تخرج الكويت ببطء من كابوس الاحتلال العراقي، فيما كل خططها الاقتصادية والعسكرية، وحتى السياسية، تحاول تجاوز آثار ذلك الاحتلال لتأسيس "الدولة الكويتية الثانية". وعلى رغم امكاناتها الاقتصادية وعلاقاتها السياسية، واتفاقاتها الأمنية، يظل السؤال الكبير الذي يشغل الكويت: من يضمن عدم تكرار العاصفة؟ تمر الذكرى الخامسة للغزو العراقي للكويت وما زالت الآثار المعنوية لهذا الغزو ماثلة في أذهان الشعب الكويتي. وعلى رغم تجاوز الآثار المادية للغزو، في تدمير الممتلكات، من خلال خطة الإعمار التي بدأ تنفيذها في أعقاب تحرير البلاد بواسطة التحالف الدولي والتي كلفت البلاد مع نفقات التحرير حوالى 60 بليون دولار أميركي، اقتطعت من الاستثمارات الكويتية في الخارج، اضافة إلى اقتراض عشرة بلايين دولار من الأسواق المالية العالمية وخسارة العوائد النفطية على مدى عامين نتيجة احراق القوات العراقية للآبار النفطية التي قدرت خسائرها بحوالى 25 بليون دولار، على رغم كل ذلك فإن الآثار النفسية تبقى هي الأخطر على المجتمع. فالدراسات الاجتماعية والابحاث النفسية تثبت ان الاحتلال العراقي كانت له آثار خطيرة على الأطفال والمراهقين بصورة خاصة، حيث زادت نسبة الجنوح إلى العنف والسعي للحصول على الأسلحة النارية بين المراهقين، وجرائم القتل والتي كانت نادرة بين الكويتيين قبل عام 1990، الأمر الذي دفع الحكومة إلى انشاء مراكز متخصصة لعلاج الآثار النفسية الناجمة عن الغزو. وما زالت قضية الأسرى تمثل جرحاً غائراً لدى الكويتيين بعد مرور خمسة أعوام على الغزو، خصوصاً أن عدد الأسرى يبلغ 620 أسيراً لبلد لا يتجاوز تعداد سكانه 650 ألف نسمة. ومن الناحية السياسية فإن "الدولة الكويتية الثانية" التي بدأت منذ التحرير في عام 1991 تميزت بتكريس الديموقراطية والحفاظ على الدستور كضمانة لاستقرار البلاد، خصوصاً بعد عودة الحياة البرلمانية وازالة جميع اشكال التمييز بين ابناء المجتمع الكويتي والذي تمثل بمنح الحقوق السياسية للمتجنسين. أما خارجياً، فإن الديبلوماسية الكويتية سعت إلى تواجد في جميع الدول المؤثرة وافتتحت سفارات ومراكز اعلامية. وعلى المستوى العربي حافظت الكويت على علاقاتها المعهودة مع معظم الدول العربية ما عدا تلك التي ساندت النظام العراقي ولم تعلن ادانتها حتى الآن لما قام به ازاء الكويت. ولم يعد الموقف الكويتي حيال هذه الدول متصلباً، إلا أن السياسة الكويتية وضعت قواعد تتم على أساسها إعادة هذه العلاقات إلى طبيعتها، منها تأييد القرارات الدولية المتعلقة بالغزو العراقي وإدانة الافعال التي قام بها الاحتلال. صالح الفضالة "الوسط" التقت مسؤولين وسياسيين كويتيين وسألتهم في ذكرى الغزو، عن الأوضاع الكويتية السياسية والاقتصادية والعسكرية. وتحدث صالح الفضالة نائب رئيس مجلس الأمة رئيس لجنة تقصي الحقائق التي تشكلت للتحقيق في ملابسات الغزو وأوجه القصور في أجهزة الدولة، فقال إن "الذكرى أليمة وكريهة على النفس ولا أتمنى أن اتذكرها أو أعود إلى احداثها، ولكن للأسف فإنها حدثت. لكن يخفف من ألمها أن الكويت الآن حرة تعيش في ظل علاقات طيبة وثيقة مع كافة شعوب العالم ما عدا مجموعة من الدول العربية التي ساندت المعتدي العراقي وسميت جوازاً في الكويت ب "دول الضد". أما من ناحية الترتيبات الدفاعية فإن "توقيع الحكومة على اتفاقات أمنية مع الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن حققت الأمن والاستقرار لأننا لن نرهن أمن واستقلال الكويت في أيدي جهات أو دول تتلاعب فيه بعد تجربة 2 آب اغسطس 1990، والدروس التي استفدناها منها، ولكننا سنتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة للحفاظ على أمننا واستقلالنا، واضافة إلى هذه الاتفاقات رصدت الحكومة مليارات الدنانير لشراء الأسلحة والمعدات العسكرية لإعادة بناء الجيش ودعم المؤسسات الأمنية والدفاعية في البلاد". واضاف الفضالة ان "الحكومة تقوم بجهود لتدعيم علاقاتها الديبلوماسية مع