حينما استقال بوريس يلتسن من رئاسة الاتحاد الروسي أواخر العام الماضي، توجس البعض خيفة من خلل يطرأ على معادلات السياسة الروسية. وتهيّب آخرون تغييرات تطيح أقطاباً هيمنت على الدولة. إلا أن أحداً لم يكن ليتوقع ان غياب يلتسن سيكون "خسارة" لزميله السابق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي غينادي زيوغانوف الذي كان قائداً لمعارضة متشددة ناصبت يلتسن العداء، لكنها اخفقت في اطاحته عبر الانتخابات الرئاسية التي خاضها زيوغانوف أو من خلال اجراءات سحب الثقة. فيلتسن كان رمزاً ل"اصلاحات" كارثية وتجسيداً لتيار جارف اكتسح الدولة الموحدة وهدم اقتصادها واطلق أيادي اللصوص والنصابين لنهب ثروات البلد واعتمد سياسة مرغت سمعة روسيا وهمشت دورها العالمي وافقدتها كل حلفائها. ورغم ان زيوغانوف، المولود في 1944، كان من المعارضين لنهج الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف فإنه لم يشارك في التمرد العلني ضده. كما انه لم يحالف يلتسن حينما انتصر على الحركة الانقلابية صيف 1991 وصار الحاكم الفعلي للكرملين، قبل أن ينتقل الى عرشه رسمياً بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي اواخر العام ذاته. وانزوى زيوغانوف مع الكثيرين من الكوادر القيادية للحزب الشيوعي المهزوم لكنه لم ينتقل، كما فعل آخرون من رفاقه، الى صفوف المنتصرين. ولم يستثمر علاقاته المتشعبة للحصول على جزء من كعكة الخصخصة. بل قاد بهدوء عملية "لملمة الشتات" وخاض معركة قضائية لالغاء قرار تعسفي اصدره يلتسن بمنع الحزب الشيوعي. وبعد مرور سنتين حقق زيوغانوف الهدفين وقاد قائمة حزبه في الانتخابات البرلمانية أواخر 1993. ورغم انها جرت في جو عدائي خلفه قصف البرلمان الشرعي بالدبابات ومنع مطبوعات الأحزاب المعارضة، فإن حزب زيوغانوف حصل على 13 في المئة من المقاعد في مجلس الدوما، وارتفعت هذه النسبة الى 23 في الانتخابات البرلمانية عام 1995. ومع افتضاح حقيقة "الاصلاحات" وتزايد الاعباء على الشعب الروسي، قرر زيوغانوف خوض المعركة الرئاسية ضد يلتسن الذي كانت شعبيته هبطت الى 2-3 في المئة فقط، وبدا ان تجديد ولايته في انتخابات عام 1996 سيكون اما معجزة أو عملية نصب كبرى. وقد كان انحياز الدولة كلها للرئيس المرشح واضحاً: فقد كرست كل موارد السلطة التنفيذية ووسائل الاعلام ل"تلميع" صورة يلتسن وتحميل خصمه زيوغانوف أوزار الماضي الشيوعي، رغم ان الأول كان متفوقاً على الثاني بمراحل في سلم القيادة الحزبية الشيوعية. بل انه مسؤول شخصياً عن حملات تعسفية بينها هدم المنزل الذي اعدم فيه قيصر روسيا وأفراد عائلته، وذلك لاخفاء ما تبقى من آثار تلك الجريمة التي ارتكبت غداة الثورة البلشفية. ورغم ان عوامل كثيرة كانت ترجح فوز زيوغانوف فإنه قاد الحملة الانتخابية ب"رخاوة" مريبة دفعت المراقبين الى الحديث عن أن زعيم الحزب الشيوعي خاض الانتخابات لكي... يتحاشى الفوز فيها. وبني هذا التفسير على ان الشيوعيين يدركون ان وصولهم الى السلطة "مرفوض" دولياً واقليمياً، كما ان النخب المسيطرة على مقاليد السلطة والمال داخل روسيا ربما تهيأت للقيام بمغامرة انقلابية في حال فوز زيوغانوف. بل لعل المرشح ذاته لم يكن مستعداً لتحمل المسؤولية عن أرض يباب تركها يلتسن تعج بالآفات التي يمكن أن تأكل ما تبقى. وكان بقاء يلتسن يوفر له أرضية صلبة لمعارضة تتمتع بشعبية واسعة وتؤمّن كسب الأصوات "الرافضة". وبغيابه فقد الشيوعيون واحدة من "الركائز" المهمة، خاصة وأن الرئيس الجديد فلاديمير بوتين انتزع منهم شعارات أساسية مثل "الدولة القوية" ومحاربة الفساد والعودة