ابتعدت الفتاة عن الشاشة الصغيرة التي احتلتها صورة صورة البطل نسيم حامد ومنافسه النيجيري سعيد لوال وهما يستعدان لخوض المباراة التي سيقتنص الفائز فيها لقب بطولة العالم للملاكمة في وزن الريشة. اعتذرت الشابة على عجل من زميلتها لأن "البرنس" يكاد "يبدأ مباراة حاسمة"، وهرعت الى التلفزيون ... لكن شاشته بدت مختلفة ... كأن بريقها قد خبا فجأة وخفت الضجيج الذي كان قبل لحظات يصم الآذان، فالمباراة لم تكد تبدأ حتى انتهت ... في 35 ثانية! كانت خيبة الصبية كبيرة، فهي رغبت في مشاهدة هذا الملاكم العربي وهو يعرض مواهبه على الحلبة الاسكتلندية. غير ان الضحكة لم تلبث ان ارتسمت على وجه الفتاة حين ادركت انها لم تكن "قليلة الحظ" الوحيدة، بل شاركها الخيبة كثيرون، منهم المصورون الذين لم يمهلم "البرنس" وقتاً كافياً للفوز بلقطات منوعة وقريبة لوجهه الوسيم! على بعد آلاف الاميال من غلاسغو، لم يكن الاميركي مايك تايسون على عجل. أمهل خصمه البريطاني فرانك برونو حوالي 370 ثانية كانت بالنسبة الى الاخير اشبه بكابوس مخيف، اذ انهمرت عليه اللكمات من اليمين والشمال فكأن رأسه علِق بين مطرقة غليظة وسندان لا يرحم. اوشك على السقوط غير مرة، لكنه تحامل على نفسه خجلاً من الانهيار امام ملايين المشاهدين الذين تسمروا امام شاشاتهم وقرر ان يصمد امام تايسون الذي يتحرك بخفة البهلوان ويكاد الشرر يقدح من عزم ضرباته. ولم يطل الوقت حتى انقض تايسون انقضاضه الاخير ورمى خصمه بوابل من الضربات وقُضي الامر في نحو 50 ثانية و12 لكمة تهاوى بعدها البريطاني على الحبال. البطلان "غريبان" في بلاد "غريبة"! هذا اميركي اسود البشرة، كان يتيماً في "غيتو" للزنوج في حي بروكلين وعاش حياة هامشية محفوفة بمخاطر تسببت فيها اساساً طبيعته المغامرة وشخصيته المتسرعه التي شذبها السجن والايمان الذي دخل قلبه. والآخر، ولِد لعائلة يمنية كادحة في مدينة شفيليد التي يسكنها الفقر والشهامة البريطانية الاصيلة. ولئن كانت السرعة المدهشة عنوان الانتصارين اللذين حققهما البطلان اخيراً، ففي الملاكمة يتفق مايك تايسون و نسيم حامد على صفات شتى، عدا شهوة حصد البطولات والالقاب التي يتقنها الاثنان. كلاهما بطل عالمي يجلس على عرش رياضة الجبابرة. تمرسا في البطش بذوي القبضات الفولاذية فصارت اطاحة الاقوياء على ارض الحلبة هواية يمارسانها في شيء من المتعة ... والسادية، كما يخيل للمرء للوهلة الاولى. لكن القسوة التي ترتسم علائمها على وجهيهما وهما منهمكان في ممارسة طقوس رقصة "القتل" كأنهما يلعبان بالنرد مع الموت، هي اشبه بقناع مضلل لابد منه لملاكم له قلب يفيض بالحب... والايمان الذي يشع من عيونهما، خصوصاً في اللحظات الحاسمة التي راقبتها "الوسط" عن كثب في لاس فيغاس وغلاسكو قبل ان تلتقي البطلين وتجري معهما الحوارين الآتيين. تايسون: الاسلام غيرني ... وخسارتي مستحيلة حين صعدت الطفلة راشيل 8 اعوام الى الحلبة وهي تبكي قائلة "ارجو ان لايكون هذا الرجل أذاك كثيراً، يابابا!" كان والدها الملاكم البريطاني فرانك برونو 34 عاماً يترنح بوجه غطته الدماء وقد خسر لقب بطولة العالم للوزن الثقيل تصنيف المجلس العالمي للملاكمة امام الاميركي المسلم مايك تايسون 29 عاماً الذي هزمه بالضربة القاضية الفنية في الجولة الثالثة. ترك البطل السابق رأسه المتعب يرتاح على كتف زوجته