الدول، حيث نشهد افتتاح العديد من السفارات والقنصليات الكويتية في القارة الآسيوية والقارة الافريقية وأميركا الجنوبية وأوروبا الشرقية. وبسبب هذه الاجراءات استطاعت الحكومة ان تواجه التهديدات العراقية في تشرين الأول اكتوبر الماضي بنجاح أثنى عليه الجميع، من الناحية السياسية والدفاعية". وعن أعمال لجنة تقصي الحقائق قال الفضالة إن اللجنة، وزعت أعمالها على ثلاثة محاور: محور سياسي ومحور عسكري ومحور اعلامي واقتصادي. وشمل المحور العسكري قطاعات الجيش والشرطة والحرس الوطني. أما المحور السياسي فتضمن الديوان الأميري ورئاسة مجلس الوزراء ووزارة الخارجية. وتألف المحور الأخير من وزارة المال والمؤسسات المالية والهيئة العامة للاستثمار ووزارة الاعلام، وقد انتهت اللجنة من إعداد ثلاثة تقارير لكل محور. ونوه بآخر اعمال اللجنة وهو الاجتماع إلى آخر المدعوين، وهو ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله، حيث استمرت الجلسة لأكثر من خمس ساعات، وتم التحقيق معه حول ملابسات الغزو. وعن امكان وجود أدوار مشبوهة لبعض الدول العربية في الغزو قال الفضالة: "لا اريد أن استبق الأحداث فاللجنة ستقدم تقريرها حول جميع الملابسات والتفاصيل. وسيتضمن شهادات لمعظم سفرائنا في الخارج والمتخصصين في الشؤون السياسية في وزارة الخارجية وخارجها وعلى رأسهم النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد، وهي الشهادات التي سلطت الأضواء على جميع التفاصيل التي ستوردها التقارير التي سترفع إلى البرلمان، وستكون هذه التقارير وثائق تاريخية للدولة لتستفيد من دروسها وتعمل الحكومة الحالية والأجيال المقبلة على تلافي الاخطاء التي حدثت". وفي شأن تطبيع العلاقات مع الدول التي ساندت العراق قال الفضالة: "المطلوب من هذه الدول ان تعترف بكافة قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالغزو العراقي للكويت وتدين النظام العراقي وهذه ليست مطالب تعجيزية، ولكن مع الأسف لم تقدم هذه الدول على ذلك". وعن احتمال أن يقوم النظام العراقي بعدوان مشابه للغزو في آب 1990 قال الفضالة ان هذا الأمر "مستبعد حالياً لأن النظام العراقي أصبح الآن مخترقاً لا يستطيع أن يحكم سوى بغداد في النهار، وسقوطه وارد في أي لحظة". وأنهى حديثه بالقول ان "النسيان صعب حالياً لأن الظلم جاء من جار تربطنا به علاقات كثيرة اجتماعية ودينية منذ أمد بعيد، لكن من الصعب أن نمحو جرائم الغزو من ذاكرة المواطن خصوصاً مع استمرار احتجاز النظام العراقي مئات الأسرى الكويتيين وما يسببه ذلك من معاناة للشعب الكويتي". عبدالرضا اسيري وتحدث الى "الوسط" أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت والمستشار السياسي لمجلس الأمة الدكتور عبدالرضا أسيري، فقال: ان الكويت نجحت بعد مرور خمس سنوات على الغزو في أن تستحدث ضمانات دفاعية دولية وذلك بربط مصير الكويت بالعالم الخارجي، وهذا انجاز بحد ذاته، ولكن لا يمكن أن تكتمل هذه الانجازات الا بترتيبات اقليمية تكملها. وهناك تساؤل آخر: هل تمكنت الكويت من تطوير قدراتها التسليحية والعسكرية لمواكبة التحديات؟ هل استوعبت قواتها الأسلحة الجديدة والمعقدة التي اشترتها من الدول الكبرى؟ أم أن تلك المشتريات تمت لأغراض سياسية؟ فأنا أشكك في امكان استيعابها على المدى القريب، وآمل أن توفق الدولة في تأهيل وتدريب القوات المسلحة لمواكبة التطورات في المجال العسكري. وقال الدكتور أسيري: من الناحية السياسية زاد داخلياً مستوى الوعي والادراك السياسي، وأكد لجهة توسيع مشاركة الكويتيين في القرار السياسي، وزيادة القاعدة الشعبية المشاركة فيه بعد منح المتجنسين حقوقهم السياسية، ونأمل أن تلحقها خطوات أخرى كمنح المرأة حقوقها السياسية، وزيادة العناية بحقوق الانسان. "أما الدول الخليجية فعلاقاتنا معها منتظمة، ولكننا يجب أن نعي أن لها مصالح وأولويات تختلف عن مصالح الكويت وأولوياتها. وعلينا أن نعلم ان العالم كله لا يشاركنا آلامنا وآمالنا