منذ اللحظة الاولى لسقوط الائتلاف الحكومي في 20 أيلول سبتمبر الماضي، بين حزب الطريق المستقيم بزعامة طانسو تشيللر وحزب الشعب الجمهوري بقيادة دينيز بايكال، كان واضحاً ان تركيا في طريقها الى أزمة سياسية كبيرة وبداية مرحلة جديدة من الصراع على السلطة بين الاحزاب بمختلف اتجاهاتها. ولم يكن مستغرباً انهيار الحكومة الائتلافية بقدر ما كان مدهشاً استمرارها كل هذه المدة أربع سنوات على رغم التناقضات النظرية العميقة بين ممثلي اليسار الشعب الجمهوري واليمين الطريق المستقيم. لكن نظرة سريعة الى مواقف الاول تشير الى أنه، بعد هذه السنوات الاربع، اصبح اسماً على غير مسمى، ولم يعد، بعد احتضار الاشتراكية العالمية، ذلك المدافع عن حقوق العمال ومؤسسات الدولة وترسيخ الديموقراطية. فوافق على خطط رئيسة الحكومة تشيللر لخصخصة مرافق القطاع العام الانتاجية التي تضم، في تركيا، مئات الآلاف من العمال، مُفْسحاً بذلك أمام ارتفاع نسبة البطالة وتفاقم المشكلة الاجتماعية. كذلك لم ينجح حزب الشعب الجمهوري قبل توحيده في منع محاكمة ثم سجن النواب الاكراد المنتمين الى حزب الديموقراطية الكردي. كذلك لم يستطع بعد ادخال اصلاحات جذرية اكثر ديموقراطية على الدستور التركي. وأُخذ، بالتالي، على زعمائه، لا سيما مراد قره يالتشين، أنهم اشبه بپ"خيال ظل"، ما اتاح لتشيللر ان تظهر فعلاً بصورة "السيدة الحديدية" المصممة على بلوغ اهدافها مهما كلف الثمن. واذ بدا، في الايام القليلة التي تلت سقوط الائتلاف، ان العد العكسي لعهد تشيللر قد بدأ، استطاعت السيدة "الجميلة ذات الشعر الاشقر"، كما تُوصف احياناً، ان تخالف كل التوقعات وتؤكد في اول امتحان جدي لحضورها السياسي زعامتها وحنكتها وقدرتها على القيام بمناورات صعبة ومحفوفة بالمخاطر، وسط حشد من الزعامات التاريخية امثال بولنت اجاويد وألب ارسلان توركيش وحسام الدين جيندوروك ونجم الدين ارباكان، وصولاً الى الرئيس سليمان ديميريل نفسه. ذلك ان تشيللر ادركت جيداً، في خضم اللعبة التي لا ترحم، ان مصيرها الشخصي والحكومي والحزبي، الآن ولاحقاً، مرتبط بقدرتها على الخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر من المأزق الجديد، وبقائها على رأس الحكومة بالتحديد، وتالياً في رئاسة حزب الطريق المستقيم. وهكذا مضت تشيللر، التي افقدتها التطورات الاخيرة بعض قوتها، تحاور و"تنازل" رؤساء الاحزاب الاخرى الواحد تلو الآخر سعياً وراء هدف محدد وحيد: استمرارها رئيسة للحكومة. وبعدما فشلت مفاوضاتها مع مسعود ييلماز، رئيس حزب الوطن الام، وأظهرته بمظهر "الهارب" من تحمل المسؤولية، لم يتبق امامها سوى اللجوء الى تشكيل حكومية اقلية على أن تحظى بدعم حزبين صغيرين آخرين. واستطاعت تشيللر، الحديثة العهد في السياسة، أن "تجرَّ" الى صفها اثنين من ثعالب السياسة التركية هما بولنت اجاويد، رئيس حزب اليسار الديموقراطي، وألب أرسلان توركيش، زعيم حزب الحركة القومية اليمينية المتطرفة. ومع ان الاثنين اشترطا لتأييدها تحقيق بعض المطالب حجبُ اجاويد وحزبه الثقة كان بالفعل من اسباب سقوط حكومة الاقلية في 15 تشرين الاول/ أكتوبر الجاري، الاّ أنه يسجل لتشيللر دخولها في "بازار" عجيب مع حزبين متناقضين، وبين حزبها