لو يتسنى للرئيس التركي سليمان ديميريل ان يختار "خليفة" له في فلسفته السياسية، لما تردد لحظة في تزكية زعيم حزب "الرفاه" نجم الدين اربكان الذي كان في الايام الاخيرة، "خير تلميذ" لشعار ديميريل الاشهر "الامس هو الامس، واليوم هو اليوم" عملاً بقاعدة "عفا الله عما مضى". فحتى خلال الحملة التي سبقت الانتخابات النيابية في 24 كانون الاول ديسمبر الفائت، كانت بوادر "التحول" في مواقف "الرفاه" من قضايا كثيرة مثيرة للجدل، ولا سيما منها الربا، مثار اهتمام المراقبين. ومع انتصار "الرفاه" في الانتخابات، وتكليف زعيمه اربكان تشكيل الحكومة الجديدة في التاسع من الشهر الجاري، اكتملت عناصر التحول بإعلان اربكان انه يضع جانباً "النظام العادل" الاسلامي الذي يحمله ويدعو الى فتح "صفحة بيضاء" بالكامل من أجل النجاح في تشكيل ائتلاف حكومي جديد مع أي حزب آخر، يمينياً كان أم يسارياً، يوافق على التحالف معه. ومن البديهي ان يتساءل الجميع عن اسباب هذا الانفتاح المفاجئ لزعيم "الرفاه" وهو الذي قال في خصومه ما قاله مالك في الخمر. تكليف اربكان أسفرت الانتخابات النيابية، كما هو معروف، عن "خيبة أمل" كبيرة في صفوف الاحزاب الاخرى، لا سيما منها حزبي اليمين: "الطريق المستقيم" بزعامة تانسو تشيلر، و"الوطن الام" بزعامة مسعود يلماز اللذين فشلا مجتمعين في تحقيق غالبية مطلقة في البرلمان الجديد، وهما مضطران - لو اتفقا - الى دعم احد الحزبين اليساريين الباقيين، "اليسار الديموقراطي" برئاسة بولنت اجاويد او "الشعب الجمهوري" برئاسة دينيز بايكال، لنيل الثقة. ومع ظهور النتائج، كانت "الوهلة" من انتصار حزب "الرفاه" هي رد الفعل الاول في اوساط خصومه الذين هرعوا واحداً تلو الآخر لعقد لقاءات مباشرة في ما بينهم، بعد يوم واحد فقط على إعلان النتائج، يجمعهم قاسم مشترك واحد هو الحؤول دون تشكيل اربكان حكومة جديدة بل حتى قطع الطريق امام مجرد تكليفه هذه المهمة. ولكن بعد مرور بعض الوقت، هدأت "فورة" الذهول والخوف وعاد كلٌّ الى موقعه، تطغى على تحركه حسابات شخصية وتنافس، حالت دون نجاح تشيلر ويلماز في التوصل الى قاعدة مشتركة لائتلاف حكومي بينهما. فاضطر ديميريل - اذ حان موعد التكليف - الى اسناد المهمة - كما هو العرف - الى رئيس اكبر الاحزاب النيابية، أي الى اربكان. منذ اللحظة الاولى لظهور النتائج، طالب اربكان رئيس الجمهورية بپ"احترام خيار الأمة وقواعد اللعبة الديموقراطية" وبالتالي تكليفه تشكيل الحكومة الجديدة. وما قام به الرئيس فعلاً، كان، بالنسبة الى "الرفاه"، الخطوة الاولى في لعبة سياسية بالغة التعقيد تتداخل فيها العوامل الاقتصادية والمحلية والاقليمية، وتؤذن ببدء مرحلة جديدة، مهمة، من تاريخ تركيا، لا يمكن القفز فوق حقائقها. فمع الصعود السياسي الكبير لهذا التيار الاسلامي، في أول بلد علماني في العالم الاسلامي، بات من الخطأ ردّ عوامل نموه الى انقسام الاحزاب اليمينية او اليسارية. كما سيكون من المستحيل تجاهل حجم انتشاره، والمضي في استبعاده - بكل ما يمثل من تطلعات ومصالح واسعة، من المشاركة الايجابية في الحياة السياسية - من دون ان يحدث ذلك ردود فعل لا تخدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في بلد يعاني من مشكلات تهدد لحمته الاجتماعية ووحدته السياسية. "الاستيعاب" علمانياً حتى قبل فشل التفاهم بين تشيلر ويلماز، ظهرت الدعوة في الاوساط العلمانية الى "استيعاب الرفاه" في النظام السياسي القائم. ومع ان "الخوف" من هذا الحزب كان منطلقاً لهذه الاصوات، الاّ أنه يمثل مع الزمن مؤشراً إلى احتمالات تبدل في الذهنية الاتاتوركية المسيطرة منذ سبعين عاماً. وبداية هذا التحول، الطلب من رئيس الجمهورية تكليف اربكان تشكيل الحكومة الجديدة، وسحب ورقة "الشعور