لندخل في صلب الموضوع: اسحق رابين زعيم حزب العمل الاسرائيلي المنتصر في الانتخابات النيابية الاخيرة ورئيس حكومة اسرائيل الجديدة، الرجل الذي سيتعامل معه العرب والفلسطينيون في المرحلة المقبلة: من هو؟ ما هي آراؤه ومقومات تفكيره وشخصيته؟ ما هي خططه وحساباته ورهاناته؟ كيف ينظر إلى الفلسطينيين والعرب وماذا يخبئ لهم؟ هل سيكون، فعلاً، مرناً وواقعياً، اين وكيف؟ هل سيدفع مفاوضات السلام إلى الامام وعلى اي اساس؟ الاجابة عن هذه التساؤلات والدخول إلى عالم رابين الحقيقي امر ضروري لكي لا نخطئ في تقييمه والحكم عليه، سواء باعتماد التفاؤل الزائد او التشاؤم الزائد. وسنحاول، في هذا المقال، الاجابة عن هذه التساؤلات والدخول إلى عالم رابين من خلال معلومات خاصة حصلنا عليها من مصادر ديبلوماسية وسياسية اميركية وفرنسية وبريطانية وثيقة الاطلاع على الشؤون الاسرائيلية وأيضاً من خلال متابعة مسيرة ومواقف وتصريحات وتحليلات هذا السبعيني الذي يعلق عليه الكثيرون، في المنطقة وخارجها، آمالاً لتحريك مفاوضات السلام الفلسطينية - العربية - الاسرائيلية. يمكن تحديد شخصية رابين ومقومات تفكيره في النقاط الرئيسية الآتية: أولاً: رابين لا يؤمن بفكرة "اسرائيل الكبرى" القائمة على التوسع الجغرافي وضم الضفة الغربية وغزة والجولان وأراض عربية اخرى وتطوير وتوسع المستوطنات في الاراضي المحتلة، بل يؤمن بفكرة "اسرائيل الصغرى" القوية المنسجمة والمتكيفة مع محيطها الاقليمي ومع المعطيات الدولية. وبذلك يختلف تفكير رابين عن تفكير اسحق شامير وارييل شارون وزعماء الليكود عموماً. والاصح القول ان رابين لم يعد يؤمن "باسرائيل الكبرى"، فالواقع ان رابين كان، مع موشي دايان، وبصفته رئيس الاركان، احد مخططي وصانعي "الانتصار" الاسرائيلي في حرب 1967 وهي الحرب التي ادت إلى توسيع مدى حدود اسرائيل - عن طريق احتلال سيناءوالضفة الغربية وغزة والقدسالشرقية والجولان - والى اعطاء الطامحين إلى اقامة "اسرائيل الكبرى" معطيات ملموسة للدفاع عن مشروع "اسرائيل الكبرى" للأسباب الاساسية الآتية: * رابين مؤمن ومقتنع - خلافاً لشامير - بأن العالم تبدل وانقلب وموقع اسرائيل في العالم تبدل ايضاً. فبعد انتهاء الاتحاد السوفياتي وتفكك امبراطوريته وحرب الخليج الثانية ما افرزته من نتائج لم تعد اسرائيل هي "الموقع الاستراتيجي" الذي تحتاج اليه الولاياتالمتحدة لحماية وتأمين مصالحها في الشرق الاوسط او الدفاع عنها. بل اصبحت الولاياتالمتحدة، لكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم وفي الشرق الاوسط، قادرة وحدها، وعن طريق علاقاتها المباشرة وروابطها المختلفة مع الدول العربية، ونتيجة رغبة جميع الدول العربية بلا استثناء - وآخرها كانت ليبيا - في اقامة افضل العلاقات معها... نتيجة ذلك كله اصبحت الولاياتالمتحدة قادرة على تأمين مصالحها في مجالات مختلفة من دون الاعتماد على اسرائيل كما كان الحال في السابق. ومشروع "اسرائيل الكبرى" يتناقض مع المصالح والحسابات والاستراتيجية الاميركية في المنطقة. ولم تكن مصادفة ان جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي دعا اسحق شامير وحكومته، في خطاب علني، إلى التخلي عن مشروع "اسرائيل الكبرى". لقد كان هذا المشروع هو احد الاسباب الرئيسية - وغير المعلنة دائماً - للصراع بين ادارة بوش وحكومة شامير. ورابين، بخبرته العسكرية والديبلوماسية، يدرك تماماً انه لا يمكن تحقيق مشروع "اسرائيل الكبرى" من دون دعم او تفهم اميركي، ولا يمكن تحقيقه خصوصاً ضد رغبة اميركا، القوة العظمى الوحيدة، حالياً، في العالم. * الازمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها اسرائيل، والمعتبرة الاسوأ منذ عام 1948 وقد كانت احد اسباب فشل تكتل الليكود في الانتخابات جعلت رابين وعدداً كبيراً من المسؤولين والمفكرين الاسرائيليين يدركون ان ما تحتاج اليه اسرائيل الآن، اكثر من اي وقت مضى، هو السلام، او "حالة سلمية معينة"، لكي تتمكن من معالجة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية وتجذب اليها مئات الآلاف من المهاجرين اليهود الجدد وتكون قادرة على استيعابهم، وتحصل على القروض والتسهيلات المالية من الولاياتالمتحدة والدول الغربية والصناعية الاخرى. ومشروع "اسرائيل الكبرى" هو مشروع حرب وتوسع وتوتر وصدام، ليس فقط مع الفلسطينيين والعرب بل ايضاً مع الولاياتالمتحدة والغرب والمجتمع الدولي. وفي الوقت الذي يرى المسؤولون الاميركيون والغربيون ان هناك دولاً عدة جديدة في العالم - في ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية - تحتاج إلى مساعدات الغرب المالية واستثماراته، وفي الوقت الذي تعاني الولاياتالمتحدة ودول غربية عدة من مصاعب اقتصادية، فان العالم الغربي لم يعد يقبل بتقديم الدعم المادي الكبير لاسرائيل الا اذا كانت منسجمة ومتكيفة مع مصالحه. ومشروع "اسرائيل الكبرى" يتناقض مع المصالح الغربية في الشرق الاوسط. * الاسرائيليون انفسهم تبدلوا، الذين ينتمون منهم إلى المؤسسة العسكرية، او ابناء الجيل الجديد. فعلى صعيد المؤسسة العسكرية الاسرائيلية اظهر استفتاء تم اجراؤه بين كبار الضباط والجنرالات الاحتياط الاسرائيليين خلال المعركة الانتخابية الاخيرة ان الاكثرية هؤلاء يعتبرون ان امن اسرائيل لا يتم بالضرورة عن طريق الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة او بمعظمها. وتقول مصادر اميركية وثيقة الاطلاع ان هذا الاستفتاء يعكس "تفكير" المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بشكل عام وليس فقط تفكير عدد محدود من كبار الضباط. اضافة إلى ذلك، فإن ابناء الجيل الاسرائيلي الجديد اعتادوا على العيش في مجتمع استهلاكي واصبحوا "استهلاكيين" في عاداتهم وطباعهم، وهم عموماً يرغبون في ايجاد "حالة سلمية ما" مع الفلسطينيين والعرب بدلاً من الاستمرار في "حالة حصار وتأهب" والبقاء سنوات طويلة اخرى في "حالة حرب"، مع ما يتطلبه ذلك من انفاق على الشؤون الدفاعية والعسكرية. وهؤلاء يؤمنون بمشروع "اسرائيل صغرى" قوية ومحصنة بعلاقات واسعة في الشرق الاوسط والساحة الدولية. * المهاجرون اليهود الجدد، ايضاً، ليسوا من انصار "اسرائيل الكبرى"، وقد عبروا عن ذلك بالتصويت - بأغلبيتهم - لصالح رابين وحزبه ولصالح تكتل "ميرتيز" اليساري المؤمن بتعزيز مفاوضات السلام مع الفلسطينيين والعرب. والمهاجرون الجدد، بأغلبيتهم الكبيرة، غير مكترثين