قبل زيارة الرئيس جاك شيراك للبنان كان الانطباع لدى الفاعليات السياسية والدينية اللبنانية ان السياسة اللبنانيةلفرنسا بدأت تشهد تغييراً كبيراً تمثل في المواقف الآتية: 1 - اصرار فرنسا على أن يشمل اهتمامها لبنان الدولة والوطن والكيان والشعب على تنوع الانتماء الطائفي والمذهبي لعائلاته الروحية. ويعني ذلك تخليها عن الموقف الحامي للبنانيين المسيحيين، وللموارنة منهم تحديداً. ويعني ايضاً تخليها عن وضع راعي الدولة اللبنانية التي كان فيها للمسيحيين وللموارنة تحديداً الارجحية على المسلمين، سواء ابان الانتداب او بعد الاستقلال. ويعني ثالثاً انتقالها الى موقف داعم للبنان بكل طوائفه ومذاهبه. ويعني رابعاً تفهمها التغييرات التي ادخلت على النظام السياسي في البلاد وتالياً على التركيبة الحاكمة والتي كان الهدف الاساسي منها ارساء توازن وطني فعلي يحول مستقبلاً دون تجدد الحروب والنزاعات على الحصص، علماً انها تعرف ان هذا التوازن بقي حبراً على ورق وفي النصوص لاسباب عدة يسأل المسيحيون عن بعضها ويسأل المسلمون عن بعضها الآخر. كما يسأل الخارج الاقليمي عن بعضها الثالث وتحديداً المعني منه مباشرة بالوضع اللبناني مثل سورية. واذا كان هذا التغيير لا يعكس زوال العاطفة التي كان يكنها الفرنسيون لمسيحيي لبنان والتي لا تزال مستمرة، الا انه يعكس نظرة اكثر عقلانية وموضوعية الى الوضع اللبناني واكثر معرفة بالوضع الاقليمي وتشعباته الدولية واكثر ارتباطاً بالمصالح الوطنية الفرنسية. وهذا أمر مشروع باعتبار ان المصالح هي التي تحدد سياسات الدول لا سيما الكبرى منها لا العواطف. 2 - اعتراف فرنسا بدور سورية في لبنان بشكل رسمي لا سيما بعد اتفاق الطائف. واعترافها ايضاً بنوع من النفوذ السوري مستقبلاً في البلد. علماً ان ذلك لا يعني ترحيب باريس بحجم الدور السوري الحالي، على رغم تفهمها ظروفه. الاّ أن عدم الترحيب هذا لن يرجحه في صورة عملية الفرنسيون لأنهم يعتبرون انه من مسؤولية اللبنانيين من خلال توحيد كلمتهم وارادتهم. وفي هذه الحال فإن باريس على استعداد لتقديم كل ما تستطيع من عون. وقد اوضح الرئيس شيراك هذا الامر اكثر من مرة اثناء زيارته للبنان. وهذا الاعتراف مهم لانه جعل الزيارة ممكنة اولاً ذلك ان سورية خاضت في الماضي صراعات حادة لتقليص النفوذ "الاجنبي" وتحديداً الغربي في لبنان، وهو مهم ايضاً لأن من شأنه جعل فرنسا اكثر قدرة على مساعدة لبنان على حل مشاكله مباشرة وكذلك بالتعاون مع سورية صاحبة الدور الاول فيه حالياً. 3 - تخلي فرنسا عن سياسة الصراع او التنافس مع الولاياتالمتحدة في المنطقة وتحديداً في سياسة استعمال لبنان ومشاكله المعقدة اداة في هذا التنافس. وظهر ذلك واضحاً في الاشهر الاخيرة وتحديداً منذ تولي الديغولي جاك شيراك رئاسة الجمهورية الفرنسية، لا سيما في المواقف البراغماتية التي دعي اللبنانيون الى اتخاذها سواء في مواضيع داخلية لا يزال الخلاف بينهم عليها قائماً او في مواضيع ذات جوانب اقليمية مهمة. وهذا التخلي فرضه فشل فرنسا خلال سنوات الحرب في تنفيذ سياستها اللبنانية والضرر الذي لحق بلبنان، وخصوصاً المسيحيين فيه من جراء هذه السياسة. لقد حاولت فرنسا خلال سنوات الحرب وقبل مجيء العهد الشيراكي - الديغولي الايحاء بأنها تسعى الى علاقات