وابنته وهو يكاد يبكي بطولة لم يحافظ عليها مثل الابطال بل فقدها بعد 196 يوماً من نيلها، فيما كان الملاكم المسلم يخر ساجدا ومكبراً الله أكبر... الله أكبر شكراً لله. لكن برونو لم يعد الى بريطانيا يجر اذيال الخيبة وحدها، اذ حمل معه ايضاً حوالي 6 ملايين دولار قبضها ثمناً للضربات الساخنة التي تلقاها، فيما نال تايسون 30 مليون دولار مع حزام البطولة المرموقة. هكذا خطا تايسون اولى خطواته في لاس فيغاس على طريق العودة الى الصدارة التي صمم على احتلالها من جديد، بينما يبدو ان برونو فقد كل شيء بما فيه ثقة جمهوره من البريطانيين الذين سافر 7 آلاف منهم الى لاس فيغاس لحضور المباراة. ولايستبعد ان ينسحب نهائياً من الحلبة فقد آن اوان الاعتزال في رأي كثيرين من اهل الخبرة. اما البطل الجديد فسيقابل "اي ملاكم يضعه دون كينغ مديره الفني امامي"، ويعتقد ان اولى مبارياته ستكون مع بطل العالم السابق البريطاني لينوكس لويس. واذا كان تايسون تعهد توحيد اللقب العالمي لبطولة الملاكمة في الوزن الثقيل، فلا بد له قبل البدء باعداد العدة للحصول على القاب الاتحاد الدولي والجمعية العالمية والمنظمة العالمية اضافة الى لقبه الجديد الذي منحه اياه المجلس العالمي، ان يحتفل بفوزه الاخير الذي "خطفه" سريعاً كالاثنين اللذين سبقاه بعد خروجه من السجن. 7 دقائق و يذكر ان تايسون انهى في حوالي 180 ثانية المبارتين اللتين خاضهما بعد خروجه من السجن، بينما قضى على الحلبة في المرة الثالثة قرابة 420 ثانية فقط. وعلى رغم الآمال الكبيرة التي علقها البريطانيون على برونو فهو صمد بالكاد جولتين ونصف جولة قبل ان يوقف الحكم المباراة خوفاً عليه من لكمات تايسون. فالاخير بدا منذ اللحظة الاولى اشبه بدبابة يتقدم ابداً الى الامام وهو يمطر خصمه بوابل من الضربات المرعبة التي اصابت تارة جسد برونو المتهالك وكانت في تارة اخرى من نصيب رأسه او وجهه المبلل بالدم نتيجة اصابته بجرح في عينه اليسرى قبل نهاية الجولة الاولى. بدأت متاعب الملاكم البريطاني حين قُرع الجرس ايذاناً ببدء الجولة الاولى فانقض عليه تايسون بيمينية تركت جرحاً كبيراً تحت حاجبه. وسرعان ماادرك الملاكم البريطاني، الذي علت وجهه علائم القلق عندما شاهد خصمه على الحلبة قبل بدء المباراة، ان سنوات السجن لم تجرد تايسون من لياقته وخفة حركاته التي كانت سبباً اساسياً في تفوقه على كثيرين. ولم تمض بضعة ثوان من اليمينية التي ادمت منافسه، حتى بدا تايسون كالصياد الماهر القادر على اقتناص رأس برونو بسرعة و معالجته بضربة او سلسلة من الضربات الموجعة. ولعل الضعف البادي على برونو وهو يتلقى لكمات متحديه من دون ان يقوى على ردها او وقفها، يؤكد ان ضربة الافتتاح القاسية لم تدمِ وجهه فحسب بل افقدته معنوياته وتماسكه. هكذا جاء جرس نهاية الجولة الاولى بمثابة صوت الرحمة الذي كان برونو في أمّس الحاجة اليه. وخلافاً لما توقع بعض المتابعين، لم يكن حظ الملاكم البريطاني في الجولة الثانية افضل منه في سابقتها. فهو بدا متهالكاً يتحرك بتثاقل عجز معه عن اصابة متحديه بضربة مؤلمة، فيما كان تايسون الاصغر سناً يواصل انقضاضه السريع مستفيداً من بطء خصمه وساعياً الى تسديد ضرباته الى رأس برونو الذي يعتبر نقطة ضعفه الرئيسية. ومع اقتراب نهاية الجولة الثانية، كان واضحاً ان تايسون نجح ايما نجاح في اتباع