بالضفة الغربية وغزة والجولان، بل ما يهمهم هو التمكن من ايجاد فرص عمل ومساكن في اسرائيل نفسها والعيش في ظروف جيدة وطبيعية، وليس البقاء في حالة "تأهب وحرب" سنوات طويلة. هذه الاسباب جعلت رابين يتخلى عن مشروع "اسرائيل الكبرى" ويؤكد - هو وأنصاره - انه "يجب التوقف عن تبديد الاموال في بناء مستوطنات جديدة، وان من الافضل انفاق الاموال في اسرائيل نفسها لتحسين الاوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية فيها". ويرى رابين ان مشروع "اسرائيل الكبرى" سيضعف "اسرائيل الصغرى" نفسها، بينما السلام، او السعي إلى السلام، يقوي علاقات اسرائيل مع الولاياتالمتحدة ودول العالم الاخرى مع ما ينتج عن ذلك من فوائد مالية كبيرة للدولة اليهودية. ولا بد من التوضيح، هنا، ان "اسرائيل الصغرى" التي يؤمن بها رابين ليست تلك القائمة على اساس "حدود 1948" او "حدود" ما قبل حرب 1967. فرابين مقتنع بضرورة الاحتفاظ "ببعض مواقع ومناطق" الاراضي العربية التي تم احتلالها خلال حرب 1967، وليس وارداً لديه الانسحاب من كل هذه الاراضي المحتلة. تنازلات اقليمية بشروط ثانياً: يتميز رابين عن اسحق شامير بأنه ليس جامداً متحجراً في مواقف عقائدية محددة يتمسك بها، ولو كان العالم كله ضده، كما كان الحال مع شامير. ويمكن القول ان "النظرة الامنية" هي المهيمنة على تفكير رابين الاساسي، بينما "النظرة الايديولوجية الاصولية" هي المهيمنة على تفكير شامير والليكود. ورابين مستعد للمرونة والمساومة وتقديم "التنازلات الاقليمية" اذا توفرت 3 شروط هي: * التأكد من ضمان امن اسرائيل. * الحصول على ثمن سياسي يدفعه الطرف الآخر - سواء كان فلسطينياً او عربياً - ويحقق مكاسب فعلية لاسرائيل. * ضمان "موافقة واسعة" في اسرائيل نفسها على اي قرار تتخذه حكومة رابين ويتضمن تقديم "تنازلات اقليمية" او اي شيء بهذا الحجم خلال مفاوضات السلام. ويتميز رابين عن "خصمه ومنافسه" داخل حزب العمل شيمون بيريز زعيم الحزب ورئيس الوزراء السابق بأن بيريز "خيالي" احياناً ومستعد للقيام بأعمال وخطوات "دراماتيكية مفاجئة" ويحلم، مثلاً، بأن يقوم بين العرب والاسرائيليين في السنوات القليلة المقبلة "تعاون" حقيقي في مجالات عدة على غرار تجربة السوق الاوروبية المشتركة او حتى على غرار الحلف الاطلسي. لكن رابين عكس ذلك. فهو واقعي وحذر ولا يؤمن بالأعمال و "الخبطات" الكبيرة والدراماتيكية، بل يفضل التحرك تدريجياً وعلى مراحل "في علاقاته" التفاوضية وغير التفاوضية مع الفلسطينيين والعرب. ورابين، مثلاً، من المعجبين بديبلوماسية وزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر القائمة على اساس "الخطوة خطوة". ثالثاً: رابين، خلافاً لشامير وعدد من زعماء الليكود، يؤمن بالأهمية الكبرى للعلاقات بين اسرائيل والولاياتالمتحدة وبضرورة ان تكون "شراكة حقيقية"، ويعترف بأن اسرائيل لا تستطيع الاستغناء عن الولاياتالمتحدة لأسباب متعددة. ومنذ ان كان سفيراً لاسرائيل في واشنطن في الفترة بين 1968 و1974 في عهد نيكسون وكيسنجر ورابين مقتنع "بأن مصير اسرائيل مرتبط بالولاياتالمتحدة"... وذلك قبل ان تصبح الولاياتالمتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. وقد