لم تحفل انتخابات الرئاسة والبرلمان في السودان بمفاجآت تذكر بالنسبة الى السودانيين داخل بلادهم وخارجها، وكذلك بالنسبة الى حكومات بلدان العالم المختلفة. فقد كان فوز الفريق عمر البشير برئاسة الجمهورية بنسبة من الاصوات تبلغ 75.4 في المئة أمراً محسوماً منذ البداية، إذ لم يواجه الرجل منافساً يذكر، وحتى المجهولين الذين رشحوا أنفسهم للرئاسة انسحبوا أو جمّدوا حملاتهم الانتخابية احتجاجاً على ممارسات ومضا يقات تحدث عنها عدد من المراقبين والصحافيين الأجانب. ومهما يكن، فقد بدأ الفريق البشير تصريف مهماته، في وقت يشهد إحكام خناق العزلة الخارجية على نظامه، وزيادة تململ أفراد الشعب غير المؤيدين للجبهة الإسلامية القومية التي تقف وراءه. وهكذا أضحى رئيس ثاني جمهورية رئاسية في التاريخ السياسي الحديث للبلاد، وإذا أكمل ولايته الجديدة فسيكون حكم السودان 12 سنة. واذا قرر ترشيح نفسه لولاية ثانية، وكتب له فوز، فسيحطم الرقم القياسي للبقاء في الحكم الذي سجله الرئيس السابق المشير جعفر نميري 16عاماً. لم يكن عمر حسن أحمد البشير الذي ينتمي الى قبائل الجعليين - كبرى قبائل عربان نهر النيل - في شمال السودان معروفاً على نطاق يذكر قبل تلاوته البيان الاول ل "ثورة الانقاذ الوطني" التي أعلن نفسه قائداً لمجلسها العسكري في 30 يونيو حزيران 1989. وربما تذكرت قلة أن قائد نظام الحكم الجديد هو نفسه الضابط المحب لأعمال الخير الذي ذكر اسمه مقدم برنامج "الصلات الطيبة" التلفزيوني السوداني المرحوم محجوب عبد الحفيظ في إحدى حلقات برنامجه التي بثت قبل أشهر من وقوع الانقلاب. إذ تبرع العميد آنذاك عمر حسن بمبلغ من المال لنزلاء مصحة الامراض العقلية الملحقة بسجن كوبر الشهير، في مدينة الخرطوم بحري. غير أن اسمه ورد للمرة الاولى قبل ذلك بسنوات عدة، من دون أن يتنبه إليه كثيرون. إذ كتبت مجلة "الدستور" التي كان يصدرها حزب البعث العربي الاشتراكي فرع القطر السوداني في لندن، في أحد أعدادها الصادرة في تشرين الاول أكتوبر 1985 أن البشير كان برتبة عقيد اقتُرح لتزعم انقلاب يخطط له الاخوان المسلمون الذين يتزعمهم الدكتور حسن عبدالله الترابي. واتضح لاحقاً أن الضابط الطموح كان وثيق الصلة بعدد من الضباط البعثيين في القوات المسلحة. وكان هؤلاء يفكرون منذ الفترة التي سبقت سقوط الرئيس السابق نميري في تنفيذ انقلاب عسكري يرسي نظام حكم جديداً. ويبدو أن البشير تعرف الىهم بحكم قرابته بصحافي كبير عمل خلال الفترة الديموقراطية التي أطاحها انقلابه ضمن فريق تحرير صحيفة "الهدف" اليومية الناطقة بلسان حزب البعث السوداني. وتكشف لاحقاً أن إحدى الخلايا البعثية في القوات المسلحة سعت الى تجنيد البشير للمشاركة في انقلاب كانت تحضر له. لكن قيام صحف الجبهة الاسلامية القومية بفضح الخلية قاد البعثيين الى اتهامه بأنه وراء تسريب المعلومات المتعلقة بها. وسرعان ما اعتبره الضباط البعثيون وقادة حزب البعث السوداني ضابطاً لا يُشك في ولائه للجبهة الاسلامية القومية. وعندما نجح الانقلاب العسكري الذي تزعمه البشير، وتمكنت قوات الامن الموالية له، في أواخر آذار 1990، من إحباط محاولة انقلاب تزعمها اللواء محمد عثمان احمد كرار الوثيق الصلة بمجموعة الضباط البعثيين، قبل تخليه عن الخدمة العسكرية وتعيينه حاكماً للإقليم