ما كان مطلوباً من اللحظة الاولى لظهور نتائج الانتخابات النيابية في تركيا، في 25 كانون الاول ديسمبر الماضي، تحقق بعد شهرين! ففي 24 شباط فبراير 1996 أطاح مسعود يلماز رئيس حزب الوطن الام المكلّف تشكيل حكومة جديدة الامل الوحيد الذي كان متيسراً امام حزب الرفاه الاسلامي، المنتصر الاكبر في الانتخابات المذكورة، وأعلن تعذّر تشكيل حكومة ائتلافية بين الحزبين بسبب الاختلاف في وجهات النظر ازاء العديد من القضايا الاساسية. وبذلك فقد حزب الرفاه، الذي يتزعمه نجم الدين أربكان أكبر فرصة لاحت له في تاريخه، ليس فقط ليكون شريكاً في ائتلاف حكومي، بل لقيادة هذه الحكومة للمرة الأولى في هذا البلد المسلم الذي يعتمد العلمانية اساساً لنظامه السياسي والحقوقي. ومع ان يلماز أعلن بعد انهيار محادثاته مع أربكان أن الفرصة متاحة لتشكيل حكومة جديدة بين حزبه وحزب الطريق المستقيم بعد تراجع زعيمة هذا الاخير، رئيسة الحكومة الموقتة تانسو تشيللر، عن اصرارها قيادة مثل هذا الائتلاف الحكومي، في سنته الاولى، الاّ أن الظروف التي احاطت بالفشل المفاجىء لمحادثات اربكان - يلماز، التي كانت تسير الى نهاية مبشرة، ستبقى لغزاً لن يكشف النقاب عنه الاّ بعد وقت طويل، وان كانت الشكوك قد بدأت تحوم وتكبر منذ الآن، منذرةً بمضاعفات لن تخرج تركيا منها سالمة، ولن تخدم مسيرة استقرارها الداخلي المضطرب في الاساس، والمتخم بما فيه الكفاية من مشكلات وتناقضات ونزاعات. خاض حزب الرفاه حملة انتخابية ساخنة. وبعد ظهور نتائج الانتخابات التي دلت على فوزه بأكبر عدد من المقاعد النيابية، لكن من دون الحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان، طرأ على الخطاب السياسي لأربكان تحوّل واضح ولافت، زاد مع تكليفه تشكيل حكومة جديدة. اذ بعدما كان اربكان يرفض مدّ يده للزعماء التقليديين، مثل تشيللر "التي لا تعرف الطهارة" ويلماز "الماسوني"، أعرب عن استعداده لفتح صفحة بيضاء مع الجميع والانطلاق في كل القضايا من نقطة الصفر. وجسّد هذا التحوّل في مواقفه من العديد من المسائل المهمة. وأعلن انه ليس ضد اتفاقية الوحدة الجمركية مع الاتحاد الاوروبي بل ضد بعض موادها، بعدما كان يرى فيهما "عبودية لاوروبا". ونفى أنه يريد إلغاء العلمانية في تركيا، بل قال انه مع تطبيق العلمانية الموجودة في الغرب التي ذكر انها لا تعني معاداة الدين. وُوجهت اللغة الاربكانية الجديدة بشكوك ورفض من جانب حزبي اليسار: "اليسار الديموقراطي" الذي يرأسه بولنت أجاويد 75 مقعداً و"الشعب الجمهوري" الذي يرأسه دينيز بايكال 49 مقعداً، وهما الحزبان المعروفان بإتجاههما العلماني الواضح، واذ رفضت تشيللر رئيسة حزب الطريق المستقيم 135 مقعداً الدخول في ائتلاف مع أربكان، تحوّل مسعود يلماز رئيس حزب الوطن الام 132 مقعداً الى البحث عن ائتلاف حكومي جديد، سواء أكان في اتجاه الرفاه أو الطريق المستقيم. كان يلماز يفضل خيار التحالف مع تشيللر، بشرط ان يكون هو رئيساً للحكومة في