صرح رابين قبل بضعة اشهر: "العلاقات بين الولاياتالمتحدة واسرائيل كنز كبير لاسرائيل وأمر حيوي بالنسبة الينا في كل المجالات. خلال السنوات السبع الماضية حصلت اسرائيل على مساعدات اميركية بقيمة 21 مليار - بليون - دولار. وعلاقاتنا مع الولاياتالمتحدة اساسية لتطوير وتحسين اوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية". ولا بد من القول، هنا، انه وفقاً لتقديرات مصادر غربية عدة فان اسرائيل تلقت منذ قيامها عام 1948 مساعدات اميركية مباشرة بقيمة 77 مليار بليون دولار، عدا المساعدات الاميركية غير المباشرة. ولم تتلق اية دولة اخرى في العالم من الولاياتالمتحدة مساعدات بهذه القيمة. ورابين مقتنع، خلافاً لشامير، بأن اعتماد اسرائيل "الكبير والحيوي" على الولاياتالمتحدة يجب ان يدفعها إلى مراعاة الحسابات والخطط والمصالح الاميركية في الشرق الاوسط، وليس تجاهلها او العمل ضدها. رابعاً: واقعية رابين وقدرته على استيعاب المتغيرات في المجتمع الاسرائيلي وفي المنطقة والعالم، جعلته يدرك اهمية "التغيير الاساسي" الذي طرأ على طريقة تعامل الفلسطينيين والعرب عموماً مع اسرائيل، خصوصاً بعد حرب الخليج الثانية. فرابين، في نهاية الامر، يأتي من المعسكر المتصلب في اسرائيل: فهو "صنع" مع دايان "الانتصار" العسكري الاسرائيلي في حرب 1967، وهو أيد غزو لبنان عام 1982 ووصول القوات الاسرائيلية إلى بيروت، كما أيد قطع المياه والكهرباء عن اهالي العاصمة اللبنانية لدفعهم إلى الاستسلام والانقلاب على الفلسطينيين. وهو صاحب "القبضة الحديدية" في التعامل مع الانتفاضة وصاحب شعار "حطموا عظام" الفلسطينيين ابطال الانتفاضة. لكن قدرة رابين على "استيعاب الدروس" والتكيف مع "المتغيرات" جعلت منه - حين كان وزيراً للدفاع - احد ابرز مؤيدي الانسحاب الاسرائيلي من لبنان ووضع حد "للمغامرة الاسرائيلية" في هذا البلد. كما ان رابين شجع اسحق شامير بقوة - حين كان الاخير رئيساً للحكومة - على تقديم مشروع عام 1989 الداعي إلى اجراء انتخابات في الضفة الغربية وغزة والى التفاوض مع الفلسطينيين لتطبيق الحكم الذاتي في هذه الاراضي المحتلة. واليوم يرى رابين ان التغييرات في الساحة الدولية وحرب الخليج الثانية وما افرزته ادت إلى ايجاد "فرصة مهمة" لا يجب تفويتها لمحاولة تحقيق السلام مع العرب والفلسطينيين. ورابين يرى، ايضاً، ان العرب والفلسطينيين تبدلوا، بشكل عام، واصبحوا "اكثر مرونة" وأن هناك، بالتالي، مجالاً لعقد "صفقة تاريخية في الشرق الاوسط"، لكن على مراحل، بين اسرائيل من جهة والفلسطينيين والعرب من جهة ثانية. مشروع رابين الفلسطيني ماذا يعني ذلك كله عملياً وكيف سيتعامل رابين، انطلاقاً من هذه الافكار والآراء والقناعات، مع الفلسطينيين والعرب والاميركيين؟ قبل كل شيء، لا بد من تأكيد اربعة امور اساسية: 1- "اللعبة ستكون مختلفة مع رابين"، كما يقول مسؤول اميركي بارز، "سواء في اصولها او قواعدها او اساليبها او تكتيكاتها او اهدافها". فشامير كان يرفض بشكل قاطع التفاوض على اساس مبدأ "مقايضة الارض بالسلام". اما رابين فسيكون، في هذا المجال، مختلفاً إلى حد ما عن شامير، اذ انه مستعد لقبول مبدأ "مقايضة بعض الارض بالسلام". 