أضاف قرار الحكومة الاسرائيلية اجراء انتخابات مبكرة هذا العام عاملاً آخر الى جدول الديبلوماسية العربية - الاسرائيلية المعقد أصلاً. ومع ان الحكومة لم تحدد تاريخاً معيناً لاجراء هذه الانتخابات فان من الثابت انها ستجري في أواخر شهر أيار مايو أو اوائل حزيران يونيو. وعلى رغم الحديث عن "الطبيعة التاريخية" لهذه الانتخابات، فان من الواضح ان الطريق التي أرساها رئيس الوزراء السابق اسحق رابين عقب فوزه في انتخابات 1992 أوجدت حقائق لا يمكن تغييرها بسهولة، سواء أفاز شمعون بيريز وحزب العمل أم بنيامين نتانياهو وائتلاف ليكود في الانتخابات المقبلة. وستكون النتيجة الأساسية لفوز ليكود بذل المزيد من الجهود المكثفة للاصرار على تطبيق سياسات طالما تبناها في الواقع حزب العمل. فكما قالت صحيفة "معاريف": "اذا نظرنا الى سياسات الطرفين فاننا سنجد من الناحية العملية ان ليكود والعمل يقفان هذه الأيام على منصة واحدة: المطالبة بالغاء بنود الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنادي بتدمير اسرائيل، والاصرار على بقاء مدينة القدس الموحدة عاصمة لاسرائيل، وعدم الاعتراف بأي دولة فلسطينية. والفرق الوحيد بينهما هو ان ليكود يؤمن بقوة بهذه المواقف بينما نرى ان العمل على استعداد لتقديم تنازلات فيها". الاغتيال والشعبية وكان مقرراً ان تجري الانتخابات في تشرين الأول اكتوبر المقبل، أي في نهاية السنوات الأربع التي فاز بها رابين والعمل عام 1992. لكن هناك حدثين فرضا نفسيهما على الساحة: الأول هو اغتيال رابين في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي. واثر الاغتيال وتولي بيريز رئاسة الحكومة ارتفعت شعبية الحكومة الائتلافية الى درجة كبيرة، على حساب معارضة ليكود بزعامة نتانياهو. ومنذ ان تولى بيريز السلطة استغل بمهارة فائقة المشاعر الشعبية التي أعربت عن التضامن مع الحكومة والرغبة في الاستمرار على طريق المصالحة مع العالم العربي التي سار عليها رابين. لكن بيريز امتنع عن الدعوة فوراً الى اجراء انتخابات لأنه لم يرد اعطاء الانطباع بأنه يستغل الاغتيال لأغراضه السياسية خصوصاً ان الناخبين الاسرائيليين يعتبرونه مراوغاً وبالتالي فهو لا يستحق ثقتهم المطلقة. والواقع ان الحسابات السياسية كانت تؤيد عدم اجراء انتخابات مبكرة. اذ ان بيريز سبق له ان قاد حزب العمل الى أربع هزائم انتخابية منذ 1976. ولهذا أدرك بسرعة ان اغتيال رابين وحده لن يضمن الفوز للعمل في الانتخابات خصوصاً ان استطلاعات الرأي العام عشية الاغتيال كانت تظهر تحول الناخبين الى تأييد ليكود. واعتقد بأن التوصل الى اتفاق مع سورية يعرض من خلاله على الناخبين الاسرائيليين "اجواء السلام ومؤثراته" حسب تعبير ارييل شارون، قبل اجراء ا لانتخابات، من دون "ألم الانسحاب الحقيقي من مرتفعات الجولان" بعد الانتخابات هو المفتاح الحقيقي للفوز. ومن هنا شرع اثر الاغتيال مباشرة في تركيز الاهتمام على استئناف المفاوضات على المسار السوري. وفي هذا الاطار ساهمت واشنطنودمشق في مساندة مبادرة بيريز حين وافقتا على استئناف المفاوضات التي توقفت في الصيف الماضي، مع ان الوفد الاسرائيلي لم يحمل معه أي اقتراحات مختلفة فعلاً عن موقف الصيف. فكل ما حصل هو ان بيريز أعاد "تغليف" السياسة الاسرائيلية نحو سورية بغلاف اكثر بريقاً واكثر جاذبية. ومثلما يعترف الزعماء الاسرائيليون "لم يحدث أي تغيير في المحتوى والمضمون وانما كان التغيير في الشكل والتغليف". أما العامل الثاني الذي ساعد على اتخاذ قرار اجراء انتخابات مبكرة فهو ادراك بيريز انه لا يمكن توقع حدوث تقدم حقيقي على المسار السوري قبل أواخر العام الحالي. اذ تحقق مع اوائل شهر شباط فبراير الجاري انه لن يستطيع حتى اقناع دمشق باصدار "اعلان مبادئ". ومع بدء انحسار الآثار الايجابية