سنتها الاولى، لكن رفض تشيللر وتمسكها بترؤس الحكومة على أساس ان حزبها له من المقاعد النيابية أكثر من حزب الوطن الام أفشل هذا الخيار. وعندما كُلِّف يلماز تشكيل الحكومة الجديدة، بعد فشل أربكان وتشيللر بهذه المهمة، كان واضحاً ان الفرصة الوحيدة المتاحة أمامه الائتلاف مع حزب الرفاه. بذلك يحقق جملة من الاهداف، أولها: ابعاد منافسته اليمينية الرئيسية تشيللر عن رئاسة الحكومة، وثانيها ابعاد شبح خيار اجراء انتخابات نيابية مبكرة سيكتب الفوز فيها لتشيللر، بعد ان تتحالف مع حزب الحركة القومية اليميني الذي يرأسه "الذئب العجوز" ألب ارسلان توركيش، الذي فشل في الانتخابات الاخيرة، لكنه نال نسبة من الاصوات قاربت 3،8 في المئة، وهي نسبة كافية، اذا اضيفت الى ال 22،19 في المئة التي نالها حزب تشيللر، لتفوز هذه الاخيرة في المركز الاول في الانتخابات القادمة، وثالث اهداف يلماز يتمثل في عودته لرئاسة الحكومة التي لم يذق "حلاوتها" سوى لأربعة أشهر من حزيران يونيو الى تشرين الاول اكتوبر 1991. اسلوب يلماز والواقع ان يلماز، الذي يتهمه خصومه وبعض رفاقه بأنه شخصية "جامدة تفتقد الى حسّ المبادرة والابتكار والاقدام" أظهر منذ انتهاء الانتخابات الاخيرة دهاءً وحنكة سياسية فاجأت الجميع وجعلته يقطف، بمناورات ذكية، مواقع مهمة له ولحزبه في الحياة السياسية، على رغم حلوله في المركز الثالث في الانتخابات النيابية. اتبع يلماز أسلوباً بارعاً في لعبة صعبة ومعقدة، عكستها الخريطة الحزبية الجديدة في البرلمان. وتجلت براعة يلماز في مناسبتين، الاولى: انتخاب رئيس جديد للبرلمان التركي. اذ أوحى التصويت ما قبل الاخير لهذا المنصب ان نواب حزب الوطن سيقترعون في الدورة الاخيرة لمرشح حزب الرفاه أيدين عدنان مندريس، ما زرع الهلع في صفوف حزب الطريق المستقيم الذي فضَّل تأييد مرشح حزب الوطن الام، مصطفى قلملي، على أن يفوز مرشح حزب الرفاه. وهكذا فاز مرشح يلماز برئاسة البرلمان. أما المناسبة الثانية، التي لم تنتهِ ذيولها بعد، فتمثل في اتباع يلماز، بعد تكليفه تشكيل حكومة جديدة، اسلوباً ذكياً تمثل في رمي القفاز بوجه الجميع: إما أن يكون هو رئيساً لحكومة ائتلافية مع تشيللر واما التحالف مع الرفاه. ولم تكن تشيللر فقط هي المستهدفة من هذه الخطة، بل كل الاحزاب والمؤسسات المتضررة من مشاركة الرفاه في أي حكومة، والمقصود بذلك المؤسسة العسكرية والمؤسسات الامنية الاخرى. واذ استمرت تشيللر في اصرارها على أن تترأس هي، لا يلماز، الحكومة الجديدة، كان الخيار الوحيد المتبقي أمام يلماز هو الائتلاف مع الرفاه، وهو كان قد لمح الى ذلك منذ انتهاء الانتخابات، اذا تعذّرت كل الخيارات الاخرى. وقد ساعدت مواقف أربكان الجديدة المعتدلة على تعبيد الطريق أمام يلماز للمضي في هذا الخيار. في المفاوضات بين حزبي الرفاه والوطن الام، قدّم اربكان كل التنازلات الممكنة لتسهيل مهمة يلماز، وأبرزها تخلّي اربكان عن ترؤس الحكومة في سنتها الاولى، رغم انه