الطريق المستقيم، ونجاحها في جمعهما تحت عباءة "التأييد" ولو من خارج التشكيلة الحكومية. حسم الزعامة الحزبية حكومة الاقلية التي اتسمت بيمينية صارخة وبتجاهلها التحولات الليبرالية المهمة في المجتمع التركي في السنوات الاخيرة، عكست رغبة تشيللر الحادة في التمسك بالسلطة. وعلى رغم سقوط هذه الحكومة في اقتراع الثقة وبفارق كبير من الاصوات 231 في مقابل 191 صوتاً، الاّ أن تشكيلها كان بمثابة "رب ضارة نافعة" و"ضربة معلم" لأستاذة الجامعة السابقة، اذ استطاعت ان تعطل احد اكبر الالغام في وجه زعامتها الحزبية التي كان يرفع لواءها رئيس البرلمان حسام الدين جيندوروك الذي استقال من رئاسته في الاول من الشهر الجاري للتفرغ لاقصاء تشيللر عن زعامة الحزب. فبهذه الحكومة استدرجت تشيللر معظم معارضيها الحزبيين الى فخ الاستيزار وعلى رأسهم "كبير الصقور" جوشكون قيرجا الذي عين وزيراً للخارجية، وبذلك كسبت تأييدهم وانفضوا من حول جيندوروك الذي لم يجد حوله سوى 12 نائباً اقترع سبعة منهم ضد الحكومة فيما تغيب جيندوروك مع خمسة آخرين عن الاقتراع. ولم تدعْ تشيللر الفرصة تفوتها فپ"ضربت الحديد وهو حام". ففي اليوم التالي لسقوط حكومة الاقلية اقدمت على خطوة لا مثيل لها اذ "تجرأت" على طرد جيندوروك ورفاقه من صفوف حزب الطريق المستقيم. واذا كانت هذه الخطوة كرست تشيللر زعيماً أوحد لا منازع له للحزب، الاّ أنها ستحدث بالتأكيد تصدعاً في قواعد الحزب الشعبية، خصوصاً ان جيندوروك هو من الزعماء التاريخيين للحزب وهو الذي اعاد تنظيمه في اثر حظره بعد انقلاب 12 أيلول/ سبتمبر 1980 وكان اسمه حزب العدالة، وتسليمه، بكل بساطة، الى زعيمه سليمان ديميريل في أواخر الثمانينات. ومع ان ديميريل، لا يستطيع الآن، كرئيس للجمهورية، ان يخرج عن حياده المفترض في الدستور، الاّ أنه لن يغفر لتشيللر قرار فصل رفيق دربه جيندوروك من الحزب. وتذكر حادثة طرد جيندوروك هذه بتمرد مسعود ييلماز على طورغوت اوزال داخل حزب الوطن الام في اواخر عام 1992، وصولاً الى دفع انصار اوزال للخروج من الحزب وتفرد ييلماز بالزعامة حتى الآن. بعد سقوط حكومة الاقلية انطلقت تشيللر في "عنادها" من مقولة: "في اللحظة التي أخسر فيها سأعتزل السياسة". وبدت مصممة اكثر من اي وقت مضى على انقاذ مستقبلها السياسي، عبر العودة الى حليفها السابق حزب الشعب الجمهوري وتشكيل حكومة جديدة - متجددة لا تختلف كثيراً عن حكومة الائتلاف الاولى سوى في بعض التنازلات التي قد تقدمها لشريكها السابق على صعيد الاجور العمالية والتسريع في اقرار الاصلاحات الديموقراطية في الدستور والقوانين. الاقتصاد والوحدة الجمركية لماذا هذا الاصرار من جانب تشيللر على البقاء في رئاسة الحكومة؟ الاجابة على هذا السؤال متصلة بصورة وثيقة بمسألتين رئيسيتين ارتبطتا باسم تشيللر وتجعلان منها، في حال تحققهما زعيمة تركيا الاوحد. الاولى: برنامج الاصلاح الاقتصادي الذي أُعلن عام 1994 وعُرف باسم "قرارات 5 نيسان" ويهدف، بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، الى خصخصة تدريجية لمؤسسات القطاع العام وتحسين الاداء الاقتصادي التركي عبر اجراءات تقشفية بحلول نهاية 1995. ومع ان هذا المشروع ما زال يسير بخطى متعثرة