تبدأ الانتخابات العامة في تركيا غداً الاحد، وقد غابت عنها "القضايا الكبرى" التي طبعت الانتخابات السابقة. فليس بين شعارات الاحزاب المتنافسة او في برامجها المعلنة قضية الاسلام والغرب او القضية الكردية او عودة تركيا الى محيطها الاسلامي. وتبدو المعركة الانتخابية حامية بين الاسلاميين الممثلين في حزب "الفضيلة" ويتوقع ان يفوزوا ب150 مقعداً واليسار الديموقراطي بزعامة بولند اجاويد. ومن التوقعات ايضا ان لا يستطيع حزب بمفرده تشكيل غالبية برلمانية مما يعني ان الحكومة المقبلة ستكون ائتلافاً بين حزبين او اكثر. يتوجه 37 مليون ناخب تركي غداً الأحد الى صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في البرلمان وفي المجالس البلدية، وسط حملة انتخابية محمومة. وإذ يتوقع ان تكون نسبة الاقتراع بين 65 و70 في المئة، فهذه هي المرة الرابعة منذ 1983 يتم تقديم الانتخابات النيابية العامة سنة عن موعدها في خريف العام ألفين، اذ لم يكمل اي برلمان منذ 16 سنة مدته خمس سنوات. ويعود ذلك الى انعدام الاستقرار السياسي الذي طبع الحياة الحزبية منذ عام 1983، والخريطة الانقسامية للأحزاب التي ظهرت بعد انقلاب 12 ايلول سبتمبر 1980، حين انقسم اليمين واليسار العلمانيين الى احزاب عدة. تُضاف اليها القوى الاخرى من اسلامية وقومية ومستقلة... وأدى ذلك، منذ 1991، الى تعذر تشكيل حكومات من لون واحد واضطرار الاحزاب الى الدخول في ائتلافات كانت تنهار عند أول منعطف حساس، او لخلافات زعمائها الشخصية. واللافت في الحملة الانتخابية الآن، انها جاءت خالية من "القضايا الكبرى"، بخلاف ما كانت عليه حملة الانتخابات الماضية في 24 كانون الأول ديسمبر 1995. ولعل مقارنة خاطفة بين حملة الانتخابات الماضية وحملة الانتخابات الحالية تجعلنا نلاحظ انكفاء اهتمام القوى السياسية، الى شعارات عامة، او الهموم اليومية للمواطن. وبعدما كانت انتخابات 1995 محطة رئيسية في الصراع بين القوى العلمانية والاسلامية الممثلة حينها بحزب الرفاه المحظور الآن وأنصار التطلع الى أوروبا ومؤيدي عودة تركيا الى محيطها الاسلامي، وبعدما كان لدى الاسلاميين برنامج متكامل للسلطة تحت عنوان "النظام العادل"، وكانت معظم الاحزاب تطرح علناً رؤيتها لحل المسألة الكردية، وهي بالطبع قضايا حساسة تشكل جوهر الازمات التي تعاني منها تركيا على صعيدي الكيان والنظام، فإننا نجد ان الحملة الحالية للانتخابات، على رغم كل مظاهر الحيوية والسخونة، وآلاف اللافتات والاعلام والملصقات الحزبية، والمسيرات السيّارة، وعشرات البرامج الانتخابية والسجالية في وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية، تفتقد الى روح البرامج التغييرية. فلا مكان في الحملة لثنائية الغرب - الاسلام، ولا حديث عن أي تصوّر لمشكلة الجنوب الشرقي اي المسألة الكردية، حتى اقتراحات حلول المشكلة الاقتصادية ليست واضحة. وفي حين يركز بولند اجاويد، رئيس الحكومة وزعيم حزب اليسار الديموقراطي على اعادة الثقة بالدولة، بعد فضائح المافيا وارتباطها بأوساط سياسية، يشدد رجائي قطان زعيم حزب "الفضيلة" الاسلامي على الديموقراطية وحقوق الانسان والحريات، اي المسائل التي عانى منها، في عهد "الرفاه". غياب أربكان وتجرى انتخابات 18 نيسان ابريل، في ظل غياب احد ابرز "نجوم" الحركة السياسية التركية على امتداد الثلاثين عاماً الماضية، اي نجم الدين اربكان، زعيم حزب "الرفاه" السابق، المحظور من العمل السياسي لمدة خمس سنوات. لكن "رفيقه" في السياسة، من موقع الضد، بولند اجاويد، يستعيد، في الحملة الحالية، صباه السياسي وهو في السبعين. وتطغى "ظاهرة" اجاويد على الحملة الانتخابية الحالية، تدعمه في ذلك "الصحف العلمانية الكبرى" مثل "حريت" و"صباح" و"ميللييت" في مواجهة المتشددين من العلمانيين وحزب "الفضيلة". وبعد "خيبة أمل" العلمانيين من تحولات تانسو تشيللر، زعيمة حزب الطريق المستقيم، وائتلافها السابق، وربما اللاحق مع الاسلاميين، وبعدما طاولت فضائح الفساد، وعمليات الخصخصة والمافيا زعماء في حزب الوطن الأم الذي يرأسه مسعود يلماز، تدفع القوى