يحتل الروائي المغربي إدريس شرايبي منزلة على حدة على خريطة الأدب المغاربي. ليس فقط لكونه يعد - إلى جانب الجزائري محمد ديب - آخر الأحياء من رواد هذا الأدب ومؤسّسيه، وأحد أغزر كتابه انتاجاً، ولكن أيضاً لما انفرد به من أسلوب ساخر وميول عبثية غير معهودة في أدب المغرب العربي. فهذا الأدب يغلب عليه طابع الجدية والصرامة المفرطة الموروثة عن حركات التحرر الوطنية التي نشأ في خضمها وانصهر في بوتقتها. وقد انعكس هذا التحدّر بشكل واضح على نتاج الرعيل الأوّل، سواء من خلال الواقعية الطاغية، أو من خلال المضامين الوطنية والثورية "الملتزمة" الحاضرة بقوّة لدى جيل الرواد الذين ينتمي إدريس شرايبي إليهم. لكن الأخير اختار أن يكون الطائر المغرّد خارج سربه، وتمرّد على المدرسة الواقعية التي كان أسهم في تأسيسها خلال الخمسينات، بأعمال روائية بارزة، ك "الماضي البسيط"، "التيوس" أو "الزحام". وبدأت بوادر التحوّل الأولى في أدبه بالظهور منذ روايته السادسة الشهيرة "الحضارة، أمّاه!" التي جاءت حافلة بالتهكم والسخرية اللاذعة من كل ما هو سائد في الاوساط الثقافية في بلاده. هكذا اخترع شرايبي شخصية "المفتش علي" قبل قرابة أربعة عقود، وجعل منها الشخصية المحورية لرواياته كافة، وصولاً إلى عمله الجديد، الصادر أخيراً عن منشورات "دونويل" في باريس: "المفتش علي في ترينيتي كوليدج". فمع روايات مثل "تحقيق في البلد"، "إن صديقاً سيأتي لرؤيتك"، و"أم الربيع"، حقق شرايبي قطيعة جذرية مع أعماله الأولى، على الرغم من أهميتها ومن الشهرة التي درّتها عليه. ومع روايته السابقة "مكان تحت الشمس" راجع "الوسط"، 23/5/1994، قطع آخر الجسور التي تربطه بالمدرسة الواقعية، ما عرّضه لانتقادات لا تحصى، راح يرد عليها أحياناً بالنكات اللاذعة أو الشتائم المتفجرة، أو يتعالى في أحيان أخرى عن الردّ على مهاجميه أو طارحي الأسئلة عليه، مكنّساً كلام محاوريه بحركة عصبية من يديه، تشبه إلى حد بعيد الحركة المميزة لبطل رواياته "المفتش علي"، كلما اعترضته معضلة أو واجهه لغز بوليسي. وكثيراً ما يغادر إدريس شرايبي الندوات وجلسات النقاش بشكل مفاجئ، وينصرف غير عابئ بشيء، كما فعل مفتّشه الشهير في نهاية "مكان تحت الشمس"، حين صفق الباب فجأةً قبل أن يحل الحبكة البوليسية المطروحة عليه، منشداً بلامبالاة تامة: "ليس لي أب ولا أم/ ليس لي خالة أو عم أو صديق/ أفضي له بالفرحة العارمة التي تسكنني/ عدا هذا العالم الفسيح...". انتقاد لاذع لأدعياء الحداثة ولم تغب عن كتابات شرايبي تلك السخرية الحادة من الأوساط الثقافية. ففي رواية "تحقيق في الوطن" يصف المثقفين العرب الجادين - أو الذين يتظاهرون بذلك - ب "الحشرات المتثاقفة". وتتضمّن "المفتش علي في ترينيتي كوليدج" انتقاداً لاذعاً لبعض ادعياء الحداثة في الثقافة العربية. فعلى امتداد صفحات قد تكون أجمل ما في روايته الجديدة التي يغرف فيها من التراث الشعبي ومن حياة الناس البسطاء في المغرب، يتلذّذ الكاتب المغربي بتحديد عمق الهوة التي تفصل هؤلاء "المتثاقفين" عن واقع ناسهم وانشغالاتهم... وفي مكان آخر من الرواية، أكثر مباشرة وصدامية، نجد المفتش علي في محاضرة يلقيها أحد الأكاديميين الجزائريين في احدى الجامعات البريطانية، عن "الانشغالات الحداثية" في ثقافة بلاده. فإذا بالمفتش علي يثور ويمسك بخناق المحاضر، ويبرز بحركة مسرحية بطاقة شرطة من سكوتلانديارد سُلّمت إليه في اطار التحقيق الذي يجريه في بريطانيا، آمراً باعتقال الرجل وارساله على متن أول طائرة إلى بلاده ليتعرف على الانشغالات الحقيقية لأبناء شعبه هناك... وعبر حبكة ظاهرية تتمثل في تحقيق بوليسي يقوم به المفتش علي عن مقتل أميرة مغربية من طلاب ترينيتي كوليدج في بريطانيا، تنتقد الرواية العقليات والقيم التقليدية التي ماتزال راسخة في مجتمعاتنا، مثل البكارة وتبجيل الذكورة والنظرة الغيبية إلى الأشياء والتعلّق بالخوارق، الخ. يفعل شرايبي ذلك بعمق وجرأة قلّما نجدهما حتى في أبرز الروايات الواقعية العربية. لكن المتعة الحقيقية التي تنضح بها الرواية، تدور حول شخصية المفتش علي التي يكشف لنا الكاتب جوانب جديدة منها في كل رواية جديدة له. واللافت هنا أن الحدود الفاصلة بين إدريس شرايبي وشخصيته تمّحي تدريجاً، فتتماهى في النص الشخصيّتان الحقيقيّة والروائيّة، وتتداخل ملامحهما. فالمفتّش علي شرطي متذوق للشعر والأدب والفنون عموماً، يعتقد في قرارة نفسه ان له مواهب أدبية، ويحلم بالاستقالة من الشرطة بغية التفرغ للابداع. لكنه لا يتجرأ على الاقدام على هذه الخطوة، ويبقى - وهو مشرف على سن التقاعد - وفياً دوماً لدور الشرطي الذي لم يؤد سواه طيلة حياته. ويخرج قارئ شرايبي بانطباع يتأكّد رواية بعد أخرى - إذا تأمّل مليّاً الايحاءات الواردة بين السطور - هي أن بطله ليس إلا صورة كاريكاتوريّة للمثقّف العربي اليوم: الشرطي الذي يحلم بدور ثقافي!