انتمى اناتولي تشيرنياييف من مواليد العام 1921 الى عضوية الحزب الشيوعي السوفياتي منذ العام 1942. وعمل نائباً لمدير القسم الدولي في اللجنة المركزية للحزب، وعضواً في لجنة الرقابة المركزية التابعة للجنة المركزية 1971 - 1986، وعضواً في اللجنة المركزية ومعاوناً للأمين العام للجنة المركزية للحزب 1985 - 1990، ثم اختير مساعداً لرئيس الاتحاد السوفياتي السابق 1990 - 1991 ويعمل منذ 1991 مديراً لجهاز مستشاري صندوق الرئيس السابق للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. وقد ألّف دراسات عدة منها كتابه "ست سنوات مع غورباتشوف". حاورته "الوسط" في شأن مستقبل روسيا إثر الانتخابات النيابية الأخيرة، فقال "ان الانتخابات بحد ذاتها حدث مهم في تطور ديموقراطيتنا. اذ ان لها أهمية معنوية وسياسية وسيكولوجية كبيرة في تطوير وترسيخ الديموقراطية وبناء المجتمع المدني الذي لم يكن موجوداً في روسيا. أما عن تأثير الانتخابات على العملية السياسية والتغيرات السياسية في بلادنا فلا أتوقع تغيرات كبيرة في القريب العاجل". وتابع: لا أميل الى وصف ما حققه الشيوعيون في الانتخابات بأنه انتصار، وليس فقط لأنهم لم يحصلوا على الغالبية الساحقة للأصوات، بل ايضاً لأن هذا النجاح لا ينم مطلقاً عن غلبة الايديولوجية الشيوعية والميول الشيوعية حتى بين المنتسبين الى هذا الحزب أو الذين صوتوا للشيوعيين باخلاص. لأن الناس يشعرون بالحنين الى الانجازات الاجتماعية التي حدثت في عهد السلطة السوفياتية. لكنهم لا يريدون العودة الى الماضي باستثناء فئات محدودة جداً من السكان. وعندما ذكرنا لتشيرنياييف ان التحول الى اليسار يحدث بوضوح في المجتمع الروسي، قال: "هذا أيضاً أشكك فيه. وعموماً يجب ان نتخلى عن المصطلحات والتعابير التي وضعت في عهد سيطرة الماركسية - اللينينية. ففي بلادنا لا يحدث تحول الى اليسار، بل انشطار المجتمع، انشطار مادي وسياسي وسيكولوجي. والحقيقة انه يتبلور استياء من السياسة التي انتهجت في البلاد طول السنوات الأربع الأخيرة وخيبة أمل في الوعود التي لم تنفذ أو اذا نفذت فهي تنحصر في دائرة ضيقة من الذين يستفيدون من تلك السياسة. وهذا الاتجاه هو ما تجلى ابان الانتخابات البرلمانية. وسألته "الوسط": كيف يمكنكم ان تفسروا تلك العملية العاصفة من "التشيع" التي اجتاحت اخيراً مجموعة من البلدان: بولندا والبلطيق وسلوفاكيا وآسيا الوسطى؟ فأجاب "لا أحب ان استعمل لفظ التشيع ولست موافقاً على وصف هذه العملية بأنها رجوع الى الماضي. انها عودة الى الحالة الطبيعية. اذ كانت هذه البلدان تعيش في كنف نظام مصطنع مفروض عليها الى حد كبير من جانب موسكو، ومفروض من كل منظومة ما يُسمى المعسكر "الاشتراكي والاسرة الاشتراكية". وما ان زال خطر استعمال القوة حيال هذه البلدان حتى أصبحت تعود الى الحالة الطبيعية. وهذه عملية طبيعية لن تؤدي في أي مكان ولا بأحد الى شيوعية. وطبعاً بعد تحول هذه البلدان الى دول ذات سيادة حقيقية مالت الأرجوحة بشدة الى اليمين أي باتجاه الليبيرالية أو، ان أمكن القول، باتجاه الرأسمالية التي لا تخضع لرقابة. لا أرى هنا أي خطر للعودة الى الشيوعية الى ما يسمى الاشتراكية الواقعية. ان شيئاً من هذا لن يحدث لا في المجر ولا في بولندا ولا بلغاريا ولا ليتوانيا". ويكتسب الحديث مع تشيرنياييف أهمية خاصة بحكم انه كان أحد شهود الانهيار السريع للايديولوجية الشيوعية. سألناه لماذا حدث ذلك بتلك السرعة؟ فردّ: لنبدأ بأنه لم يحدث انهيار سريع للايديولوجيا الشيوعية، وانما نُخرَت على مدى عشرات السنين، وانحطت، وتعفَّنت. ولم تعد رمزاً للايمان بها منذ الخمسينات. اقصد طبعاً الايديولوجيا الشيوعية بشكلها الخالص. فبعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي العام 1956 لم تعد لدينا ايديولوجيا شيوعية خالصة. وجاءت فترة بريجنيف أو ما يُسمّى بالركود فدمَّرت نهائياً الاحترام بتلك الايديولوجيا. ولم يكن يصدقها موظفو الحزب، ولا الجماهير العريضة والغالبية الساحقة من المثقفين. لهذا لم يكن هناك انهيار سريع، وانما كانت تلك عملية طبيعية. بهذا الشكل ألا تأسفون شخصياً على ما حدث؟ - انا شخصياً لست آسف على ذلك بأي حال. فأنا لم أكن مؤمناً بأي مثل عليا شيوعية، ولم أكن أصدق اننا نبني المجتمع الشيوعي. لكنكم آنذاك لم تكونوا تقولون ذلك بمثل هذه الصراحة… - في ما بيننا، حتى في جهاز اللجنة المركزية، كنا نقول ذلك. وكان سكرتير اللجنة المركزية بوريس بونوماريوف الذي توفي قبل أيام يعرف كل هذا. طبعاً لم يكن يشاطرنا وجهة نظرنا ولكنه كان يصبر علينا ويفهم في أعماق نفسه ان لنا الحق في ان تكون لنا وجهة نظرنا. ففي القسم الدولي للجنة المركزية كان يسود عموماً جو التبادل الحر، الى حد ما، للآراء. وطبعاً كان الناس ينظرون نظرات مختلفة الى الماركسية - اللينينية كنظرية، وكان بعضهم يؤمن بها فعلاً. اما فيما يتعلق بالايمان بالشيوعية فحتى في جهاز اللجنة المركزية لم يبق في العقود الأخيرة من السنين سوى افراد فحسب يؤمنون عن اقتناع بالمثل العليا للشيوعية. اما ان الشيوعيين كأعضاء في الحزب كانوا يخدمون نظامهم لعدم وجود طريقة اخرى لابداء قدرتهم الاجتماعية كأناس فاعلين فهذا شيء آخر. لم يكن بوسعهم ببساطة ان يخدموا الدولة والوطن من دون ان يكونوا في الحزب ومن دون ان يتظاهروا بأنهم يأخذون بايديولوجية الحزب ويؤيدونها. لكن في أساس الايديولوجية الشيوعية ضرورة داخلية للدفاع عن قيمها بكل الوسائل، بما فيها القوة. ودلت أحداث المجر وتشيكوسلوفاكيا وافغانستان على ان الأنظمة الشيوعية أو الموالية للشيوعية اعيدت الى سدة الحكم هناك ببنادق القوات المسلحة السوفياتية. فما الذي حال في روسيا أو بتعبير أدق في موسكو دون اللجوء الى استخدام القوة في آب اغسطس 1991 لاعادة دعائم الحزب والدولة. - غورباتشوف لم يشأ ذلك. اذ حدد خياره الديموقراطي، خياره في اتجاه الحرية، في اتجاه جعل مجتمعنا الذي كان أسيراً للعقائد الجامدة الايديولوجية مجتمعاً عصرياً طبيعياً. ولم يكن مقبولاً لديه استخدام القوة في السياسة الداخلية والخارجية. لم يكن بوسعه ان يفعل ذلك لأنه كان، هو نفسه يطور الأنظمة الديموقراطية ويدعو الى احترامها. وفضلاً عن ذلك بذل غورباتشوف اقصى ما في وسعه في حدود القواعد الديموقراطية لمنع الانهيار العفوي للاتحاد السوفياتي بل لجعله دولة ديموقراطية طبيعية. ان غورباتشوف على الرغم من كل أخطائه وهفواته ومواضع ضعفه كان - كرجل دولة - يشعر بألم عميق واهتمام شديد بمصير شعبه. كان يريد ان تتحسن معيشة الشعب. وكان لا بد لهذا من "البيريسترويكا". لكنه أدرك انه في اطار ذلك النظام الذي عاش وعمل فيه مدة طويلة لن يستطيع تحقيق تطلعاته النبيلة. واذا اردنا ان نحكم على القيادة الحالية يمكننا ان نلخص ذلك في ما يأتي: لا احترام للشعب ولا اهتمام بحاجة الشعب! ما هو في تقديركم توقعات الانتخابات الرئاسية في روسيا وفرص مشاركة غورباتشوف فيها؟ - سأعبر هنا عن رأيي الشخصي الذي لا يريد الكثيرون الموافقة عليه في مجموعة زملائنا في صندوق غورباتشوف. رأيي انه اذا قرر الرئيس بوريس يلتسين البقاء في الحكم - وتدل كل الدلائل على انه قرر ذلك - واذا سمحت حالته الصحية بذلك فان نخبتنا السياسية لن تجد بديلاً منه. لكن كتلة "بيتنا روسيا" لم تنل في الانتخابات البرلمانية سوى المرتبة الثالثة بين القوائم الحزبية وهذه الكتلة هي التي تعبر عن موقف الرئيس والحكومة… - هذا صحيح، لكن الصورة قد تتغير اثناء الانتخابات الرئاسية. فأنا لا أتصور ناخبين حتى بين الشيوعيين يريدون رؤية جيرينوفسكي مثلاً أو يافلينسكي على كرسي الرئاسة أنا مثلاً قد أصوت شخصياً لغريغوري يافلينسكي اذا رشح نفسه للانتخابات الرئاسية ولكن هذه مسألة اخرى أو غينادي زيوغانوف. على العموم هناك اتجاه وطموح عامان الى نظام مستقر، فقد سئم الناس الانقلابات والاصطدامات والعراك السياسي والفضائح ومن باب أولى خطر استخدام القوة في الحياة السياسية. تعب شعبنا من الثورات ولا يريد العودة اليها مطلقاً. الا ترون امكان توحيد القوى الديموقراطية ككتلتي غريغوري يافلينسكي وايغور غايدار وغيرهما لترشيح مرشح واحد للرئاسة؟ - اعتقد انهم لن يتفقوا على هذا، مدركين انهم بذلك يفقدون صورتهم كشخصيات حزبية ذات وزن، ولن يفوزوا بالسلطة الرئاسية. وهذا الخط يسير عليه يافلينسكي بوضوح. انه طبعاً سيرشح نفسه، ولكنه يشك في الفوز بالرئاسة. اما فيما يتعلق بما يقال من انه سيستطيع الاتفاق مع فيكتور تشيرنوميردين فاستبعد ذلك. ولا أشعر أيضاً بمبرر للخوف من الشيوعيين كما نسمع في الغرب وعندنا في المعسكر الديموقراطي، خصوصاً بين المثقفين وما يقال عن ان الشيوعية تشكل خطراً وان زيوغانوف سيستلم الحكم وسيعود كل شيء الى سابق عهده. ان شيئاً من هذا لن يحدث. سيكون هناك وجود قوي للشيوعية في السلطة التشريعية والتنفيذية، كما هو الأمر بالنسبة الى الديموقراطيين في كل المعسكرات. وطبعاً سيترك هذا أثره في الحزب الشيوعي وقد تحدث انقسامات لأن جماهير الحزب قد لا تؤيد سياسة رفاقهم في المؤسسات الحاكمة المضطرين الى السير على الخط الحكومي المختلف عن خط الحزب الشيوعي وعن الشعارات التي خاضوا بها الانتخابات البرلمانية. ان الانقسامات ستحدث طبعاً، ولكن لن تحدث مطلقاً انتفاضة شيوعية. وفي رأيي ان الشيوعيين استنفدوا آخر خط لهم وآخر انجازات. فالخطوة التالية هي دعوة الناس الى المتاريس بمقدار ما سيسوء الوضع في البلاد وسيسوء فعلياً. لكن الزعماء الحزبيين انفسهم لن يذهبوا الى المتاريس ولن تتبعهم الجماهير. ولهذا فلا مخرج لدى الشيوعيين غير محاولة التسلل الى البنى السلطوية وتثبيت اقدامهم فيها بشكل ما. وعندما يجد الشيوعيون انفسهم في "احضان" السلطة سنرى آنذاك ماذا سينتج من ايديولوجيتهم الشيوعية. الا ترون خطراً من تجدد الحرب الباردة والمواجهة بين الشرق والغرب في ضوء التغيرات التي تشهدها روسيا وأوروبا الشرقية وتوسع حلف الأطلسي شرقاً؟ - استبعد ذلك تماماً. في عهد غورباتشوف كنت أقول انه لن يكون هناك أي خطر على روسيا من توسع حلف الأطلسي. ويجب بوضوح تمييز الديموغاجية والميثولوجياوالوطنية الكاذبة عن الوضع الاستراتيجي الواقعي. فحلف الأطلسي لم يعد تلك المنظمة الحربية السابقة، اذ طرأت عليه تغيرات. وكما تبيّن فليس هناك من يَهُم بالهجوم علينا: لا الامبريالية الأميركية ولا قوى حلف الأطلسي. وما ان حوّل غورباتشوف العقارب في اتجاه تصفية الحرب الباردة حتى ذابت كل هذه المخاوف المصطنعة. وانجاز غورباتشوف في هذا الجانب لا يزال قائماً. ولا يمكن ان تحدث في المستقبل أي حرب باردة لأن المنطلق اللازم لها ازيل، وهو الاستقطاب الثنائي للنظامين الاجتماعيين وعدم توافق الايديولوجيتين. صحيح ان بعض الشيوعيين وانصار جيرينوفسكي بل قادة الأجهزة الحكومية بمن فيهم وزير الخارجية السابق اندريه كوزيريف يسمحون لأنفسهم أحياناً بالتغني بالوطنية المتطرفة لكسب رأس مال سياسي لأنفسهم واللعب بعقول الناس غير المطلعين وغير العارفين الذين يعيشون بايديولوجية واستراتيجية القرنين التاسع عشر والعشرين، ايديولوجية الحرب العالمية الثانية. لن يكون أي شيء من هذا القبيل. نعم، ان الكثيرين طبعاً احتاروا وارتبكوا اثر سقوط جدار برلين وانتهاء عصر المواجهة. وارتكبت الحكومة الروسية والسياسة الخارجية الروسية عند ذلك كثيراً من الحماقات. وتأرجحت ديبلوماسيتنا ولا تزال تتأرجح ذات اليمين وذات الشمال وليست لها حتى الآن وجهة جادة. شرح الصورة: تشيرنياييف: نجاح الشيوعيين ليس انتصاراً.