زعيم الحزب الاكبر في البرلمان 158 مقعداً نيابياً مقابل 132 مقعداً للوطن الام، وتخلّيه عن تخصيص بعض الوزارات المهمة لحزبه، لا سيما الخارجية والدفاع. وبعدما كانت كل الدلائل تشير الى أن حكومة من الرفاه والوطن الام ستبصر النور لا محالة، أعلن يلماز، في مؤتمر صحافي مشترك مع أربكان، ان لا مجال لقيام ائتلاف بين الحزبين، بعدما اصطدما بنقطة اساسية وهي السياسة الاقتصادية، اذ اشترط يلماز تولي حزبه بمفرده السياسة الاقتصادية على مدى السنوات الخمس المقبلة من دون مشاركة من الرفاه، وهو الامر الذي رفضه اربكان بشدة لكونه مخالفاً لروح الشراكة في ادارة شؤون البلاد المختلفة. "أخطاء" أربكان هكذا انهار مشروع الائتلاف الحكومي بين الرفاه والوطن الام. لكن هذا التعليل لم يكن "مقنعاً" لأوساط كثيرة داخل تركيا. وظهر واضحاً أن شيئاً ما حدث. البعض يقول ان يلماز كان يفكر عملياً في المضي قدماً في تكوين ائتلاف مع أربكان. لكن حادثتين جعلتاه يعيد النظر في حساباته ويشكك في حقيقة تحوّل اربكان. الاولى: عرضُ اربكان اثناء افطار لسفراء الدول الاسلامية في انقرة نموذجاً من "الدينار الاسلامي" الذي يقترحه عملة نقدية مشتركة بين الدول الاسلامية. أما الحادثة الثانية فقوله للسفير الايراني في انقرة في الذكرى 16 للثورة الايرانية: "ان الثورة الايرانية حدثٌ فيه خير كثير. اذ أشكر من قاموا بهذه الثورة، فإنني، في نفس الوقت، أهنئهم"، ما اعتبر "نشازاً" على "الاذن العلمانية" التركية. ومع ذلك، فما كان ليلماز ان يفرط في محادثاته مع اربكان لو لم تكن تشيللر، في المقابل، أعلنت استعدادها للتراجع عن اصرارها على تزعم حكومة ائتلافية مع الوطن الام والموافقة على تولي يلماز رئاسة الحكومة اولاً. لكن ما الذي دفع تشيللر الى هذا التنازل بعدما كانت ترفضه وهي المعروفة بعنادها؟ الجيش يتدخل في آخر أيام شباط، نشر عدد من المقالات، أبرزها للمعلق المعروف محمد ألتان، يفيد بأن رئاسة أركان الجيش التركي مارست ضغوطاً مزدوجة على كلٍّ من يلماز للتخلي عن ائتلافه مع الرفاه، وتشيللر للقبول برئاسة يلماز اولاً للحكومة الجديدة. وتقول هذه المعلومات ان رئاسة الاركان قامت بوساطة بين تشيللر ويلماز للوصول الى هذه النتيجة التي تهدف الى أمر واحد: قطع الطريق امام الرفاه للمشاركة في السلطة. والواقع ان اربكان، الذي يدرك جيداً معارضة الجيش له، ما كان ليبادر الى تلقف هذه الكرة. لكن شيوع هذه المعلومات وفرّ له مخرجاً. فطالب بتصريح رسمي من يلماز وتشيللر ينفيان فيه هذه المعلومات، معتبراً ان عدم صدور مثل هذا التصريح عنهما يؤكد صحة هذه المعلومات. ويرى أربكان ان في ذلك طعنة لخيار الشعب وللديموقراطية التي اختارت الرفاه ليكون في السلطة، وطالب في أول أيام آذار مارس الجاري باجراء تحقيق حول هذه المعلومات. عزل الرفاه مستمر تعكس هذه الشائعات، الاقرب الى الواقع، حقيقةً مهمة، وهي أن مؤسسات النظام العلماني في تركيا، أحزاباً وهيئات اقتصادية ومؤسسات