التي نجمت عن اغتيال رابين، وبدء تراجع شعبية العمل في استطلاعات الرأي العام، تراجعاً تدريجياً أدرك ان كل العوامل تقتضي منه الدعوة الى اجراء الانتخابات في وقت مبكر. نظراً الى هذه الخلفية غير العادية سيكون ل "عامل رابين" و"المفاوضات مع سورية" دور حاسم في الحملة الانتخابية. اذ ان بيريز بدأ يلف نفسه بتركة سلفه وسياساته على أمل ان "يفكر الناخبون في رابين ويصوتوا لبيريز". ففي الخطاب الذي ألقاه عبر التلفزيون في الحادي عشر من الجاري أمضى الدقائق العشرين الاولى في الحديث عن اغتيال رابين بينما ظهر وراءه على الشاشة الحارس الشخصي لسلفه الذي جرح في الاغتيال. كذلك ينوي رئيس الوزراء اسناد دور مهم الى أرملة رابين في الحملة الانتخابية. ويعلق ناحوم بارني على استراتيجية بيريز الانتخابية بقوله: "سيكون بيريز أباً للشعب بينما سيكون رابين عم الشعب". المترددون علاوة على "عامل رابين" بدأ بيريز بابراز مؤهلاته وانجازاته لكي يقنع الناخبين بأنه سياسي ناضج وموثوق به. اذ انه قررمثل سلفه انتهاج استراتيجية التودد الى الناخبين المترددين الذين لم يقرروا لمن سيصوتون حتى الآن، ادراكاً منه ان هؤلاء الناخبين "غير الملتزمين" هم الذين سيقررون الطرف الفائز. ومثلما اجتذبهم رابين عام 1992 فانه يريد اجتذاب اصواتهم في انتخابات 1996. ومنذ تشرين الثاني نوفمبر يركز على هؤلاء الناخبين الذين تتميز غالبيتهم بالتدين اكثر من مؤيدي العمل، والتشدد في مواقفهم نحو الفلسطينيين وسورية. وفي مسعى واضح من بيريز لكسب أصوات المتدينين وعد ببناء الاف الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة الغربية، وهي خطوة وصفتها صحيفة "هاآرتس" بأنها "اذعان واستسلام من الحكومة لمحاولة اجتذاب الناخبين المتعصبين دينياً"، كذلك استأنف الحوار مع الحزب الديني الوطني الذي كان شريكاً أساسياً في كل حكومات ليكود والعمل ايضاً حتى عام 1992. كما نجح، اكثر من رابين، في تحييد معارضة المستوطنين لعملية أوسلو عن طريق اقناع المتدينين منهم بأن اتفاق أوسلو يحمي حياتهم اليومية في الواقع بدلاً من ان يهددها أو يعرضها للخطر. والمعروف عنه انه يرى ان أفضل طريقة لادارة مشكلة المستوطنات والمستوطنين هي التفاوض على علاقة جديدة بينهم وبين الفلسطينيين. ومن هذا المنطلق، يؤمن بأنه يمكن حماية المستوطنات وتوسيعها والابقاء عليها بصورة دائمة مع تلبية أقل قدر ممكن من الاماني الفلسطينية. ويقول أحد المعلقين الاسرائيليين: "ما يريده بيريز هو تثبيت خريطة المستوطنات الموقتة على أمل ان تصبح الخريطة الدائمة لاسرائيل وللكيان الفلسطيني، أي عدم الاقدام على أي خطوة للضم أو الفصل. بمعنى آخر ابتلاع الفلسطينيين من دون أكلهم. وفي هذا ما يوضح سبب حماسته الفائقة لاتفاق أوسلو الثاني الذي لم يعط الفلسطينيين سوى السيطرة على نسبة 27 في المئة من الضفة الغربية، لكنه أعطى اسرائيل السيطرة على شؤون الامن والشؤون الخارجية للفلسطينيين. وربما كان هذا هو السبب أيضاً الذي دفعه الى الابتهاج والفرح حين وقع الطرفان على الاتفاق. وبعد ذلك قال في حديث خاص في منزل السفير الصيني: "لقد نكحنا الفلسطينيين!". ومن غير المرجح ان يجري حزب العمل أي تغيير على بيانه الانتخابي الذي سيصدره في نيسان ابريل في ما يتعلق باقامة دولة فلسطينية مستقلة أو بوضع مدينة القدسالشرقية والسيطرة الاسرائيلية عليها. ولكن من المرجح ان يشتمل البيان على اشارة مبهمة وغامضة الى مسألة "الاتحاد الكونفيديرالي" بين الفلسطينيين والأردن. وفي ذلك الوقت بالذات سيبدأ المجلس الوطني الفلسطيني بمناقشة الميثاق الفلسطيني الجديد. ومن المرجح طبعاً ان يعلن المجلس تأييد السيادة الفلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة على ان تكون القدسالشرقية عاصمة الكيان الفلسطيني