمان في فرنسا ايضاً يدرسان الوضع والموضوع مع حليفهما المعارض المقيم في الداخل المهندس دوري شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار. وعلى رغم انهم يتريثون في اعلان موقفهم النهائي من الانتخابات او في اتخاذه في انتظار صدور القانون فان الميل عندهم وتحديدا عند الجميل وعون يميل الى المقاطعة. لكن هذا الجو السلبي ليس مطابقا مئة في المئة كما في السابق لاجواء معارضة الداخل. فالقطب الارثوذكسي المعارض من الداخل الدكتور البير مخيبر اعلن انه سيخوض الانتخابات، وانتقد دعوة اده الى المقاطعة معتبراً انها "هروب الى الامام". والقطب الماروني المعارض بيار دكاش يميل الى الاشتراك في الانتخابات على رغم عدم اتخاذه موقفا رسميا ونهائيا حتى الآن. والمطران الماروني بشارة الراعي الذي يعتبره كثيرون رمزاً للمعارضة وأحيانا للتطرف في الداخل، اعلن انه ضد المقاطعة ايا يكن قانون الانتخاب على رغم انتقاده الشديد لمضمون هذا القانون. والسؤال الذي يطرحه كثيرون: هل ان موقف المطران الراعي هو نفسه موقف البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير؟ الجواب ليس متيسراً حتى الآن، فصفير لا يزال ينتظر ولا يزال ينتقد المعيارين في القانون، وهو قد لا يعلن موقفاً من الانتخابات او من القانون الذي ستجري على اساسه، لا سلباً ولا ايجاباً، ربما انسجاما مع موقف الفاتيكان الداعي الى عدم مقاطعة العملية الانتخابية تصويتاً وترشيحاً. لكن ذلك لن يعني ابدا رضاه عما يجري. طبعا لا يزال امام المعارضين، لا سيما في الخارج، وقتا كافيا لاتخاذ الموقف الذي يرونه مناسبا، وهم قد يشتركون في الانتخابات او قد يحجمون عن ذلك. لكن الشيء الاكيد هو ان المقاطعة لن تكون شاملة في حال اعلانها كما في انتخابات العام 1992 علما ان ظروف الانتخابات المقبلة لن تكون متشابهة في بعض نواحيها مع ظروف الانتخابات الماضية.