لم يتردّد وزير الخارجية الأردني السيد عبدالكريم الكباريتي في استخدام تعبير "إنجاز خارق"، لوصف ما تحقق في مسيرة العلاقات الأردنية - الاسرائيلية منذ توقيع معاهدة السلام بين البلدين في تشرين الأول اكتوبر الماضي، معتبراً ان ما تحقق حتى الآن "كان أكبر كثيراً ممّا كان متوقعاً في مثل هذه الفترة الزمنية الوجيزة، خصوصاً اذا ما أُخذت بالاعتبار طبيعة الصراع العربي - الاسرائيلي، وقسوته، وتاريخه الدامي على امتداد اكثر من 50 عاماً". وقال الكباريتي، في حوار اجرته معه "الوسط" في مكتبه في العاصمة الأردنية، ان "الطريقة الجديّة والبناءة" التي اتسم بها بناء العلاقات الأردنية - الاسرائيلية خلال الاشهر الماضية يمكن ان تشكّل "المثال والأساس الصالح" لما يفترض ان تكون عليه العلاقات بين اسرائيل والدول العربية خلال "مرحلة الانتقال من التوصّل الى السلام الى مرحلة بناء السلام وتطبيقه، والاستفادة من ثماره". وردّ على الانتقادات التي توجّه احياناً الى عملية السلام على المسار الأردني - الاسرائيلي، لجهة تعجُّل عمّان التوصّل الى المعاهدة وشروعها في تطبيع علاقاتها مع اسرائيل بالقول: "قد يكون هناك استعجال من جانب الأردن، لكنّه نابع من مبرّرات موضوعية وعملية، تتعلّق بخصوصيات أردنية لها مساس بأمن البلاد الاستراتيجي والوطني. وعندما يتعلّق الأمر بالاستراتيجية الأردنية فالمبدأ الثابت هو ان الاولوية القصوى يجب ان تكون دائماً مصلحة الوطن. وقد اعتبر الأردن ان مصلحته تكمن في خيار السلام، ولذلك اتخذ ذلك الخيار، وشرع في تطبيقه دون تردّد او تلكؤ". وأشاد وزير الخارجية الأردني بما سماه الرغبة الحقيقية في التوصّل الى نتائج ايجابية، التي قال انها بدأت تميّز المسارات الأخرى في عملية السلام، خصوصاً المسار السوري، معرباً عن اقتناعه بأن "قطار السلام بدأ يصعد الى قمة الجولان، وسيصل اليها في نهاية المطاف، وان ببطء". وشدّد على تمسك الأردن بموقفه التقليدي من ان جوهر الصراع العربي - الاسرائيلي كان ولا يزال القضية الفلسطينية. وفي ما يأتي اجابات الوزير الكباريتي عن اسئلة "الوسط": كيف تقوّمون المرحلة الحالية من السلام الأردني - الاسرائيلي؟ - نحن نعتبر ان ما تحقق حتى الآن فعلاً انجاز خارق، وأكبر كثيراً ممّا كان متوقعاً في فترة وجيزة كهذه. واذا ما اخذنا بالاعتبار العداء المستحكم، وتاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي، وطبيعته الدامية على امتداد اكثر من 50 عاماً، فان ما تمّ حتى الآن في العلاقات الأردنية - الاسرائيلية يمكن ان يشكل في نظرنا المثال والأساس الصالح لما يفترض ان تكون عليه العلاقات بين اسرائيل والدول العربية، خلال مرحلة الانتقال من التوصّل الى السلام، الى مرحلة بناء السلام وتطبيقه والاستفادة من ثماره بالنسبة الى جميع الفرقاء في المنطقة. لكن هناك معارضة في الأردن لهذا السلام، ولخطوات التطبيع الناشئة عنه... - نعم، هناك معارضة في الأردن. تماماً مثلما هناك معارضة للسلام في اسرائيل. ونحن نرى ان المعارضة ظاهرة صحيّة، اذ من الطبيعي ان تكون هناك موالاة، وأن تكون هناك معارضة، في مجتمع ديموقراطي تعددّي. لكنني لا أعتقد ان هذه المعارضة يمكن ان تشكّل عائقاً جديّاً امام وجه السلام. ويمكن