بالظلم" التي كان سيحملها زعيم "الرفاه" "قميص عثمان" ويستثمرها، كما يقول اجاويد، لسنوات عدة، لو لم يكلف هذه المهمة. لكن الدعوة العلمانية الى استيعابه تخطت "شكليات" التكليف، وصولاً الى المطالبة بإشراكه في القرار السياسي والائتلاف معه لتشكيل الحكومة الجديدة. ودعا المعلق المعروف محمد علي بيراند الى "ادخال الرفاه الى قلب النظام" اذ "ليس من مصلحة تركيا استبعاده". واقترح ائتلافاً ثلاثياً بينه وبين "الوطن الام" و"الطريق المستقيم". كذلك لم يجد المعلّق محمد بارلاس في استبعاد "الرفاه" عملاً "سليماً". ودعا المعلق التركي اليهودي المعروف سامي كوهين الى الاعتراف بپ"واقع الرفاه" "لئلا يضطر الى سلوك طريق مقاومة النظام". وأعلن الخبير الاقتصادي عثمان اولاغاي ان اية حكومة من دون "الرفاه" هي "منذ لحظتها الاولى ضعيفة ولن تكون قادرة على أية اصلاحات جسورة". وتخطّت هذه الدعوة، الوسط الفكري والصحافي، الى أحد أهم الاحزاب التركية، حزب "الوطن الام"، اذ اعلن زعيمه يلماز، أن استقصاء للرأي في قاعدة الحزب وبين مسؤوليه، أوصى بالتحالف مع حزب "الطريق المستقيم" كخيار اول ومع حزب "الرفاه" كخيار ثان. وكان اعلان ذلك اول "اختراق" سياسي اساسي لپ"الرفاه" داخل الاحزاب العلمانية. علماً أن التيار الديني يمثل جزءاً مهماً من قواعد حزبي "الوطن الام" و"الطريق المستقيم". ويذكّر كوركوت اوزال، شقيق الرئيس الراحل تورغوت اوزال، والعضو الآن في حزب "الوطن الام"، ان بايكال، وكان وزيراً للمال في الحكومة الائتلافية التي جمعت بين "الشعب الجمهوري" و"السلامة الوطني" الذي كان يرأسه اربكان في العام 1973 قال له: "يا هو، لقد فهمناكم خطأ. انتم مختلفون جداً"، وكذلك كان يرددّ بولنت اجاويد رئيس تلك الحكومة. اربكان الجديد وأمسك اربكان، منذ اللحظة الاولى بعد ظهور النتائج ثم بعد تكليفه، بخيوط هذا التحول، فمضى بها الى اقصى حالاتها، وبصورة فاجأت الجميع، كما لو ان "اربكاناً" جديداً قد وُلد. واذا تخطينا التصريحات النارية التي يطلقها مسؤولون في "الرفاه"، وفي مقدمهم النائب شوقي يلماز، حول ضرورة هدم العلمانية وتوسل الديموقراطية، "النظام الشيطاني الاكثر قبحاً"، لبلوغ السلطة، فإن مواقف اربكان نفسه كانت غاية في الوضوح لجهة تبدلها. فبعدما كان خلال الحملة الانتخابية، يصف مسعود يلماز بأنه "ماسوني" ورئيس "حزب الباطل"، اذا به يعرض عليه صرف النظر عن "النظام العادل" الاسلامي وفتح "صفحة بيضاء" بالكامل. وبعدما كان ينعت تشيلر بأنها "إمرأة لا تعرف الطهارة" و"شريكة الكفار" اذا به يشدّ على يدها متخلياً عن برنامج حزبه وكل تصريحاته السابقة، من اجل التوصل الى ائتلاف حكومي معها. وطرأ تحول واضح كذلك في مواقف اربكان السياسية. فدعا الى تعديل بعض بنود الوحدة الجمركية مع الاتحاد الاوروبي وهو الذي كان يعد بتمزيقها. وطمأن واشنطن الى أنه ليس ضد وجود قواعدها العسكرية في تركيا ولكنه مع تحديد جديد لشروط تمركزها... الخ. تقية أم واقع؟ كيف يمكن تفسير هذا الانفتاح المفاجئ والتحول الكبير في لهجة "الرفاه"؟ اذا نحينا جانباً سيناريو "النيات المبيتة"، الشائع لدى بعض الاوساط، بأن ما يفعله اربكان الآن ليس سوى "تقية" للانقضاض في اللحظة المناسبة على النظام العلماني، فإن رغبة الزعيم التركي الاسلامي في الخروج من صورة "الفزّاعة" التي تلصق بالحركات الاسلامية في العالم - ومنها حزبه - وكسر حلقة العزلة التي يحاصرونه فيها، هي الاقرب الى الواقع. وحزب "الرفاه" يحاول كذلك اكتساب "شرعية" داخل النظام، من خلال تشديده المستمر على "الديموقراطية" بنداً أول في برنامج أي ائتلاف حكومي جديد. وفي ذلك اسقاط للذرائع التي تتمسك بها الاحزاب العلمانية، لرفض التحالف معه. وأربكان، الواقعي، يدرك ان الدخول في