الجديد. مخاطر سياسة بيريز لذا من المحتمل ان يؤدي تزامن هذين الحدثين، الحملة الانتخابية الاسرائيلية ونقاش المجلس الوطني الفلسطيني، الى ابراز المخاطر التي تنطوي عليها سياسة بيريز من وجهة نظر الناخبين المترددين بدلاً من تقليل أهمية تلك المخاطر. ومن المؤكد ان السلطة الوطنية الفلسطينية تفضل فوزه وحزب العمل، ولهذا ستبذل اجهزة الأمن والمخابرات الفلسطينية كل ما في وسعها لمنع حدوث أي هجمات خلال الأشهر المقبلة لضمان عدم تحول الرأي العام الاسرائيلي ضد بيريز. أما ليكود فمع انه أعلن انه لن يلغي عملية أوسلو، فان من غير المرجح ان يقدم على توسيع اطار العملية مثلما ينوي حزب العمل. اذ ان نتانياهو دعا الى "قيام حكم ذاتي فلسطيني محدود" يحكم فيه الفلسطينيون المناطق التي يسكن فيها العرب فقط، بينما يظل باقي الضفة الغربية تحت السيطرة الاسرائيلية. ولعل النقاش الدائر لمستقبل الضفة الغربية يعكس أكبر مظاهر الضعف لدى ليكود، وهو ما يعطي العمل مشاعر الثقة الحالية. اذ ان عملية أوسلو جعلت المناداة باسرائيل الكبرى، وهي ما طالب به ليكود منذ عقود، فكرة سياسية منبوذة الآن. ومثلما وجد حزب العمل منذ عام 1977 صعوبة كبيرة جداً في تحديد دور أساسي له اكثر من كونه ظلاً باهتاً لحركة ليكود ها نحن نرى ان ليكود اليوم أصبح يشن حملة انتخابية تهدف في واقع الامر الى تنفيذ سياسات العمل وبرامجه الخاصة بالفلسطينيين وسورية - ولكن بصورة أكثر تزمتاً. يقول نتانياهو: "مع اننا لن نلغي ما تم فعله حتى الآن فان في وسعنا ان نمنع ازدياد الوضع السيء سوءاً من خلال وقف التنازلات الاسرائيلية المتهورة". ويعاني ليكود من انقسامات داخلية أهمها الخلاف على قضية "اسرائيل الكبرى". واذا توقفت الهجمات الفلسطينية على المدنيين الاسرائيليين فعلاً فان نتانياهو سيجد من العسير جداً عليه على رغم كل مهاراته التي لا يستهان بها في الحملة الانتخابية الحاق الهزيمة باستراتيجية العمل التي يشعر جميع قادة الحزب بأنها ستقودهم الى النصر. من هنا تبقى هضبة الجولان هي أفضل أمل لدى ليكود في اسقاط بيريز. اذ ان الاخير يروج لسياسات بالنسبة الى الجولان، لم تنجح حتى الآن في اجتذاب اهتمام الرأي العام الاسرائيلي. فالجميع يفترضون ان، يؤيد التوصل الى اتفاق مع سورية ينطوي على الانسحاب الى الحدود الدولية وربما ما هو اكثر من ذلك. لكن نتانياهو يعرض على الناخبين، على نقيض منافسه، الجولان والسلام معاً، ويعلن في الوقت نفسه ان نده سيلحق الضرر بأمن اسرائيل ومصادر مياهها لأنه يريد الانسحاب من الجولان. وأدت سياسة بيريز ازاء الجولان الى انشقاق عدد من مرشحي حزب العمل بقيادة جنرال سابق. وحين يعلن رئيس الوزراء ان أي اتفاق مع سورية لا بد من ان يطرح في استفتاء شعبي عام، انما يقول للناخبين في واقع الأمر ان في وسعهم ان يصوتوا له ولحزبه وان يعارضوا في الوقت نفسه أي انسحاب من الجولان. وعلى رغم ذكاء هذا الاسلوب فانه ينطوي على خطر جسيم وهو تجديد مشاعر الناخبين بعدم الثقة به. وستشهد الانتخابات المقبلة تغييراً تاريخياً في النظام الانتخابي، اذ للمرة الاولى سيصوت الناخبون بصورة منفصلة لاختيار رئيس للحكومة ولاختيار قائمة من المرشحين الحزبيين لعضوية الكنيست. وأدرك بيريز أهمية هذا التغيير قبل ان يدركه خصمه نتانياهو بفترة طويلة. فبعدما ضمن أصوات مؤيدي العمل وأصوات اليسار وأصوات العرب الاسرائيليين شرع في شن حملة مركزة لاجتذاب اصوات الناخبين المتدينين. في هذه الاثناء لم يستطع منافسه حتى الآن وضع الاستراتيجية المقنعة التي لا بد منها لحملته الانتخابية اذا أراد ان يجتذب اليه أصوات المعتدلين من الوسط. اذ ان شبح "اسرائيل الكبرى" لا يزال يطارده ويطارد ليكود. واذا اخفق نتانياهو في التخلص من هذا الشبح فانه سيجد نفسه في صفوف المعارضة مرة أخرى.