مع كل العائلات الروحية اللبنانية، وهي قد تكون مارست سياسة بهذا المعنى على الاقل في جوانب معينة، لكن الظروف الداخلية والاقليمية والدولية ساهمت في جعلها تظهر مشجعة لفريق لبناني واحد ومعارضة لجهات اقليمية دولية عدة، والتعاطي مع مرحلة العماد ميشال عون قائد الجيش السابق رئيس الحكومة العسكرية منذ اواخر ايلول سبتمبر 1988 وحتى أواخر تشرين الثاني نوفمبر 1989 أفضل مثل على ذلك. هل أرضت السياسة الفرنسية الجديدة اللبنانيين؟ - لا شك في ان غالبية المسيحيين، لا سيما الذين يمثلهم العماد ميشال عون وتياره الواسع، والعميد ريمون اده رئيس حزب الكتلة الوطنية والمهندس دوري شمعون رئيس حزب الوطنيين الاحرار ومؤيدو الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية المنحلة والمحظورة والرئيس أمين الجميل وشخصيات سياسية مستقلة والذين يؤمن الغطاء السياسي والديني لهم البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير، لا شك في ان الغالبية لم تشعر بالارتياح للتغيير في سياسة باريس لأسباب عدة، منها اقتناعها بأن للمسيحيين مشكلة مع المسلمين في البلد تتمثل بتصرفهم في الدولة والمؤسسات على أساس انهم ربحوا الحرب الداخلية الامر الذي جعلهم يمارسون هيمنة داخلية كانوا يشكون منها ايام الهيمنة المسيحية قبل الحرب. علماً ان اتفاق الطائف نص على توازن فعلي بين الجميع. وتتمثل المشكلة نفسها ايضاً بتساهل في موضوع السيادة من قبل هؤلاء لمصلحة سورية حرصاً منهم على استمرار الهيمنة المذكورة. ومنها ايضاً اقتناعها بأن للمسيحيين مشكلة من شقين مع سورية. تتعلق الاولى بدعم دمشق الخلل الداخلي الناجم عن الاستنساب في تطبيق اتفاق الطائف. فيما تتعلق الثانية بالخوف على الكيان والسيادة والاستقلال من سورية ومن اسرائيل. علماً ان خوفهم من الاولى أكبر لانهم يخشون ان يكون السلام الآتي، اذا اتى، بين هاتين الدولتين على حساب لبنان ولمصلحة سورية. صداقة وسياسة وتخشى الغالبية المسيحية علاقة الصداقة الوطيدة بين الرئيس شيراك ورئيس الحكومة رفيق الحريري لأنها تعتقد بأن الاخير يطمح الى السيطرة على البلد. وتشاركها في هذا الخوف جهات اسلامية. كما تخشى من تحسن العلاقة بين دمشقوباريس لانها لا ترتاح الى سياسة الاولى وتعتقد بأن لها مطامح ومصالح في لبنان. وهي لا ترحب بزوال التنافس الفرنسي - الاميركي في لبنان باعتماد باريس المواقف البراغماتية لواشنطن من مشاكله الداخلية لانها تتهم الولاياتالمتحدة بأنها اما "باعت" لبنان لسورية واما لزمته لها، وفي احسن الاحوال سمحت لها بالسيطرة عليه مع بقائه دولة مستقلة نظرياً فقط. اما المسلمون عموماً فقد كانوا راضين عن التغير الفعلي في سياسة فرنسا حيال لبنان، واسباب ذلك كثيرة، منها عدم حصر الاهتمام بالمسيحيين وشموله المسلمين ايضاً والدولة الجديدة في صورة اساسية التي هي اكثر عدالة بالنسبة اليهم من الدولة التي انهتها الحرب. ومنها ايضاً التركيز على انهاء الاحتلال الاسرائيلي لاجزاء من لبنان وعلى تطبيق القرار الدولي الرقم 425. ومنها ثالثاً الاصرار على أن السلام في المنطقة يجب ألا يكون على حساب لبنان ومنها رابعاً واخيراً غياب التناقض بين سياستي فرنسا وسورية حيال لبنان وربما بداية قيام نوع من التنسيق بينهما على الصعيد اللبناني. توازنات شيراك ماذا لفت في المواقف التي اعلنها الرئيس شيراك في لبنان؟ - كل مواقفه كانت ملفتة بتوازنها ودقتها وموضوعيتها، سواء تعلقت بمشاكل الداخل او بالسيادة والاستقلال وزوال الاحتلال. لكن الموقف الذي لفت اكثر من غيره كان تشديده على مشاركة اللبنانيين كلهم في اعادة بناء مؤسسات الدولة والوطن ودعوته الى انتخابات مضمونة الحرية والى اشتراك الجميع فيها. والسبب الذي جعل هذا الموقف اكثر بروزاً من غيره قرب استحقاق الانتخابات النيابية يفترض ان تجري خلال شهري ايلول / سبتمبر وتشرين الاول / أكتوبر المقبلين والخلاف الحاد على القانون الذي يفترض ان تجري على أساسه وعلى ضمانات حريتها ونزاهتها. وهذا الامر يدفع الى طرح سؤال آخر عن المرحلة التي بلغها التعايش حول الانتخابات وقانونها سواء فيما بين اللبنانيين او مع دمشق. والجواب عن هذا السؤال كما يقدمه مطلعون على النقاش المذكور ومعنيون مباشرة به وبنتائجه يتضمن الآتي: 1 - تراجعت اسهم الافكار الانتخابية التي طرحها الرئيس الياس الهراوي. وبعضهم يقول ان غالبية الفاعليات اللبنانية السياسية والطائفية رفضتها. ولم يكن ذلك ممكناً لولا تفهم سورية الاسباب التي ادت الى رفضها وتراوحت بين استحالة تنفيذها تقنياً وبين خوف جهات عدة من ان تؤدي الى تكريس سيطرة فريق داخلي على آخر والى مجلس أقل تمثيلاً من المجلس الحالي، لا سيما مسيحياً واكثر طواعية مع سورية. علماً ان المجلس الحالي لا يشكو من عدم الطواعية. وكانت افكار الهراوي تركز على إجراء انتخابات على مرحلتين: مرحلة القضاء كدائرة انتخابية ثم مرحلة لبنان كله دائرة واحدة. 2 - هناك رفض كامل من السلطة ومن ورائها سورية لقانون انتخاب ينص على أن القضاء هو الدائرة الانتخابية على رغم انه يفرز نواباً اكثر تمثيلاً للشعب، على رغم مطالبة جهات عدة بذلك معظمها مسيحي وبعضها الآخر مسلم، ولهذا الرفض سببان. الاول انه يضفي على التمثيل النيابي مسحة كبيرة من الطائفية والمذهبية، والثانية انه يفسح المجال امام فوز عدد لا بأس به من اخصام سورية وتركيبتها اللبنانية. وهذا ما لا تستطيع تحمله في الوقت الراهن. العقدة الجنبلاطية 3 - يطرح بعضهم امكان جعل كل محافظة دائرتين انتخابيتين تأميناً لسلامة التمثيل وارضاء للفئات الاقل عدداً من غيرها والتي قد تفرض فئات اخرى تمثلها في مجلس النواب في حال كانت الدائرة اوسع. وهذا الطرح لا يستطيع احد ان يعرف اذا كان جدياً ام لا. لكنه لا يزال في سوق التداول وقد لا يكون الرئيس رفيق الحريري ضده خصوصاً اذا كان المخرج الذي يؤمن مشاركة الاكثرية الساحقة من اللبنانيين في الانتخابات. 4 - عودة فكرة اعتماد المحافظات الحالية دوائر انتخابية الى الواجهة وتجزم معلومات المطلعين والمعنيين باعتمادها وبادخال استثناء واحد عليها، على الاقل حتى الآن، وهو جعل محافظتي الجنوب والنبطية الجنوبيتين دائرة انتخابية واحدة بسبب الاحتلال الاسرائيلي لاكثرية الاقضية فيهما وكذلك مراعاة لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة "أمل" نبيه بري. وطبيعي ان يزول هذا الاستثناء مستقبلاً عند زوال الاحتلال. طبعاً يحاول بعضهم، ومنهم الزعيم الدرزي الوزير وليد جنبلاط ادخال استثناء آخر يقضي بتقسيم محافظة جبل لبنان الى دائرتين انتخابيتين او ثلاث