الى حكم القانون. وكان المؤتمر السادس الذي عقده الحزب الشيوعي أخيراً وجدد فيه الولاية لغينادي زيوغانوف تجسيداً للحيرة التي تسود الحزب. اذ انه أكد بقاءه في المعارضة لكنه لم يعد يطالب ب"تغيير النظام"، واقتصر على الاعلان عن رفضه "تأييد النهج الحالي". ورغم ان خصوم زيوغانوف حافظوا في خطاباتهم العلنية على القدر الأكبر من "الانضباط الحزبي" ولم يوجهوا اللوم علناً لقائدهم، إلا ان زعيم المعارضة الداخلية فيكتور ايليوخين طالب بأن يدرج في النطام الداخلي للحزب بند يمنع التجديد لرئيس الحزب لمدة تزيد عن ثماني سنوات. لكن اعضاء المؤتمر رفضوا هذا الاقتراح وأعادوا انتخاب زيوغانوف وأبعدوا عن القيادة "الصقور" الشيوخ وطعّموها بشبان - أو بالأحرى كهول - براغماتيين يسايرون زيوغانوف في اتباع سياسة "المعارضة البنّاءة" ومحاولات جمع المتناقضات أو التخفيف من حدة تصادمها. وواضح ان زيوغانوف يلتزم المعادلة التي وضعها في أواسط التسعينات، حينما أشار الى أن "روسيا سفينة كبيرة لا يجوز ان تدار دفتها بحدة حتى الى اليسار". وعلى المنوال ذاته نهج في عمله الهادىء داخل الحزب لتغيير بنيته وايديولوجيته، اذ تخلى تدريجاً عن مبادئ كانت أساسية في العقيدة الشيوعية التقليدية مثل "ديكتاتورية البروليتاريا" و"الأممية البروليتارية"، بل انه لم يعد يطالب بالغاء الملكية الخاصة. ولم تتضمن وثائق المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اشارة الى... الشيوعية، بل اقتصرت على الدعوة الى بناء الاشتراكية كهدف استراتيجي وليس آنياً، وشددت على "سلطة الشعب" بدلاً من "سلطة البروليتاريا"، ما يلغي عملياً مبدأ الصراع الطبقي الذي كان عماد وجوهر النظرية الماركسية اللينينية وفق مفهومها السوفياتي، مع ان زيوغانوف دعا الى العمل اعتماداً على "الديالكتيك الماركسي اللينيني". وهذا تطور مهم اذ يعني التخلي عن اعتماد القوالب النظرية الجاهزة وقبول مبدأ "الاجتهاد". ولئن كان استشهد في موضع أو موضعين بمقولات لينين، فإن هذه الاحالات كانت أشبه ب"دفع بلاء" وتفادياً للوم الشيوخ ريثما يجري رفد الحزب بدماء شابة. وقد حرص زيوغانوف، الريفي الاصل المولود في محافظة اريول التي غدت جزءا من "الحزام الاحمر" الذي يطوق العاصمة، على ترضية الرعيل القديم بوضع تمثال لينين في صدر قاعة الأعمدة التي عقد فيها المؤتمر السادس والمجاورة للكرملين. ولتذكيرهم بالماضي التليد دعيت وفود من الاحزاب "الشقيقة والصديقة" كما في الأعوام الخوالي. وحاول زيوغانوف ان يجمع الانقاض في قاعة واحدة إلا انه اخفق في احتواء "مبارزات" كلامية بين وفدي حزب البعث الحاكم في العراق والحزب الشيوعي المعارض. وينبغي ان يسجل لزيوغانوف انه كان الوحيد بين ساسة الصف الأول في روسيا الذي لم يحن رأسه أمام الموجة العاتية الموالية لاسرائيل، وقاد حملة تدعو الى الانصاف والشرعية مؤكداً، في خلاصة مقال نظري عن الشرق الأوسط، ان لكل من العرب واليهود حقاً في اقامة الدولة. واضاف ان "واقع غياب الدولة العربية يؤشر بوضوح الى الطرف المنكوب والضحية، وحتى اعادة الحق الى نصابه على روسيا ان تدعم نضال العرب الفلسطينيين من أجل اقامة دولتهم". ويقترب زيوغانوف من بوتين في الدعوة الى اتخاد موقف "متميز" عن الأميركيين والدفاع عن المصالح الوطنية لروسيا. إلا أن الزعيم الشيوعي الذي ما زال يمارس هوايته الاثيرة في لعبة الكرة الطائرة يتحاشى "كبس" الكرات السياسية كما كان يحب ان يفعل ابان حكم يلتسن. بل يؤثر الآن تمريرها الى سيد الكرملين اما عن قناعة بأنه أقدر على "لعبها" أو لعلمه بأن بوتين واحد من أبطال... الجودو.