الشرقي السوداني، انتهز الرئيس السوداني الفرصة لتصفية الضباط البعثيين، حتى المتقاعدين منهم، فأُعدم 28 ضابطاً، بعد محاكمات صورية، كان بعضهم من المقربين للرئيس السوداني قبل أن يقوم بانقلابه. وباستثناء هاتين الحادثتين اللتين ورد فيهما اسم البشير قبل العام 1989، لم يكن هذا الضابط الشاب معروفاً على نطاق واسع. غير أن المؤسسة العسكرية التي نشأ فيها عرفت قبله، وأثناء تدريبه، وبعد تخرجه في الكلية الحربية، ما لايقل عن عشر انقلابات. الأمر الذي حدا برئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي الى التحذير من أن كثيراً من الضباط يقبلون على الإلتحاق بالكلية الحربية وفي أذهانهم أنهم قد يحكمون البلاد ذات يوم، غير عابئين بأي أسس اختطها أهل البلاد لتنظيم شؤون إدارتهم. ويعتقد بأن أول محاولة انقلاب في السودان وقعت العام 1957، ونفذتها مجموعة من الضباط والطلبة الحربيين الذين احبط تحركهم، وحوكموا وصدرت بحقهم عقوبات راوحت بين الطرد من الخدمة والسجن بضع سنوات. صورة من قريب الذين عرفوا البشير من قريب يقولون إنه يتميز بروح الدعابة، وحضور البديهة. ويشيرون الى أنه متمسك منذ دخوله القوات المسلحة بالحرص على أداء الصلوات، والعناية بشعائره الدينية. ويقول عدد من زملائه إنه مغرم أيضاً بالغناء السوداني، وكان لا يتحرج في المشاركة في الجلسات الساهرة، وإن كان معروفاً عنه أنه لا يتناول المشروبات الكحولية. غير أنه لم يكن معروفاً داخل أسلحة القوات المسلحة على نطاق واسع حتى تكون له شعبية تذكر. ولم تكن له مثلاً شهرة نميري بين الضباط والجنود في مختلف الحاميات قبل انقلاب أيار مايو 1969. هل كان أخاً مسلماً؟ سؤال تصعب الإجابة عنه لأن ضباط الجيش السوداني لا يعترفون عادة بأي انتماءات حزبية، ويشمل ذلك الضباط الشيوعيين. غير أن الفريق البشير اعترف في مقابلة تلفزيونية محلية بأنه كان ضمن الطليعة التي أسست خلايا الضباط الاسلاميين في الجيش رداً على توسيع الشيوعيين نفوذهم إثر نجاح انقلاب نميري. وينكر غالبية الضباط المتقاعدين وجود تنظيم اسلامي كالذي تحدث عنه الرئيس السوداني، بدليل أنه لم يتحرك لفرض برنامج حكم يتفق ومقتضيات الشرع الاسلامي حتى العام 1989. ويقول قادة بعثيون سودانيون، في معرض تبريرهم استقطاب البشير لتعزيز مشروعهم الانقلابي في مطلع الثمانينات، على رغم انه لم يكن يملك ميزات قائد ناجح، انهم كانوا يبحثون عن رتب عسكرية عالية فحسب، ولم يخفوا أنهم منذ تلك الفترة اعتبروا البشير شخصاً مزدوج الولاءات، "يلعب على أكثر من حبل" على حد تعبير أحد قادتهم في العاصمة البريطانية. لكن بعثيين آخرين قالوا إن ما شدّهم اليه أنه كان من الضباط القلائل الذين لم يخفوا تحفظات عن أسلوب نميري في الحكم. لكنهم أجمعوا على "أن عمر حسن باعنا لقمة سائغة لتنظيم الأخوان المسلمين"، وهي إشارة الى المصير الذي لقيه العسكريون البعثيون العام 1990. والواقع أن البشير يبدو متماسكاً في كل الاوقات، لا يفقد هدوءه مهما تكدر الوضع. ويقول الإعلاميون والصحافيون الذين قابلوه إنه يملك مقدرة نادرة على الإجابة عن السؤال الذي يوجه إليه من دون زيادة ولا نقصان. غير أن السودانيين الذين يميلون - كبقية شعوب المنطقة العربية - الى النسيان غيروا عاداتهم بعد انقلاب 1989. وللشارع السوداني كثير