2- حرص رابين على العلاقات مع الولاياتالمتحدة وإدراكه اهمية هذه العلاقات يجعله، خلافاً لشامير، اكثر استعداداً لتقبل "افكار" او "اقتراحات" او "حلول وسط" اميركية بشأن القضايا والمسائل التي سيتم التفاوض بشأنها مع الفلسطينيين والعرب. وهذا، بدوره، يشجع الادارة الاميركية على القيام بدور "نشط وأكثر ديناميكية" مما كان الحال مع شامير في مفاوضات السلام المقبلة. 3- يجب التنبه إلى أمر سيواجهه العرب والفلسطينيون في تعاملهم مع رابين، وهو انه كلما اظهر رابين "انفتاحاً" او ابدى "مرونة"، ولو في ما يتعلق بأمور شكلية او جزئية، كلما ازدادت "الضغوط" الاميركية والدولية على الفلسطينيين والعرب "للتجاوب" مع رابين وتقديم "التنازلات". 4- مصدر اميركي مسؤول وبارز اكد ل "الوسط" ان الادارة الاميركية ابلغت، رسمياً، الفلسطينيين وبعض الجهات العربية: لا تتوقعوا الكثير من رابين وحكومته، ولا تطلبوا الكثير منه، وكونوا مستعدين للتجاوب مع "انفتاحه ومرونته". والآن، كيف سيتعامل رابين مع الفلسطينيين؟ ليس سراً ان رابين يعطي الاولوية للتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين حول تطبيق الحكم الذاتي في الضفة الغربية وغزة، خلال فترة اقلها 6 اشهر وأقصاها سنة. وهذا ما يريده ويؤيده المسؤولون الاميركيون ايضاً. وبينما يؤمن بيريز، مثلاً، ب "الخيار الاردني" وبأن اي حل للمشكلة الفلسطينية يجب ان يتم "من خلال الاردن وعبر الاردن"، فان رابين يؤمن ب "الخيار الفلسطيني" وهو مستعد للتفاوض مع وفد فلسطيني منفصل عن الوفد الاردني، وان كان يعتبر ان الاردن سيكون له دور في مرحلة "الحل النهائي" للمشكلة الفلسطينية. ورابين له موقف من الفلسطينيين مختلف تماماً عن موقف شامير والليكود، وقد عبر عن ذلك خلال الاسابيع القليلة الماضية في مقابلات صحافية وتصريحات علنية عدة. ويمكن التوقف بشكل خاص عند النقاط الآتية: * يرفض رابين ويستبعد حالياً فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، لكنه يمتنع عن الالتزام بهذا الموقف بصورة دائمة ويقول: "لا اريد ان اقول ان الفلسطينيين ليس لديهم الحق بأن يطمحوا إلى انشاء دولة خاصة بهم". * يعتبر رابين ان الانتفاضة اعطت "الاحترام الذاتي للفلسطينيين" في الاراضي المحتلة ويعترف بأن الفلسطينيين تخلوا نتيجة الانتفاضة وعوامل اخرى عن نظرية "كل شيء او لا شيء"، وانهم مستعدون لقبول فكرة "التحرك التدريجي والمرحلي" للتوصل إلى اتفاق مع اسرائيل. ووفقاً لرابين فلا بد من تشجيع ذلك. * ليس من المتوقع ان يثير رابين مشاكل او ازمات اذا حدثت لقاءات او اتصالات علنية بين اعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض وبين منظمة التحرير الفلسطينية. وفي اي حال ينوي رابين، في مرحلة لاحقة، العمل على الغاء القانون الاسرائيلي الذي يمنع الاسرائيليين من الاتصال بمنظمة التحرير. بالنسبة إلى موضوع الحكم الذاتي الفلسطيني، يتوقع المسؤولون الاميركيون ان يقدم الوفد الاسرائيلي - الذي سيضم اعضاء جدداً يختارهم رابين - إلى مفاوضات السلام المقبلة مع الفلسطينيين مشروعاً جديداً للحكم الذاتي يختلف عن مشروع حكومة شامير. ويمكن القول ان رابين يتفق مع الليكود على