اذا أنصتّ الى الناس في شوارع موسكو اليوم فان اكثر ما تسمعهم يتحدثون عنه هو انتخابات الرئاسة التي ستجري في 16 حزيران يونيو المقبل. وكلما اقترب موعدها ازدادت حدة المناقشات بوضوح. ويخوض بعضهم فيها بأمل، وبعضهم بقلق كبير فيما لا يخفي آخرون شماتتهم. هذه المشاعر يثيرها في نفوس ابناء موسكو كما لدى مواطني كل روسيا احتمال فوز زعيم الشيوعيين الروس غينادي زيوغانوف. وتختلف الآراء في المنافس الأول لرئيس الجمهورية الحالي بوريس يلتسين اختلافاً كبيراً جداً. فأنصاره، ومعظمهم من المتقدمين في السن الذين يشكلون الكتلة البشرية الأساسية من المشاركين في المهرجانات الخطابية للمعارضة حاملة الرايات الحمراء، لا يفتأون يكررون انه "منقذ روسيا". ويوافقهم على ذلك كثيرون من العاملين في مصانع الدفاع وقسم من ضباط الجيش وأجهزة الأمن والموظفون الحزبيون السابقون. اما أبناء جيل الشباب الروس والمثقفون الليبراليون وطبقة رجال الأعمال الناشئة فمتيقنون بأنه "مهلك روسيا". الأولون يأملون بأن يؤدي وصول غينادي زيوغانوف الى السلطة الى احياء الدولة العظمى - الاتحاد السوفياتي واعادة الأنظمة السوفياتية الحبيبة الى نفوسهم - واهتمام الدولة بجميع المواطنين، والانعدام الظاهري لانقسام المجتمع الى اغنياء وفقراء، والاستقرار والاطمئنان الى الغد. وبتعبير آخر عودة الحياة السابقة التي وإن كانت فقيرة فهي هادئة ومضمونة نسبياً. أما الآخرون فيخافون ان يقضي رجوع الشيوعيين الى الكرملين على براعم الديموقراطية القليلة والضعيفة جداً حتى الآن. وأن يلغي حرية ممارسة الأعمال ويعيد الرقابة الأيديولوجية القوية وينزل "الستار الحديدي" من جديد. وهناك من يظن ان الشيوعيين الروس الجدد ليسوا اطلاقاً اولئك الذين كانوا من قبل يحكمون البلاد وانهم اصبحوا اكثر تحضراً ويأخذون في الاعتبار التحولات الجديدة في العالم ولهذا فإن مجيئهم الى الحكم لا ينطوي على اي تغيير في السياسة الخارجية والداخلية. وفي هذا الصدد يثير تحليل شخصية غينادي زيوغانوف، على ما يبدو، بعض الاهتمام. فالصفة الأساسية للشيوعيين السوفيات ظلت سنوات طويلة تتمسك بشدة بالماركسية القائمة على اساس صراع الطبقات ورفض الملكية الخاصة والأخذ بالالحاد مذهباً نضالياً... الخ. وكأن الفئة الحزبية العليا تعتبر كل انحراف عن المبادئ السائدة خيانة، الخونة ليسوا في اي مكان وزمان موضع رحمة. وكانت منظمة الشيوعيين السوفيات في السنوات الاخيرة من حياتها تبدو كديناصور تجاوز في كهفه المغلق عن العالم كل تيارات القرن الاخير، الفكرية والسياسية والاقتصادية. لكن زلزالاً تاريخياً ضرب روسيا وشكّل مفاجأة للعالم كله وللبلاد نفسها، وسلمت الشيوعية مقاليد الحكم بلا قتال تقريباً. وفي ذلك الحين، في آب اغسطس 1991 أيام محاولة الانقلاب الشيوعي الفاشل، غمرت بهجة انتصار الديموقراطية الذي بدا انتصاراً كاملاً كل أبقاع روسيا المترامية الأطراف بحيث لم يكن احد تقريبا من الليبراليين "الظافرين" يظن ان الشيوعية الروسية ستقترب