من الملاحظات لا تزال تحجب الفريق البشير عن قلوب غالبية أبناء شعبه. - يذكرون كيف أخفى هوية انقلابه، نافياً وقوف الجبهة الاسلامية وراءه. ليكتشف السودانيون بعد بضعة أيام أن الجبهة لا تساند الانقلاب فحسب، بل تديره، وتتحكم في المتعاونين معه من أصحاب الولاءات الأخرى. - ويذكرون كيف صرح بعد أيام من توليه السلطة بأنه جاد في حل مشكلة السودان حتى لو احتاج الأمر الى إجراء استفتاء على القوانين المستمدة من الشريعة الاسلامية. وعاد اليوم التالي فنفى تصريحه. - ويذكرون كم من المرات وعد بأن يكون "هذا العام" موعدا نهائياً لحسم مشكلة الجنوب. ومضت سبعة أعوام وهو لا يفتأ يردد تلك المقولة. ولم تحل المشكلة حتى اليوم لا عسكرياً ولا سياسياً. وهكذا ارتبط الفريق البشير في معظم الخيال الشعبي السوداني المعاصر بعدم الصد. ولا يزال الشارع السوداني يحكي كيف فاجأ، عشية الانقلاب، بعض زملائه الذين نشطوا في تنفيذه معه بأن البيان الذي بثه من الاذاعة والتلفزيون لم يكن البيان نفسه الذي اتفقوا معه على خطوطه العريضة الضابطان عبدالمنعم حسن كرار وبشير ابراهيم اللذان أعدمهما النظام في نيسان 1990. ولا يزال السودانيون يتحدثون عن الاسلوب الذي نقل به الدكتور الترابي - الاب الروحي للنظام - الى سجن "كوبر"، أسوة ببقية قادة العهد الحزبي، ليقنعهم بالانضمام الى الحكم الجديد. الأهم من ذلك أن الفريق البشير لم يقنع شرائح كبيرة من السودانيين بأنه يمارس قدراً معقولاً من التحكم في قراره، وهو أمر - سواء أكان صحيحاً أم مختلقاً - يضر كثيراً بفرص تزايد شعبيته وقبوله على النطاق الجماهيري المعهود في الأنظمة الرئاسية. وعندما أعلن أنه ينوي إجراء انتخابات عامة ورئاسية في حلول العام 1996، لم يتحمس له سوى الموالين لنظامه. أما خصومه فيذكرون أنه أعلن غداة استيلائه على السلطة أنه لم يأت لإصلاح الأوضاع وإعادة الديموقراطية. فقد قال في مقابلة نشرتها صحيفة "الوطن" الكويتية في 25 تموز يوليو 1989: "نحن الآن نجهز وننظف الأجهزة ونحاول أن نحل المشاكل الاقتصادية القائمة ونحل مشكلة الجنوب وبعد ذلك سوف نأتي للممارسة الديمقراطية التي نريدها نحن ونقتنع بها نحن ونرى أنها الأفيد للشعب السوداني. وأنا قرأت في جريدة اننا سوف نقوم بحل مشكلة الجنوب والمشكلة الاقتصادية ونلغي قوانين سبتمبر وبعدين نسلمها الاحزاب مرة ثانية... يعني علشان يخربوها من جديد ضحك متواصل .. أساساً إذا هم صالحين للحكم ما كنا "شِلْناهم". وبإرادتنا نحن لن يأتوا، إلا إذا حدث شيء خارج إرادتنا". ومهما كان نجاح الفريق البشير في انتخابات الرئاسة. فهو لن يستطيع أن يصف نفسه مطلقاً بأنه يملك الپ"كاريزما" الكفيلة بتحويله زعيماً شعبياً وقائداً محبوباً. مشكلته أيضاً أنه لا يستطيع أن يبرر تناقضات الممارسة العملية التنفيذية لسياسات النظام والشعارات الهتافية التي تملأ أجواء البلاد. إنه يواجه مشكلة عدم انسجام الممارسة التنفيذية اليومية مع الأهداف المرسومة التي يتحدث عنها الجهاز الفكري للمؤسسة الحاكمة: تخطي مفهوم الحدود الجغرافية، توسيع مفهوم المشروع الحضاري السوداني ليصبح مشروعاً حضارياً شاملاً، تجييش الشعب، تطبيق الديبلوماسية الشعبية لتعميق العلاقات الأممية. ومهما كان شأن الإنجازات التي تحققت خلال حكمه، بقيت تتفاقم المشكلات نفسها