صدام مع النظام العلماني سيحوّل تركيا الى جزائر ثانية ولن يخرج أحد منتصراً. "عقدة" تشيلر والانتخابات المبكرة لكن المخاوف من عواقب استبعاد "الرفاه" عن الحكومة والسلطة، والدعوة الى استيعابه، والتحولات الواضحة في مواقف اربكان، لا تعني في الضرورة ان ائتلافاً حكومياً بزعامته او مشاركته فيه، أمر وشيك، لكنه اصبح عاملاً ضاغطاً واساسياً في الحركة السياسية للاحزاب وحسابات مصالحها. خرجت تشيلر من الانتخابات مثخنة، وهي إن كانت احتلت المركز الثاني لجهة عدد المقاعد النيابية، الاّ أنها غير قادرة على تصور نفسها خارج السلطة. وتسعى الى إحباط كل جهود اربكان لتشكيل الحكومة الجديدة، حتى اذا حصل ذلك، كَلَّفها ديميريل بصفتها رئيسة الحزب الثاني في البرلمان محاولة تشكيل الحكومة. وهذا الامر يعارضه يلماز بشدة، اذ يرى أن حزبه، وان نال ثلاثة مقاعد أقل مما نال حزب تشيلر، الاّ أنه تفوق عليه في النسبة المئوية للاصوات، وبالتالي فإن الناخب لم يحسم الزعامة في جبهة اليمين. وهنا بدأت معركة "عض الاصابع" بين الزعيمين اليمينيين. فيلماز يرى أن الائتلاف الاقرب الى التحقق هو مع حزب "الطريق المستقيم" شرط الاّ تكون تشيلر رئيسة للحكومة. في المقابل، يفسر بعضهم اصرار تشيلر على ترؤسها الحكومة، محاولة لدفع الامور الى نهاياتها غير السعيدة، وبالتالي اضطرار ديميريل بعد انتهاء فترة ال 45 يوماً، من دون تشكيل حكومة جديدة، الى اجراء انتخابات نيابية جديدة في غضون أشهر. وهو ما يعيد تشيلر التي ستتحالف مع حزب "الحركة القومية" بزعامة ألب ارسلان توركيش الذي نال 9،8 في المئة في الانتخابات الماضية وفشل في دخول البرلمان، الى السلطة بقوة، فتحقق بذلك ثلاثة أهداف بضربة واحدة: التربع على زعامة تركيا، انهاء حزب "الوطن الام"، وقطع الطريق امام حزب "الرفاه". لكن يلماز - اذا استمرت تشيلر على مواقفها - لن يعدم بدائله الضرورية. وهو أعلن صراحة وعلناً استعداده لتشكيل ائتلاف حكومي مع اربكان، اذا تعذر الائتلاف مع تشيلر. ومع ان بعضهم يرى في كلامه مجرد عامل ضغط على منافسته، الاّ أنه، واربكان وأجاويد، لن يقبلوا بأية صورة من الصُوَر اجراء انتخابات نيابية مبكرة. في هذه الاثناء، تضغط الاوساط الاقتصادية لتشكيل ائتلاف بين "الوطن الام" و"الطريق المستقيم". واذا تراجعت تشيلر عن اصرارها على رئاسة الحكومة، فإن اللجوء الى إسم ثالث يبقى وارداً، أو العودة الى نظام المداورة في الرئاسة بينها وبين يلماز الذي يصرّ، هنا، على أن تكون الفترة الاولى من الحكومة برئاسته. أما اجاويد الذي طرحه سابقاً يلماز اسماً وسطاً لتشكيل الحكومة فأعلن رفضه الدخول في ائتلاف مع تشيلر، لاختلافات كبيرة في وجهات النظر. واذ وصفها بأنها "اميلدا ماركوس تركيا" اعتبر ان معارضة واشنطن ترؤسه الحكومة دليل على أن الحكومات في تركيا "تُشكَّل في واشنطن وبروكسيل وليس - كما كان في السابق - في انقرة". "الرفاه" والاحتقان الاقليمي في خضم كل هذه التطورات، فإن حزب "الرفاه" سيكون المنتصر الاكبر، سواء شكّل الحكومة أم بقي في المعارضة. ولا يتوقع ان تشهد تركيا في الفترة المقبلة استقراراً سياسياً او اقتصادياً. ومظاهر العنف المتنقل التي شهدتها البلاد، في الايام الأخيرة، من مقتل رجل الاعمال اوزده مير صابانجي، والصحافي متين غوك تيه وتمرد المعتقلين السياسيين المتكرر ومقتل اربعة منهم على يد الشرطة، ملفتة للنظر، خصوصاً أن الاوساط التركية تتهم استخبارات بلد عربي واوروبي بالوقوف وراء بعضها. فهل ينجح حزب "الرفاه" في تشكيل حكومة جديدة وهناك ما يربط بين هذه الحوادث والضغط لانجاح مهمة اربكان والتخفيف من الاحتقان الداخلي والاقليمي؟ في انتظار الجواب فإن "الانتقالية" وما يصاحبها من فوضى ستبقى عنوان المرحلة المقبلة في تركيا.