استراتيجيته التي تعتمد على الهجوم السريع واصابة رأس خصمه من دون السماح له بالرد او اعطائه فرصة لالتقاط انفاسه وتنفيذ هجوم معاكس قد يكون قوياً. ومعروف عن تايسون انه لايؤمن بسياسة المراحل بل يفضل سبر امكانات خصمه في اول فرصة سانحة ثم القضاء عليه بالسرعة الممكنة. هذا الاسلوب لم يجبر البطل السابق على التمايل يمنة ويسرة في الجولة الثانية فحسب، بل اضطره الى معانقة تايسون اتقاء لشر لكماته متجاهلاً تحذير الحكم الذي عاقبه على ذلك. لكمات غيرت مصير برونو وجاءت الضربة الكبرى ... او الضربات المتتالية التي ترنح تحتها برونو بعد اقل من 50 ثانية على بدء الجولة الثالثة. فبعد 9 لكمات قوية، سدد تايسون الى رأس برونو خطافاً يسارياً اتبعه بآخر ثم بيمينية كانت كافية للفتك بالخصم الذي بدأت تخونه قدماه واخذ جسده يتهاوى على الحبال فتدخل الحكم لانقاذه بوقف المباراة واعلان فوز البطل الاميركي بالضربة القاضية الفنية التي حققها بفضل سرعته وبراعته في مفاجأة خصمه بجرأة وقوة نادرتين. يدلّ الاداء البارع الذي قدمه تايسون الى انه لا يزال يحتفظ بلياقته السابقة على رغم انه عائد لتوه الى الحرية بعد 1095 يوماً أمضاها في السجن. أو لعله "اكتسب مزيداًَ من المهارة" في رأي ساقه أحد المعلقين رداً على تكهنات متشائمة اذيعت سابقاً ومفادها ان البطل العالمي "نسي" براعته خلف القضبان. ولكن فات بعض "الخبراء" ان تايسون تحرر من غروره وجموحه فصار اكثر هدوءاً و نضجاً وقدرة على مواجهة الصعاب على حلبة الملاكمة ومسرح الحياة. ولذلك، سرعان ما عوّض فترة الاعتقال والحرمان من مزاولة تدريباته ونشاطاته الرياضية، واستعاد قدرته على الفتك بخصمه في شكل صاعق. وقبل ان يجف عرق تايسون من مباراة فتحت امامه ابواب المجد من جديد، تحدث الى "الوسط" في مقابلة خاصة هنا نصها: هل تتنوي زيارة الاماكن الاسلامية المقدسة والحرمين الشريفين في السعودية مستقبلاً؟ - نعم، بالطبع آمل بزيارة الديار المقدسة. لكنني اتمنى ان تكون الزيارة خاصة قدر الامكان. واذا تلقيت دعوة الى زيارة تلك الاماكن المقدسة، فهل ستلبيها؟ - نعم، بالطبع سأقبل الدعوة الكريمة. واذا دُعيت فسأذهب. ما الأثر الذي أحدثه الاسلام في حياتك؟ - الاسلام غيّر حياتي، اذ علمني ان لا أكون أنانياً أو متعجرفاً. كما لقنني الاسلام حقيقة مهمة مفادها ان الهدف الحقيقي لحياتي هو خدمة الله. وأعطاني الاسلام ايضاً الانضباط الذاتي، والقدرة على الصفح والعفو... لقد علمني أشياء كثيرة جداً. وأصبحت الآن رجلاً اكثر نضجاً مما كنت عام 1991 سنة اعتقاله، اذ تعرضت يومها الى ضغوط كبيرة وفقدت اهتمامي بالملاكمة لفترة من الزمن. لكن الاسلام فتح عينّي على الحياة ومنحني مفهوماً أوسع للانسانية. وأعرف الآن ان النجاح ليس بالامر المهم وان المال ليس كل شئ وأهم شيء بالنسبة اليّ هو ان اتصرف بطريقة ترضي الله. وما أريد قوله باختصار هو ان اعتناقي الاسلام وضعني تحت رحمته تعالى وعنايته اذ ارتكبت الكثير من الأخطاء وأنا لست مثالياً. وأظن انني اذا عاودت اساءة التصرف سيعاقبني الله بوسائل شتى ربما احداها احداها ضربات يوجهها اليّ خصم ما. لقد انتزع السجن كرامتي لكن الاسلام أعطاني شيئاً أهم بكثير من تلك الكرامة. وماهو الاسم الجديد الذي اتخذته بعدما أشهرت اسلامك؟ - حرصت دائماً على اعتبار هذا الاسم امراً خاصاً احتفظ به لنفسي، على الاقل خلال فترة من الزمن ازاول الملاكمة فيها تحت الاسم الذي اطلقه عليّ والداي. ومن هداك الى الاسلام في السجن؟ - في الحقيقة كان عدد الدعاة من الائمة المسلمين الذين يزورن السجن كبيراً، وانا بصدق عاجز عن تذكر الشيخ الذي ساهم اكثر من غيره في هدايتي. نعرف جميعاً ان الزعيم الاسود مالكوم اكس اهتدى الى الاسلام ايضاً في السجن، فهل هناك سبب ما لتشابه تجربتك مع تجربته؟ - اعتقد بأن السجن يضع المرء وجهاً لوجه مع الواقع ومع نقاط ضعفه الذاتية. ويدرك الانسان خلف القضبان انه قادر على ضبط نفسه وتوجيه حياته. حارس السجن ... غلبني وبعيداً عن اعتناقك الاسلام، ماذا تذكر عن السجن وكيف كانت تجربتك فيه؟ - كانت كريهة جداً من نواح عدة، لكن السجن علمني ان اتحمل مسؤولية اعمالي وحماقتي. ضربت احد الحراس لانه استفزني، فعوقبت على ذلك بالسجن الانفرادي لاسبوع كامل. وعلمت لاحقاً انه ذهب الى البيت عقب الخلاف وقال لزوجته: "تحديت تايسون وفزت عليه" ...وكان بالطبع على حق في ما قاله. وهكذا ادركت ان سر انتصار المرء في الحياة يكمن في ضبط النفس وعدم تركها تقع فريسة للغضب والهياج. كان الحارس الذي استفزك ابيض البشرة طبعاً؟ - هل تعني ذلك حقاً، ام انك تمزح؟ كان حارساً اسود له نصف وزني تقريباً. وانا متأكد ان زوجته كانت فخورة به تلك الليلة، وهي كانت محقة في ذلك. فأنا سمحت لزوجها بان يستفزني! وما هو دور الاسلام في طريقة مزاولتك رياضة الملاكمة؟ - لم أعد ألاكم لنفسي وانما من أجل الله أيضاً. وأنا اصلي الى الله تعالى ان ينصرني اذا كنت استحق، كما ادعوه في صمت اثناء المباراة. كانت حياتك الخاصة مليئة بالمشاكل: زواجك الأول انتهى الى مصيبة، وبعد ذلك وجهت اليك تهمة الاغتصاب، واثر خروجك من السجن قلت انك ستتزوج طبيبة جميلة هي مونيكا تيلور، ولكنك لم تفعل ذلك حتى الآن مع انها انجبت لك طفلة! - لا أحب الحديث عن هذا الجانب الشخصي. صحيح انني أواجه مشكلة في التعامل مع حياتي الخاصة. فحين تقول لي مونيكا انها تحبني أرد عليها "وأنا أحبك"، ولكن الاجابة لا تبدو لي نابعة من القلب. لذا أنا حريص على ان أفعل الشيء الصحيح، ان ألبي ارادة الله. واعتقد بان خسارتي في مباراة مقبلة - على رغم ان ذلك احتمال يكاد يكون مستحيلاً - ستكون بمثابة رسالة أو جزاء من عند الله تعالى. هل تأمل ان تستعيد القابك كلها؟ - بمشيئة الله. لكن استعادتها ليست امراً فائق الاهمية. ماذا عن لينوكس لويس، أتظن انه سيكون خصماً أكثر شراسة من فرانك برونو؟ - اعتقد ان كلاً منهما ملاكم جيد. والله تعالى هو الذي يقرر من سيفوز. هناك من يرى انك استعدت احد ألقابك السابقة ورجعت الى دائرة الضوء بسرعة، فماذا تقول؟ - بصراحة، انا اشعر بالخجل لان عودتي استغرقت كل هذا الوقت. اظن انني ما زلت في حاجة الى مزيد من الانضباط الذاتي. وهل وصلت الى ذروة نجاحك وقوتك؟ - لا ادري. ينتظرني مستقبل طويل، ولا شك في ان ارادة الله هي التي ستحدد تفاصيل هذا المستقبل. واذا اخفقت سيكون ذلك نتيجة خطأ ارتكبته وعليّ ان اتحمل مسؤوليته. انت والملاكمة، من يحتاج الى الآخر؟ - لا أحد يحتاج الى الآخر، وارى ان الملاكمة تحتاج الينا جميعاً. من كسب انت ام فرانك برونو حين فزت عليه بالضربة القاضية؟ - اعتقد بانه في نهاية الامر يجب ان يكون الرابح الحقيقي هو من يفوز في المباراة.