بعد بضع سنوات لا اكثر من قمة السلطة وبوسائل قليلة جداً. وكل هذا يكاد يشبه ما حدث عام 1917 وإن كانت الشعارات التي يسير الشيوعيون تحتها في زحفهم الى الحكم قد تغيرت الآن، تغيراً كبيراً، كما تغير وجه الحركة الشيوعية الروسية. ولعل هذه التغيرات للشيوعية في اخر القرن العشرين تبدو اكثر وضوحاً في صورة زعيمها ابن الاثنين وخمسين عاماً غينادي زيوغانوف. كان طريق زيوغانوف الى النجاح في المجتمع لا يشبه كثيراً طريق اكثرية الزعماء الحزبيين السوفيات الذين كان صعودهم درجات السلم الحزبي يتعاقب عادة مع درجات الترقي في الخدمات الادارية، في قيادة المصانع والوزارات وغيرها. فهو أمضى طفولته في الريف وحصل على شهادة التعليم الثانوي وأدى خدمة العلم في الجيش ثم تعلم في معهد التربية في مدينة أوريول ثم عمل سنة معلماً في مدرسة قروية، وسنة اخرى مدرساً في المعهد الذي تخرج منه. وعند هذا انتهى عمله في "الانتاج". وبدأ الطريق المباشر كموظف حزبي وترقى من سكرتير للجنة المدنية للحزب الى سكرتير وعضو في المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي. مدرس رياضيات ومن الطريف ان المتطرف القومي جيرينوفسكي قال مرة مستهزئاً امام جمهور من أنصاره في معرض حديثه عن زيوغانوف: هل يمكن انتخاب غينادي زيوغانوف رئيساً، فهو ليس اكثر من مدرّس رياضيات، ومن كان منا في أيام المدرسة يحب هذه المادة؟ اضافة الى ان قواعد الرياضيات لا تصلح لادارة الدولة. وبالفعل لا يستطيع احد ان يتصور كيف سيستطيع شخص لم يشرف يوماً واحداً على ادارة حتى ورشة صغيرة او مدرسة ان يدير بلداً ضخماً وفي فترة من تاريخها صعبة جداً. ويتفق اعداء الشيوعية في الرأي مع بعض الشيوعيين، فيلتسين عندما بدأ عمله رئيساً كان مع ذلك اكثر تجربة في العمل القيادي من منافسه الحالي زيوغانوف، ومع ذلك فان الاخير لا يشكل ارباكاً لا للأكثرية الساحقة من قيادة الحزب الشيوعي الروسي ولا لجمهور ناخبي زيوغانوف المؤيدين للأفكار الشيوعية ولا له نفسه. ولكن، لا داعي للعجب، فالشيوعيون العصريون لا يزالون، على ما يبدو، يؤمنون بفكرة لينين بأنه حتى الطاهية تستطيع ان تدير الدولة في روسيا السوفياتية. ويتبين من برنامج زيوغانوف الانتخابي ان اتباع لينين في روسيا لا يزالون يأخذون بالموقف التقليدي من حل مشاكل البلاد الملحة. فعلى رغم التصريحات الكثيرة بأن الحزب استطاع ان يجمع طاقماً قوياً من الاقتصاديين المحترفين وخبراء السياسة والعلماء ذوي الاختصاصات الاخرى، تشبه بنود البرنامج قرارات مؤتمرات السنوات السابقة الحزبية التي تتضمن، عدا انتقاد النظام القائم، اعلاناً من نوع: من الضروري النهوض بمستوى معيشة الشعب وتأمين العدالة الاجتماعية... الخ. وليست هناك كلمة عن الطرق والوسائل لتحقيق ذلك، وهنا تتراءى بوضوح وصايا لينين القائلة ان المهم الاستيلاء على الحكم ثم سيتقرر كل شيء من تلقاء نفسه. الشيوعية والأورثوذكسية على كل حال، لا يُذكر اسم لينين كثيراً في تصريحات "الرفيق زيوغانوف" نفسه