ان الحكم الذاتي هو للسكان فقط ولا يشمل الارض خلال المرحلة الانتقالية المحددة بخمس سنوات، لكنه يختلف مع الليكود حول مضمون الحكم الذاتي. فرابين مستعد لاعطاء الفلسطينيين صلاحيات اكبر لادارة شؤونهم في مختلف المجالات ما عدا مجالي الامن والسياسة الخارجية، ومستعد للموافقة على اجراء انتخابات تشريعية للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، وليس انتخابات بلدية كما اقترحت حكومة شامير. ورابين يؤيد ان تسفر هذه الانتخابات عن اختيار "سلطة فلسطينية" تتولى ادارة شؤون الحكم الذاتي. ورابين يدعو إلى "رفع مستوى المعيشة" للسكان الفلسطينيين في الضفة وغزة من خلال "استثمارات عربية او اجنبية" ويرى ان فترة الحكم الذاتي يمكن ان تؤدي إلى ايجاد "وقائع جديدة تؤدي بالتالي إلى طرح افكار وتصورات جديدة" في ما يتعلق بكيفية التعامل مع الفلسطينيين في المستقبل. ويؤيد رابين، على الصعيد الامني، سحب القوات الاسرائيلية من المدن والمناطق الفلسطينية الآهلة بالسكان وإعادة توزيع ونشر هذه القوات في مواقع معينة "لضمان امن اسرائيل"، كما يعتبر ان السلطات الاسرائيلية يجب ان تكون هي المسؤولة عن المستوطنات في الاراضي المحتلة. المستوطنات والقدس وبالنسبة إلى موضوع المستوطنات بالذات يعارض رابين انشاء مستوطنات جديدة في المناطق الآهلة بالسكان الفلسطينيين - وهو ما يسميه المستوطنات السياسية - ويدعو عموماً إلى تقليص الانفاق على المستوطنات القائمة حالياً في الضفة وغزة، ويعارض ازالة اية مستوطنة تم انشاؤها في الاراضي المحتلة، ويرى انه يجب المحافظة على وجود اسرائيل في هذه الاراضي بحدود 100 إلى 125 الف مستوطن، وهو العدد الحالي للمستوطنين الاسرائيليين. ويشدد رابين على ضرورة وجود مستوطنات امنية، سواء على طول وادي الاردن او حول القدس او في الجولان على الحدود مع سورية. وبالطبع، يؤيد رابين - مثله مثل سائر المسؤولين الاسرائيليين - بقاء القدس مدينة موحدة و "تحت السيادة الاسرائيلية". الاردن وسورية ولبنان هذا بالنسبة إلى الفلسطينيين. اما بالنسبة إلى الاردن فيعتبر رابين، باختصار، انه اذا تم التوصل إلى اتفاق حول الحكم الذاتي الفلسطيني "فلن تكون هناك مشكلة مع الاردن" ويمكن التوصل "بسرعة" إلى اتفاق مع عمان اذا رغب الملك حسين في ذلك. لكن سورية غير الاردن بالطبع. ورابين يبدي حذراً شديداً تجاه سورية، كنظام وكسياسة، ويعتبر ان الرئيس حافظ الاسد "ليس مستعداً للسلام مع اسرائيل" وان "سورية قالت نعم لأميركا لا لاسرائيل حين وافقت على الدخول في عملية السلام". لكن على رغم ذلك، ووفقاً للمعلومات التي حصلت عليها "الوسط" من مصادر اميركية وأوروبية وثيقة الاطلاع، فان رابين "لا يغلق الباب تماماً" امام احتمال التوصل إلى اتفاق اسرائيلي - سوري حول الجولان، بعد الانتهاء من اتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني، شرط تأمين امرين اساسيين: * الاول موافقة سورية على توقيع معاهدة سلام مع اسرائيل مع كل ما يعنيه ويتطلبه ذلك. * الاحتفاظ بمواقع عسكرية اسرائيلية في نقاط معينة من الجولان "لضمان امن" الدولة اليهودية. وتتوقع المصادر الاميركية المطلعة ان يكون هناك "تنسيق وثيق" بين رابين والادارة الاميركية حول كيفية التعامل مع سورية، سواء خلال مرحلة التفاوض على اتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني او بعدها. ماذا عن لبنان؟ يدرك رابين تماماً ان الحكم الذاتي لن يوقع اي اتفاق مع اسرائيل ولن يتفاوض حول اية "ترتيبات امنية" في الجنوب ترافق عملية تنفيذ قرار مجلس الامن الدولي الرقم 425، قبل الحصول على موافقة وتأييد سورية على ذلك. ويدرك رابين، ايضاً، ان سورية لن توافق على حدوث اي اتفاق لبناني - اسرائيلي، سواء كان جزئياً او شاملاً، الا اذا حدث "تقدم حقيقي" في المفاوضات السورية - الاسرائيلية. لذلك لا يضع رابين لبنان في اولوياته، وسيسعى، عن طريق الاميركيين، إلى وضع حد نهائي لنشاطات واعمال "حزب الله" وأنصاره ضد اسرائيل، وينتظر الوقت الملائم للقيام بخطوة او خطوات - صغيرة او كبيرة - على صعيد الجبهة اللبنانية - الاسرائيلية. لكن رابين سيطلب "ثمناً" لتنفيذ القرار 425، اذ سيصر على "ترتيبات امنية معينة" مع لبنان - على ان يلي ذلك لاحقاً توقيع معاهدة سلام - في مقابل انهاء "الحزام الامني الاسرائيلي" في الجنوب وتنفيذ الانسحاب الاسرائيلي من لبنان. وبشكل عام فان رابين يعترف بأن "السلام الشامل بين اسرائيل والعرب" لن يتحقق خلال السنوات القليلة المقبلة "بل سيحتاج إلى فترة طويلة والى متغيرات في الشرق الاوسط". وعلى صعيد العلاقة الاميركية - الاسرائيلية سيكون الهاجس الاول لرابين اقناع الادارة الاميركية بالموافقة على منح اسرائيل ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات بلايين دولار لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد. ويعتبر رابين ان الحصول على هذه الضمانات "له اهمية قصوى" اذ انه سيفتح الباب امام حصول اسرائيل على 10 مليارات بلايين دولار ضمانات قروض وتسهيلات مالية، ايضاً، من الدول الاوروبية واليابان ودول صناعية اخرى في العالم. ويرى رابين ان هذه المبالغ الضخمة "ستنقذ اسرائيل" وتساعدها على معالجة مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية الحادة وعلى تقوية وتدعيم "اسرائيل الصغرى". لكن هناك ثمناً لضمانات القروض هذه. وقد حدد وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر هذا الثمن في شهادته امام لجنة الاعتمادات في الكونغرس يوم 24 شباط فبراير الماضي حين قال: "ان موقف الادارة الاميركية هو انه من اجل ان تحصل اسرائيل على ضمانات القروض بقيمة 10 مليارات - بلايين - دولار يجب ان توقف الاستيطان في الاراضي المحتلة، اما كلياً وفوراً وبذلك تحصل على الضمانات كاملة، واما بعد استكمال المساكن التي بدأ انشاؤها فعلاً قبل حلول 1992، وبذلك تحصل على الضمانات محسوماً منها المبالغ اللازمة لاستكمال البناء. لكن في هذه الحالة ايضاً يجب ان تتعهد اسرائيل بالامتناع عن القيام بأية نشاطات استيطانية جديدة طوال فترة الحكم الذاتي". * * * هذا هو اسحق رابين الرجل الذي سيتعامل مع العرب والفلسطينيين في المرحلة المقبلة. ويبدو واضحاً ان رابين سيغير "اصول اللعبة" ومعطيات عدة في العلاقة التفاوضية العربية - الاسرائيلية. لكن التعامل معه سيكون صعباً وشاقاً، والانجازات في مفاوضات السلام لن تكون بلا ثمن.