نسبياً، الاّ أن تشيللر تريد ان تكمل مشروعها وبالتالي ظهورها بمظهر المنقذة للاقتصاد من عجزه الدائم. والمسألة الثانية هي الوحدة الجمركية مع الاتحاد الاوروبي التي أُقرت في 6 آذار مارس الماضي على أن يبدأ تنفيذها في مطلع العام المقبل اي بعد حوالي الشهرين. وهنا ايضاً تحمل تشيللر "الوحدة الجمركية" عامل ترسيخ لزعامتها الحزبية والسياسية ولا ترغب، مطلقاً، بفقدان هذه الورقة الرابحة من يدها، وتجييرها لمصلحة منافسيها من الزعماء الاتراك. لكن طريق تشيللر الى هذين الهدفين ليست سهلة بل مليئة بالالغام والمفاجآت. فالمضي في تنفيذ برنامج التقشف الاقتصادي يعني، كما حصل في الاسابيع الاخيرة، انفجار المشكلة الاجتماعية ونزول العمال بعشرات الآلاف الى الشارع ما يجعل اتحاد العمال التركي يفرض نفسه طرفاً اساسياً في الصراع السياسي لم يرغب اي زعيم سياسي، من بايكال الى ييلماز ومن اجاويد الى توركيش، معارضة مطالبه. وحدها تشيللر ما زالت تقاوم رفع الاجور بنسبة كبيرة. وائتلافها الجديد مع حزب الشعب الجمهوري يفرض عليها مزيداً من التنازل امام العمال وبالتالي امام الحزب الذي انسحب اصلاً من الائتلاف السابق بسبب وقوفه الى جانب العمال. ان امام تشيللر مهمة حساسة هي في التوازن بين رفع الاجور وعدم انعكاسه مزيداً من التضخم وكبحاً لبرنامجها الاقتصادي. اما الهدف "الاغلى"، الوحدة الجمركية مع الاتحاد الاوروبي، فدونه عوائق لا بد من تجاوزها. فالبرلمان الاوروبي الذي سيقرر في اجتماعه في 14 كانون الاول ديسمبر القادم مصير الوحدة الجمركية مع تركيا، يشترط على أنقرة، للموافقة على هذه الوحدة، ادخال اصلاحات ديموقراطية على الدستور التركي، وفي مقدم ذلك تعديل المادة الثامنة من قانون مكافحة الارهاب التي تسمح بمحاكمة وسجن كل من يدلي بآراء تعتبر "انفصالية" وماسة بوحدة الكيان والنظام. وهي المادة التي سُجن بسببها نواب حزب الديموقراطية الكردي وعشرات المفكرين والصحافيين ويحاكم بسببها الآن الكاتب المعروف ياشار كمال. ومع ان تشيللر ليست متحمسة كثيراً لتعديل هذه المادة على رغم تصريحات خجولة، فإن الموقف الاساسي المعارض لتعديلها يعود الى الجيش التركي نفسه الذي أعلن قائد سلاحه الجوي احمد تشوريكتشي، في تصريح له في تموز يوليو الماضي، معارضة صريحة لتعديل المادة الثامنة المذكورة، التي تشكل، بنظره، احد ضمانات المحافظة على وحدة البلاد والحؤول دون مزيد من التنازلات امام "الارهاب الكردي". واذا كان من غير الممكن توقع ما ستؤول اليه هذه القضية، الاّ أنها قد تشكل عاملاً في تفاقم التوتر السياسي الداخلي والدور الحاسم للجيش في انهائه. اذا لم يتأسس الائتلاف الحكومي الجديد على أسس قوية وواضحة فإن الانتخابات النيابية المبكرة حاصلة في القريب العاجل وقبل نهاية هذه السنة. وفي حال نجحت تشيللر في "تمرير" الوقت حتى بدء تنفيذ الوحدة الجمركية مطلع السنة المقبلة، فإنها ذاهبة حتماً الى انتخابات مبكرة في الربيع المقبل وبيدها "الورقة الذهبية" للوحدة الجمركية. وفي جميع الاحوال، فإن الاشهر المقبلة ستكون مليئة بالتطورات والتحولات التي ستؤثر على الخريطة السياسية والحزبية الداخلية وعلى وجه تركيا وتوجهاتها الاقتصادية وخياراتها الحضارية.