بالطريقة التي نشعر بها، فظروف تحرير الكويت ليست القاعدة، وانما هي الاستثناء". وأشار الدكتور أسيري الى احتمالات التهديدات العراقية في المستقبل، ورأى "ان هذا الهاجس سيحيط بنا وبتفكيرنا مدة طويلة، لأننا عايشنا هذه التجربة المؤلمة والمريرة، وتعزّز عقدة الحصار من جار لنا غادر. ولا يمكننا الادعاء بانتهاء هذا الهاجس مع انتهاء التهديد الذي حدث في تشرين الأول 1994، واعتقد أن التهديد من العراق سيستمر لأجيال عدة مقبلة. جاسم السعدون وقال الخبير الاقتصادي الكويتي جاسم السعدون ان الوضع الاقتصادي الحالي للكويت ليس "سيئاً" بشكل كبير. وأشار، في مقارنة بين الأوضاع قبل الاحتلال وبعد التحرير، الى وجود تغيرات جوهرية في الاقتصاد الكويتي في معجم المدخرات العامة، وكان ذلك نتيجة تكاليف الحرب واعادة البناء والاعمار، وما حدث من سوء استغلال في الفترة السابقة للاحتلال وأثناءها للاستثمارات الكويتية في الخارج. وأضاف السعدون ان اجمالي المدخرات العامة انخفض من حوالي 100 بليون دولار الى حوالي 35 بليوناً. وأوضح ان الحكومة الكويتية لم تكن مدينة قبل الغزو، الا في حدود ضيقة جداً، غير أن مديونيتها الداخلية والخارجية وصلت أخيراً الى نحو 30 بليون دولار، منها ما يتراوح بين 3 و7 بلايين دولار مديونية خارجية قروض مباشرة، والمديونية الداخلية منها سندات وأذون خزانة بحوالي 2.4 بليون دولار، ومديونيات صعبة تقدر بنحو 5.6 بليون دولار. ويرى السعدون ان من القضايا التي أثرت سلباً في الاقتصاد الكويتي: حجم النفقات العامة الذي تجاوز 4 بلايين دينار كويتي في حين كان يتراوح بين 3 و3.5 بليون دينار خلال السنوات العشر السابقة. وأثر ذلك في عجز الموازنة. وحذر من أن هذا الوضع إذا لم يعالج فسيتحول العجز في المالية العامة للدولة الى عجز مزمن. وأشار السعدون الى عنصر آخر أثر سلباً في الاقتصاد، وهو السياسات المالية التوسعية "غير المبررة" - على حد تعبيره - التي تمثلت في الاجراءات التي اتخذتها الحكومة، وكلفتها 4 بلايين دينار، ومنها اسقاط القروض بكل أشكالها، والغاء الفواتير المستحقة الدفع، وزيادة الرواتب، و صرف فوائد على الودائع خلال فترة الاحتلال. ورأى السعدون ان ذلك لا يعني عدم وجود جوانب ايجابية "اذ أن الكويت أصبح بلداً ديموقراطياً يناقش مشكلاته ويعالجها في العلن وبمشاركة حيوية من قبل صنّاع القرار. وهذا يعتبر الدعامة الأساسية للسير في الاتجاه الصحيح". وأشار الى "انتباه الحكومة الى الهيمنة غير المبررة للقطاع العام على الأنشطة الاقتصادية المختلفة في البلاد ولذلك بدأت اعطاء القطاع الخاص دوراً أكبر، وهذه خطوة أساسية على الصعيدين السياسي والاجتماعي والاقتصادي أيضاً". طلال العيار وقال طلال العيار أمين سر مجلس الأمة وعضو لجنة الشؤون الخارجية البرلمانية ل "الوسط" ان الأحداث التي شهدتها الكويت في اب 1990، وبعد تحريرها من الاحتلال العراقي، "أضحى هناك ترتيب أوضح للبيت الكويتي من الداخل، اذ عادت الحياة البرلمانية ومارس البرلمان دوره في الرقابة والتشريع، واستكمل الضلع الثالث لمثلث العمل السياسي الداخلي، لأن المشاركة الشعبية تعطي بعداً أكبر في ضمان الاستقرار والأمن الداخلي وذلك بعد حصول المتجنسين على حقوقهم السياسية". وأشار الى التعاون العسكري الكويتي مع دول مجلس التعاون الخليجي، وقال: هناك نقطة يجب أن نركز عليها، فنحن - بلدان الخليج العربي - مستهدفون، سواء من العراق أو من دول أخرى، ولذلك يجب أن يكون هناك تنسيق عسكري بين الدول الخليجية على أعلى المستويات، لأن ما يمس أي بلد من دول مجلس التعاون يمس كل دوله. وخير دليل على ذلك هو احداث الغزو التي أثبتت أن الكويت ليست وحدها المستهدفة، بل كل دول المجلس من دون استثناء. وقال النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير المال ناصر الروضان ان الوضع المالي للدولة تحسن، "اذ انخفض حجم العجز المحقق من 5.5 بليون دينار العام 91/1992 الى 1.5 بليون دينار العام 94/1995".