كما لا تذكر ايضاً كلمتا "الشيوعية" و"الاشتراكية" ولا يسمع فيها التعبير المألوف للشيوعيين "ديكتاتورية البروليتاريا" او نداء "يا عمال العالم اتحدوا". ولكن من جهة اخرى يقال فيها كثير عن صفات الشعب الروسي "الفريدة" او عن "عظمة" روسيا. والى ذلك، وهو ما يدعو الى العجب تماماً، يتحدث كبير شيوعي البلاد بدفء عن الكنيسة الاورثوذكسية الروسية مؤكداً ان يسوع المسيح كان أول شيوعي في الأرض. وقد راح اصحاب الألسن اللاذعة في موسكو يقولون مازحين بهذا الصدد ان التحية الجديدة عند الشيوعيين الروس اصبحت كلمات "المسيح قام يا رفاق!" وان الشيوعي تلقاه على الاكثر اليوم ليس في اجتماع الخلية الشيوعية بل في الكنيسة حيث يمسك الشمعة ويرسم بيده اليسرى علامة الصليب بحركة خرقاء. وحتى الملكية الخاصة يتكلم زيوغانوف عنها بلا غضب مقدس ولسان حاله يقول ان لها الحق في البقاء وان احداً لا يهم بانتزاعها وانما يجب فقط ادخال تصحيحات طفيفة على الاخطاء التي ارتكبت عند الخصخصة. لكن هذا، ليس الا واحداً من وجوه رئيس الحزب الشيوعي الروسي، وجه زعيم عاقل ومحترم لحزب تخلى، على ما يقال، عن التطرف اليساري ويتطور حسب نمط الحركات الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية. ويأخذ زيوغانوف هذا الوجه عندما يخاطب رجال السياسة والمال الغربيين ورجال الابداع والعلم الروس. اما عندما يخطب زيوغانوف في انصاره فشيء آخر. فهو عندما يعدهم بأن يعيد لهم كل قيم "الاشتراكية المتطورة" الحبيبة الى قلوبهم، بما فيها طبعاً "الملكية الشعبية العامة لوسائل الانتاج" يتكلم امام مستمعيه لا كاشتراكي ديموقراطي من النمط الغربي بل كشيوعي نموذجي. وعندما يكون "الرفيق زيوغانوف" بين أنصاره لا يعدهم فقط باعادة الرقابة الحزبية على كل مجالات الاقتصاد - فهذا ما يمكن به تفسير معنى اعادة الملكية الشعبية العامة - وانما يدعو ايضاً الى العودة الى دور الدولة كناظم وضابط والى دعم مصانع الدفاع والطاقة والزراعة. وبتعبير آخر يدعو الى العودة الى توظيف اموال ضخمة في انتاج الاسلحة وفي مختلف انواع المشاريع الجنونية في مجال الطاقة وأيضاً الى تمويل الزراعة الكولخوزية الجماعية الخاسرة وغير الفعالة، اي الى السياسة الاقتصادية نفسها التي أدت الى انهيار الاقتصاد السوفياتي. وتعيد التصرفات العملية الى الذاكرة ذلك التمسك بالماضي، فعندما رأى ابناء موسكو على رأس المسيرة الشيوعية لمناسبة اول أيار مايو من هذه السنة سيارة شحن تحمل على صندوقها صورة ضخمة لزيوغانوف عاد كل الماضي. فبكثرة صور قياديي الحزب الشيوعي كانت تتميز مسيرات العيد في العهد السوفياتي. وهناك ظاهرة اخرى لعلها اكثر خطورة، اذ صرفت من العمل ويقال ان ذلك بإيعاز شخصي من زيوغانوف اقدم الصحافيات الحزبيات ناديجدا غاريفولينا العاملة في جريدة "سوفيتسكايا روسيا" لسان حال الحزب الشيوعي الروسي بسبب عدم موافقتها على بعض اعمال رئيس الحزب. افليس هذا هو النضال التقليدي بالنسبة الى الشيوعيين ضد اقل مظهر من مظاهر مخالفة الرأي؟ وحلل احد "رفاق" زعيم الحزب الشيوعي الروسي في الفكر مسلك زيوغانوف من نهاية الثمانينات وحتى اليوم واتهمه بالتودد باستمرار الى السلطات، وفي فترة المحاولة الانقلابية سنة 1991 وجه الشيوعيين اعضاء البرلمان الى تأييد تفكك الاتحاد السوفياتي، ويشار الى ان زيوغانوف وصل الى قمة السلم الحزبية ليس بواسطة اتباع الحزب الشيوعي الذين كانوا في ذلك الوقت ضعفاء ومشتتين وانما بواسطة القوميين الوطنيين. ولهذا السبب لا يحق لزيوغانوف في رأي اللينينيين الاقحاح ان يسمي نفسه شيوعياً ولا ان يترأس منظمة لعموم روسيا... على كل حال، يفسر زيوغانوف نفسه بشكل اوسع من زعيم لشيوعيي روسيا. فليس الحزب الشيوعي وحده هو الذي رشحه للرئاسة بل كتلة من الحركات السياسية التي تسمي نفسها بپ"القوة الوطنية". وهذه القوى هي التي سيمثلها اذا فاز في الانتخابات. على الأقل هكذا يبدو الامر الآن. ومن المستحيل القول بالتحديد حالياً ماذا سيحدث فعلاً اذا اصبح زيوغانوف رئيساً. لكن التجارب، ومنها التجربة الروسية، تدل على ان الكتل والائتلافات تنحلّ بسرعة ويبقى في السلطة اكثر الاحزاب تنظيماً وقوة. أي وجه من وجوه زيوغانوف الثلاثة هو الحقيقي اذن؟ من هو في الواقع - اشتراكي ديموقراطي من النمط الغربي ام لينيني ام قومي؟ وفي أية حلة سيقف اذا اصبح في قمة السلطة السياسية في روسيا؟ الارجح انه سيرتدي القناع الذي سيراه هو الاصلح في الظروف السياسية الحاضرة، لكن المرجح أيضاً ان هذا ليس هو الأهم الآن. وانما الأهم والاخطر هو ان زيوغانوف في حال مجيئه الى السلطة لن يستطيع على الاكثر ان ينفذ المهمات التي حددها لنفسه، فليست عنده لهذا لا الموارد ولا الآلية ولا الكادرات. اما "الأعاجيب" التي يؤمن بها الكثيرون من الروس ايماناً اعمى فليس لها وجود في الدنيا. لذلك فان مشاكل روسيا التي يعد بحلها بسهولة لن تزول بل بالعكس ستتفاقم. وأكثر من ذلك فان دخوله الكرملين قد يزيد من تفاقم الانقسام في المجتمع الروسي ويهدد بدفعه الى حد الحرب الأهلية. وهذا الخطر هو ما حمل رجال الأعمال الروس اخيراً، ومن ورائهم العلماء على مناشدة المرشحين الأساسيين للرئاسة ان يتفقوا على سبل احلال السلام والطمأنينة في المجتمع. ومع ذلك يصعب على زيوغانوف ان يفوز في انتخابات 16 حزيران يونيو الرئاسية. فروسيا شفيت، في معظمها، من "مرض" الشيوعية. ففي الانتخابات البرلمانية في كانون الأول ديسمبر الماضي صوّت الكثيرون ليس للشيوعيين بل ضد اعباء الحياة الراهنة ملمحين بذلك تلميحاً شفافاً للسلطات الحالية. ولكن الكثيرين منهم جادون في عدم رغبتهم العودة الى "الفردوس الشيوعي"، ولهذا فانهم في الانتخابات المقبلة سيصوتون على الأقل "ضد كل المرشحين". وإذا حدث هذا فان احداً في الانتخابات الرئاسية التالية لن يعود يحمل على محمل الجد ليس فقط ترشيح زيوغانوف بل أي مرشح شيوعي آخر، كما لا يحمل احد تقريباً، اليوم على محمل الجد ترشيح فلاديمير جيرينوفسكي الذي كان حتى الآونة الاخيرة "نافذاً" جداً.