العلمانية والقريبة من المؤسسة العسكرية اجاويد الى الصفوف الامامية، خصوصاً، انه اظهر في السنتين الاخيرتين "انسجاماً" كاملاً مع توجهات هذه الاوساط. وينحصر الصراع على المركزين، الأول والثاني على حزبي "الفضيلة" واليسار الديموقراطي، يليهما كل من حزبي اليمين: الوطن الأم والطريق القويم. وبين شعار "الآن زمن حزب اليسار الديموقراطي" وشعار "الفضيلة آتٍ" تتوقع معظم استطلاعات الرأي ان يفوز "الفضيلة"، بأكبر عدد من النواب في البرلمان الجديد 140 - 150 نائبا، حتى لو لم يحصل على اعلى نسبة من الاصوات، وهذا ما يحدّده النظام الانتخابي التركي الذي اقيم على قاعدة النسبية، في المحافظة وفي عموم تركيا، على ان يستفيد الحزب الذي يحتل المركز الثاني على صعيد المحافظة، من اصوات الحزب الذي احتل المركز الأول في المحافظة لكنه لم يستطع الحصول على نسبة العشرة في المئة على مستوى تركيا ككل ليتمثّل في البرلمان. ومن هنا يبدو حزب "الفضيلة" مطمئناً على وضعه حزباً أول في البرلمان. لكن تقدم حزب اليسار الديموقراطي بزعامة اجاويد، مستفيداً من عامل اعتقال اوجلان في عهده ومن سمعته كشخص "مستقيم" و"نظيف الكف"، الى واحد من الاحزاب الأربعة الكبرى الأولى، سيجعل الخريطة السياسية في البرلمان المقبل متشتتة بنسبة اكبر من التشرذم الذي كان عليه البرلمان المنتهية مدته. اذ ستتوزع المقاعد، بصورة قريبة من بعضها بعضاً، على الاحزاب الأربعة الأولى. وستتفاقم صورة التشرذم هذه، في حال نجاح حزب الشعب الجمهوري بزعامة دينيز بايكال، وحزب الحركة القومية، اليميني المتشدد، بزعامة دولت باغجلي، خليفة الزعيم التاريخي الراحل للحزب ألب أرسلان توركيش، في الحصول على نسبة العشرة في المئة. تحالافات ويبدو، منذ الآن، ان الترجيحات تميل الى ائتلاف حكومي أساسه حزبا اليسار الديموقراطي والوطن الأم، على ان يضم حزب الحركة القومية في حال فوزه في الانتخابات. لذا تتوجه الانظار الى نتيجة هذا الحزب، وحزب الشعب الجمهوري، لتلمس آفاق المرحلة المقبلة. لكن في حال سقوط هذين الحزبين، فإن تركيا ستكون من جديد امام ائتلاف بين "الفضيلة" والطريق القويم، ما لم تحدث ضغوطات تحول دون ذلك. وإذ تتفاوت، كما قلنا، استطلاعات الرأي، فإن اكثرها "اعتدالاً" يعطي "الفضيلة" واليسار الديموقراطي ارقاماً متقاربة 19 - 20 في المئة ويعطي حزب الوطن الأم والطريق القويم بين 14 و18 في المئة وحزبي الحركة القومية والشعب الجمهوري 10 - 11 في المئة. هذه الصورة الانقسامية للبرلمان المقبل، تجعل المواطن العادي يشعر بالاحباط من احتمالات التغيير، وسمعت من اكثر المواطنين الذين التقيتهم، يأسهم من أي تغيير ايجابي: الأسماء نفسها، الاحزاب نفسها، التشرذم نفسه. فمن "أين يأتي التغيير؟". لذا يتوقع كثيرون اجراء انتخابات نيابية مبكرة جديدة، بعد فترة ليست طويلة من الانتخابات الحالية. يذكر في هذا المجال ان البرلمان الجديد سيكون عليه التصدّي لاستحقاق مهم وهو انتخاب رئيس للجمهورية عام 2000، بعدما تكون مدة الرئيس الحالي سليمان ديميريل، البالغة سبع سنوات قد اكتملت، وهو الذي انتخب في ايار مايو 1993 بعد الوفاة المفاجئة للرئيس الراحل تورغوت اوزال في 17 نيسان ابريل من العام نفسه. وإذ يبدي كل من مسعود يلماز وتانسو تشيللر رغبة في هذا المنصب، فإن بولند اجاويد اعطى اشارات الى انه يرغب في التجديد للرئيس ديميريل. اجراءات امنية من جهة اخرى، قرّرت وزارة الداخلية اتخاذ تدابير امنية تتيح اجراء الانتخابات في جو "متسامح لكن حازم"، والاستعانة بقوى الجيش عند الحاجة. ومن تلك الاجراءات الاستعداد الدائم لخبراء المتفجرات العثور على او تفجير اي جسم مشبوه، والمراقبة الدائمة لمراكز الاقتراع لا سيما في المناطق الحساسة، ومنع خطف صناديق الاقتراع، اثناء نقلها. كما اتخذت تدابير خاصة في مناطق جنوب شرقي البلاد، حيث تتواجد غالبية كردية، من بينها تكليف الدرك والجيش، نقل صناديق الاقتراع بالعربات المدرّعة وطائرات الهليكوبتر اذا لزم الأمر، ومراقبة الطرقات التي ستمرّ فيها هذه الصناديق، وإبقاء قوات عسكرية اضافية، جاهزة مع آليات للتدخل.