دوائر، ويسانده في ذلك حليفه الرئيس الحريري. لكن هذه المحاولة لم تصل الى نتائج بعد، لأن الموقف منها تغير اكثر من مرة لا سيما في دمشق التي أكدت أكثر من مرة للزعيم الجنبلاطي انها تتفهم هواجسه ومخاوفه، ودعته الى عدم الخوف لكنها لم تعط الضوء الاخضر بعد للشكل النهائي الذي ستكون عليه الدائرة الانتخابية. ففي البداية ألمحت الى امكان تقسيم الجبل ثلاث محافظات ثم الى امكان تقسيمه محافظتين وقد عادت وان تلميحاً الى فكرة محافظة الجبل دائرة انتخابية واحدة علماً ان هناك من طرح اجتزاء مناطق شمالية وضمها الى جبل لبنان. وطبيعي ان يسبب له ذلك الانزعاج وقد يدفعه الى مقاطعة الانتخابات، على حد قول قريبين منه، او على الاقل عدم الاشتراك فيها شخصياً. وفي المقابل يقف المسيحيون، وتحديداً الموارنة بقيادة بطريركهم، ضد المحاولة الجنبلاطية ويصرون على المساواة في الدوائر الانتخابية ويرفضون تقسيم الجبل مطالبين بابقائه دائرة انتخابية واحدة اذا اعتمد هذا المبدأ في كل لبنان، علماً انهم يفضلون دوائر اصغر مثل القضاء مثلاً. ولا يرى جنبلاط في هذا الموقف سوى رغبة مسيحية في "الانتقام" منه بسبب حرب الجبل عام 1983 وما نجم عنها. وفي هذا المجال يتساءل جنبلاط استناداً الى القريبين منه عن الاسباب التي تدفع المسيحيين الى التمسك بالجبل دائرة واحدة. ويقول انهم واهمون اذا اعتقدوا ان في امكانهم ايصال من يعتقدون بأنهم يمثلونهم فعلاً في حال اعتماد الجبل دائرة واحدة. ذلك ان اللائحة القوية التي لن يكونوا فيها ستفرض وستحرمهم التمثيل في المجلس النيابي خلافاً لاعتقادهم. وهو يبرر اصراره على تقسيم الجبل بالقول ان الجبل يبقى مؤهلاً لتمثيل مسيحي في المجلس لاسباب معروفة على رغم ان تمثيلهم في محافظات اخرى مثل الجنوب والبقاع وبيروت بات رهن ارادة الناخبين المسلمين بسبب اللاتوازن العددي. وفي محافظة الشمال بسبب سورية على رغم التوازن العددي فيها. في حين ان الدروز لن يكون لهم تمثيل صحيح في المجلس في حال حرموا من ايصال ممثلهم في الجبل لانه معقلهم الاساسي في لبنان. ويبرره ايضاً بضرورة مساواة الدروز بالآخرين، مسيحيين ومسلمين، الذين اعطى اتفاق الطائف بعضهم شيئاً وترك لبعضهم الآخر شيئاً، في حين انه لم يعط الدروز شيئاً. وهنا فإنه يعتبر ان المسيحيين بمعارضتهم تقسيم الجبل الى اكثر من دائرة انتخابية يقفون ضد انفسهم لأن ذلك وحده يمكنه ان يوصل الى مجلس النواب نواباً يمثلونهم... مثلاً سبعة نواب في جبيل وكسروان. متى يوضع قانون الانتخاب؟ يقول رئيس مجلس النواب نبيه بري انه سيفتح المجال قريباً جداً للنواب للتقدم باقتراحات قانون في هذا الشأن اذا امتنعت الحكومة عن تقديم مشروع قانون محدد. والمسؤولون الحكوميون يؤكدون ان شهر نيسان ابريل الجاري سكيون شهر قانون الانتخاب لكن بعض المطلعين لا يستبعد ان يتأخر ذلك أسابيع عدة، كما لا يستبعد عدم اسقاط فكرة عدم اجراء الانتخابات النيابية وتالياً التمديد لمجلس النواب. على رغم تأكيد السلطة وسورية وفرنساوالولاياتالمتحدة ان الانتخابات ستجري في موعدها. وفي اي حال ان القمة اللبنانية - السورية المرتقبة او بالاحرى لقاء الترويكا الحاكمة مع الرئيس حافظ الاسد قريباً قد تعطي الاشارات الصحيحة الى الطريق التي سيسلكها الموضوع الانتخابي.