التي قال إنه انقلب على السلطة المنتخبة لمعالجتها. فمع أن حكومته تسيطر على البلاد منذ سبع سنوات متدثرة بالشعار الاسلامي، إلا أنها لم تنجح في تحويل القطاع الصوفي السوداني العريض الى رصيد ثوري إيجابي. والأسوأ من ذلك كله أن الإسلاميين أنفسهم لم ينجحوا في الخروج من القوقعة الثقافية الفوقية التي تعيش فيها بقية الصفوة العلمانية المرتبطة دوماً بأنظمة الحكم. وفي نهاية المطاف وجد الفريق البشير أنه مضطر - لتحقيق أهدافه - الى مداراة هويته، متلفحاً بما تيسر له من الحيل والخدع، مقيداً نفسه تماماً كما هي حال الدكتور الترابي الذي أعيته الحيلة في تعريف صفته في ظل النظام الراهن. يقول الدكتور التجاني عبدالقادر، وهو منظر إسلامي وأكاديمي سوداني معروف، "... لم تعد إذن هناك معضلة أن يصل عنصر الإسلام الى المؤسسة العسكرية أو أن يلتزم بالإسلام من هو فيها أصلاً، وإنما المشكلة هي أن أي عناصر إسلامية - سودانية أو غير ذلك - تصل الى موقع القرار في الدولة الحديثة سوف تقلقها في المقام الأول علاقات التبعية تبعية أجهزة الدولة بالقوى الأوروبية الإستعمارية التي أنشأتها أساساً ... وستجد نفسها محصورة وبصورة تلقائية بين خيارين: إما أن تسفر عن توجهاتها وبرامجها، معلنة استقلالها التام، ثم تعتمد - من بعد الله - على قدراتها الذاتية غير عابئة بالقوى الخارجية والقوى الأخرى الإقليمية والمحلية المرتبطة بها، وإما أن تتخذ لها نهجاً متدرجاً في الإفصاح، متدرجاً في الإستقلال، مترفقاً في العلاقات الخارجية. ويبدو أن ثورة الإنقاذ السودانية - مستفيدة مما انتهى اليه فقه الحركة الاسلامية في مجال التغيير - قد فضلت الخيار الثاني لأسباب موضوعية كثيرة ومعلومة". ويحق للسوداني العادي أن يتساءل: هل ذلك هو حقاً المسار الذي اختارته "ثورة" الفريق البشير؟ أم أنها لجأت الى الخيار الأول؟ وهل نجحت في أيهما؟ أم أنها مجرد مصنع لكل ما هو غير حقيقي؟ لقد كان مساراً صعباً منذ البداية. وكان الرئيس السوداني يدرك ذلك، بحكم علمه بأن الوضع الاقتصادي لبلاده لا يتيح لها حرية او "استقلالاً في القرار" كما تشيع أدبيات حكومته، بل كان يدرك أن المسار الذي سلكته "الثورة" لن يكون لها فيه ظهير تستنصر به، لا في الداخل ولا الخارج. لذلك بدت مثيرة للسخرية وهي تحاول أن تنفد الى الأعماق الشعبية السودانية من خلال إرغام المواطنين على الإلتحاق بمعسكرات "قوات الدفاع الشعبي"، وتصوير الزائرين من التجار ورجال الأعمال الأجانب بأنهم نموذج لنجاح سياسة "الديبلوماسية الشعبية". وسرعان ما تهاوت تحت شمس الحقيقة الشعارات المدوية التي رفعتها الحكومة "نأكل مما نزرع" .. "الاعتماد على الذات" .. "تحسين علاقات الجوار"... غير أن مما يحسب رصيداً طيباً للفريق البشير تواضعه وإيمانه بما يقوم به، مهما اشتد تنافر القوى التي تسيطر على الحكم معه. فهو يعتقد حقاً بأنه يقوم بمحاولة أصيلة لتفكيك الدولة التي تركها الاستعمار وأرست دعائمها الطبقة العلمانية ذات "التدين الشعبي". ويدرك في قرارة نفسه أن القوى التي سلبها حكمها وسلطتها ونفوذها الاجتماعي والسياسي والديني لن تسكت على ذلك الاستلاب مهما طالت سنوات حكمه، ومهما اشتد بطش الأنظمة الأمنية التي أنشأها الحزب الذي يقاسمه الحكم. ويدرك الرئيس السوداني المنتخب أنه ظل يضرب منذ اليوم الأول لتوليه الحكم على أوتار شديدة الحساسية، مثيرة للإنقسام الداخلي: قضية الدين والدولة، واستخدام الشعار الإسلامي في بلاد تتعدد فيها الولاءات الدينية والمرجعيات الطائفية والصوفية والعلمانية. وهي قضايا تثير مواقف متابينة تتسم بالحساسية الشديدة التي تصل حد القطيعة والقتال. غير أن الهوة التي ظهرت منذ بداية "المشروع الحضاري" بين الفكر والممارسة، وبين التنظير والتطبيق، تجعل شخصية "البشير-القائد" بلا لون. لذلك ما انفك الشارع يتحدث عن "قيادة أصلية" خفية و"قيادة منفذة" علنية تنكر أي صلة بالأخرى. هكذا يقبل الرئيس السوداني على ولايته الجديدة وهو يعاني مشكلة تتعلق بزعامته وقيادته، الى جانب المشكلات المستعصية التي أخفق على مدى سبع سنوات في حلها، بل يتهمه خصومه بأنه زادها تفاقماً وتردياً. كان من الممكن أن يعزز الفريق البشير زعامته اذا حقق اي قدر من النجاح في استقطاب قوى معارضة. لكن سياسات النظام - التي يبدو ان مراكز قوة عدة تتجاذبها - عكست الوضع، وجعلت المعارضة - خصوصاً الداخلية - تزيد نفوراً منه. كما أن فوزه الانتخابي لن يوفر له الاعتراف الاقليمي الذي هو في أمسّ الحاجة إليه. إذ إن مصر وأوغندا وأريتريا لن تقبل النظام بوجهه الجديد بعد الانتخابات لأن برنامجه مستمر كما هو من دون تغيير يذكر. هل سيحقق الرئيس السوداني توقعات قلة تأمل أن ينجح في الانقلاب على الجبهة الاسلامية القومية ليؤسس لنفسه خطاً مستقلاً وزعامة متفردة؟ الذين يعرفون الواقع السوداني منذ العام 1989 يستبعدون ذلك تماماً، لأن التيارات المتشددة داخل الجبهة لن تتوانى عن ضرب البشير وتصفيته، وحتى إذا برزت قوات موالية له داخل الجيش، فمعنى ذلك أن احتمالات اندلاع حرب أهلية داخل العاصمة السودانية كبيرة جداً. ويشير منطق الأمور الى أنه لا يمكن الرئيس المنتخب أن يرتدي أكثر من قبعة، فهو لا يمكن أن يكون عسكرياً، ومستبداً، وإسلامياً، وديموقراطياً في آن معاً. ويعني ذلك أنه عملياً ليس أمامه سوى التشبث بالسلطة الحالية، لأنه لا خيار أمامه سواها. فهو لدى المجتمع الدولي -الذي هو ليس محقاً دوماً - رجل الجبهة والترابي. أما الجيش فقد خسر ولاءه وتأييده، لأن ما تعانيه القوات المسلحة في الجنوب، وما عانته نتيجة الفصل والإحالة على التقاعد، زاد نفورها منه، وبات عملياً معزولاً داخل المؤسسة التي يقول إنه أتى الى الحكم باسمها ومباركتها. يذكر أن عدداً كبيراً من الضباط مستاؤون من تحييد القوات المسلحة في الجنوب، بإحلال "قوات الدفاع الشعبي" محلها، والتركيز على دور مجاهديها، بدلاً من الدور التقليدي الذي يقوم به، عادةً، الجيش. كل ذلك يعني أنه ليس بمستطاع الفريق البشير أن يمارس أي دور سياسي خارج إطار الجبهة الاسلامية القومية. وإذا كان يريد تعزيز قوته، فلا بد أن يصبح قوياً داخل الجبهة، وليس بالتحالف مع قوة خارجها. أسوة بأبرز قادة الجبهة الدكتور غازي صلاح الدين الذي استطاع تعزيز مكانته داخل مؤسسات الحكم من دون استقواء من خارج الجبهة. هكذا يبدو واضحاً أن صلة رئيس الجمهورية بالجبهة تمثل العقبة الرئيسية أمام زعامته. ولعل أخطر التحديات التي تواجهه أن الجبهة انتهت سياسياً، وأضحت مسألة إزاحتها - بالمنظور السياسي السوداني - مسألة وقت فحسب. هذه المعادلة حاسمة في تحديد مستقبل الولاية الجديدة.