عسكرية وامنية، ما زالت غير راغبة في مشاركة الاتجاهات الاسلامية في صناعة القرار السياسي والاقتصادي، على الرغم من كل التنازلات التي قدّمها حزب الرفاه. ومن الخطأ اعتبار حجم الاتجاه الاسلامي مقتصراً على النسبة التي نالها الرفاه في الانتخابات النيابية 3،21 في المئة. ففي حزبي الوطن الام والطريق المستقيم اليمنيين نفسيهما عدد كبير من النواب ذوي الاتجاهات الاسلامية، ومنهم كوركوت اوزال ومحمد كجيجيلر. كما ان حزب الحركة القومية الذي سقط في الانتخابات الاخيرة يجمع بين النزعتين القومية والاسلامية. واذا استثنينا "حزبي اليسار الديموقراطي" و"الشعب الجمهوري" 25 في المئة من الاصوات، فلا يمكن القول ان الاحزاب الاخرى الاساسية علمانية بالفعل. ويعزز ذلك ارتفاع أصوات عدة رأت في استبعاد الرفاه عن السلطة خطراً على النظام، فيما تقلل مشاركته هذه الاخطار وأخطار الحركات الاسلامية الراديكالية. ومن ابرز هذه الاصوات النائب عن حزب الوطن الام في مدينة ازمير الحاكم السابق للمصرف المركزي المرشح لتولي احدى الحقائب المهمة في الحكومة الجديدة رشدي سراج اوغلو، الذي قال: "في الانتخابات، استبعد حزب الديموقراطية الشعبي الكردي وحزب الحركة القومية ودفعناهما خارج النظام. الآن اذا اردنا دفع الرفاه وهو الحزب الذي نال اكبر نسبة من الاصوات والمقاعد البرلمانية خارج النظام، فإن في ذلك ما يثير القلق ... من الضروري ألاّ يستبعد الرفاه". اخطاء النظام فوّت العلمانيون في تركيا، وفي مقدمهم الجيش، باستبعادهم الرفاه عن السلطة فرصة امكان "عقلنة" هذا الحزب وامتصاص خطره، كما يقول ايلنور شفيق رئيس تحرير صحيفة "ديلي نيوز" واحد كتاب الاعمدة في صحيفة "يني يوزييل". وفي هذا الموقف، خطأ آخر، يضاف الى خطأ اعتبار المسألة الكردية مجرد "مسألة ارهاب" يمكن حلّها بالطرق العسكرية. وكما تدفع تركيا باهظاً ثمن نظرتها "الامنية" الى القضية الكردية منذ عام 1984، فإن دفع الاسلاميين، الذين اظهروا حتى الآن مرونة تستحق مقابلتها بالمثل، الى خيارات غير ديموقراطية، ستكون مضاعفاته السلبية خطيرة للغاية على الاستقرار الداخلي في تركيا. ولن تكون الحكومة الجديدة التي يرأسها يلماز، سوى حكومة "انتقالية" غير قادرة على مواجهة الحساسيات الشخصية بين رئيسها وتشيللر، ولا الخلافات الكبيرة بين طرفيها حول قضايا اساسية مثل قبرص والوحدة الجمركية والمسألة الكردية والشؤون الاقتصادية لا سيما مشاريع التخصيص، والملفّ المالي لتشيللر وزوجها الذي طالب يلماز مراراً بفتحه والتحقيق فيه. فضلاً عن بقاء الحكومة الجديدة تحت رحمة احد الحزبين اليساريين في البرلمان، لتتمكن من الحصول على الغالبية المطلقة لنيل الثقة. ويبقى التساؤل، بعد الذي كشفته الايام القليلة الماضية، عما سيكون عليه موقف حزب الرفاه في المستقبل، بعدما حيل بينه وبين الوصول الى السلطة بالطرق الديموقراطية. وبين الحديث عن الديموقراطية في تركيا والديموقراطية على الطريقة التركية فرق، لا شك، شاسع.