ان نقول ان المجتمع الأردني يتوزّع حالياً على ثلاث فئات رئيسية. فهناك أقليّة تعارض السلام مع اسرائيل من حيث المبدأ، وهناك في المقابل أقلية متحمسة للسلام وتؤيده دون تحفّظ. وبين هذه وتلك هناك الغالبية الكبرى المؤيدة للسلام بتعقّل، وهدوء، إنطلاقاً من نظرتها الى مصالح الوطن ومستقبله. وهذه الغالبية تشكّل في نظري الاساس السياسي والشعبي للموقف الأردني من عملية السلام، ومن العلاقات مع اسرائيل. قد يتهّم البعض الحكومة الأردنية باستعجال التطبيع، وباضفاء نوع من الحرارة الزائدة على العلاقات مع اسرائيل. فما هو ردّكم على ذلك؟ - بنظرنا ان الحاجز الأساسي الذي يفصل بين الاسرائيلي والعربي نفسي، وان القضايا الأخرى تصبح مجرّد قضايا فنية وتفصيلية عندما يتفق على المبادئ العامة للسلام والتعايش المشترك. وهناك دائماً طريقتان لازالة الحواجز النفسية، فإما التدرّج والتعوّد ببطء، وإما اتّباع اسلوب الصدمة لاختراق تلك الحواجز. وقد اخترنا نحن في الأردن اسلوب الصدمة لأسباب نعتبرها في محلها. نعم، قد يكون هناك استعجال من جانب الأردن، لكنه استعجال نابع من مبرّرات موضوعية وعملية، تتعلّق بخصوصيات أردنية لها مساس بأمن البلاد الاستراتيجي والوطني. وعندما يتعلّق الأمر بالاستراتيجية الأردنية، فان المبدأ الثابت هو ان الأولوية القصوى يجب ان تكون دائماً مصلحة الوطن. وقد اعتبر الأردن ان مصلحته تكمن في خيار السلام، لذلك أخذ بذلك الخيار، وشرع في تطبيقه، دون تردّد او تلكؤ. وكان خيارنا - في الأردن - منذ البداية السلام الحقيقي والفعلي، وليس السلام البارد. وهذا تحديداً ما نسعى الى تحقيقه. الفلسطينيون والكونفيديرالية الا تعتبرون ان الوضع الخاص الذي يتميّز به الأردن، لجهة تركيبته السياسية والاجتماعية والجغرافية، قد يجعل من الصعب تحقيق هذا الهدف، على الأقل بمثل هذه الوتيرة السريعة؟ الواقع ان التحدّث عن وضع أردني خاص ملاحظة في مكانها. لكنّ هذه الخصوصية تعطي الأردن في نظرنا تميّزاً في وضعه، ودوره. وهذا ما طبّقناه في مسارنا السلمي، اذ خضنا ذلك المسار باستقلالية كاملة، نابعة من هذه الخصوصية بالذات، وهو ما نعتزم تطبيقه على صعيد الدور الأردني المستقبلي في المنطقة. فنحن نؤمن بأن التعدّدية الأردنية لا يجب ولا يمكن ان تكون عامل توتّر أو تفجّر، بل هي تعدّدية تثري الأردن وتغني الحياة فيه، وتساهم في تمكينه من القيام بدور متميّز في المنطقة بأسرها. وأرى ان دور الأردن المستقبلي سيكون حضارياً متميزاً نابعاً من هذه التعدّدية الغنية، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي والاجتماعي. وهذا ما تثبته فعلاً وقائع الحياة السياسية في الأردن حالياً، فمن حرية الرأي الى الديموقراطية، واحترام حقوق الانسان، وحريّة الاقتصاد، وتكافؤ الفرص، والقوانين الاصلاحية التي تخضع للنقاش. لكل ذلك في نظرنا منطلقات تعكس النظرة التي ننشدها، والدور الذي نريد للأردن ان يلعبه مستقبلاً. وعلى كل حال، نحن مؤمنون بأن الوقت سيساهم في تكريس هذه القناعات، وبأن المعاهدة الأردنية - الاسرائيلية حققت توازناً متكافئاً بين مصالح البلدين وأهدافهما. ويبقى، طبعاً، ان عدالة الحلّ السلمي تتصل اتصالاً مباشراً بحل القضية الفلسطينية، وشمولية الحلّ تتصل مباشرة بالتسوية على المسارين السوري واللبناني. وهكذا، عندما تتحقق عدالة الحلّ وشموليته، لن يكون هناك مجال كبير لمعارضة الحلّ. اما بالنسبة الى مقولة ان التطبيع يشكل خطراً على العرب فنحن لا نوافق عليها اطلاقاً، لأننا نرى ان لا خوف على العرب من التطبيع، بل العكس هو الصحيح. كيف ترون اذن مستقبل العلاقة الأردنية - الفلسطينية؟ وهل يعتبر الأردن ان الكونفيديرالية تشكل اساساً صالحاً للحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، علماً أن ثمة تياراً قوياً في اسرائيل نفسها يدعو الى مثل هذا الحل؟ - لا شك في ان الأردن يعتبر ان جوهر الصراع العربي - الاسرائيلي كان ولا يزال القضية الفلسطينية. وهذا موقف أردني تاريخي وثابت لم يتغيّر، ولن يتغيّر مطلقاً. وندرك أن المسار الفلسطيني يظل الاصعب، والأكثر حساسية، وتعقيداً. والأردن يدعم السلطة الوطنية الفلسطينية دون تحفظ. ونؤمن ايماناً راسخاً بأن الحلّ النهائي والشامل للصراع لا يمكن ان يتم الا عند اعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، تضمن تلك الحقوق وترعاها. كانت لنا بعض التحفظات عن اتفاق اوسلو، خصوصاً طابعه المرحلي في ما يتعلق بالوضع النهائي للأراضي المحتلة، ومدينة القدس بالذات، لأننا كنا نخشى ان تؤدي تلك المرحلية الى تصعيب الوصول الى الوضع النهائي المنشود. لكننا تجاوزنا ذلك الآن، لأن المهم بالنسبة الينا دعم الاخوة الفلسطينيين وقيادتهم الشرعية المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، ومساعدتها في جهودها الهادفة الى تحقيق اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي، وتوسيع اطار السلطة الوطنية، وصلاحياتها، واجراء الانتخابات التي ستوفّر للفلسطينيين القدرة على الانتقال الى مرحلة المفاوضات على الوضع النهائي بثقة اكبر. ونرى ان الجو العام، حتى في اسرائيل نفسها، بدأ يميل نحو الاقتناع بأن لا حلّ للصراع من دون اقامة دولة فلسطينية مستقلة، تؤمّن حقوق الشعب الفلسطيني، وتحقق طموحاته. عندما يتم ذلك يمكن استفتاء الشعبين الأردني والفلسطيني للبحث في أي ترتيبات أخرى، داخلية أو اقليمية، لتقوية الدولة الفلسطينية، وتكريس العلاقة التاريخية المتميزة بين الشعبين، والاتفاق ايضاً على وضع القدس التي نعتبرها لبّ الحلّ، وأساسه المستقبلي. وما هي المعلومات المتوفرة لديكم عن المسار السوري - الاسرائيلي، ومعه المسار اللبناني، خصوصاً ان ثمة مؤشرات نحو الدخول في المفاوضات الجوهرية في شأن اسس التسوية مع اسرائيل؟ - الأمر يدعو الى التفاؤل. ليست لدينا معلومات دقيقة، الا بالقدر الذي ينقل الينا عن طريق الولاياتالمتحدة واسرائيل. لكن انطباعنا ان الأمور تسير في الاتجاه الصحيح. والموقف السوري بالنسبة الينا في الأردن كان دائماً واضحاً، لجهة ان سورية اختارت السلام خياراً استراتيجياً، وأن معارضتها لبعض الخطوات في العملية السلمية، بين الفينة والأخرى، لم تكن معارضة آيديولوجية، اذا صحّ التعبير، بل معارضة ناشئة عن موقف تفاوضي يهدف الى تحسين شروط التسوية مع اسرائيل، وهو أمر مشروع ومبرّر ومحبّذ. والموقف السوري معروف، وهو ان كلّ الأرض في مقابل كلّ السلام، والآن تجري المفاوضات لتحديد سبل الوصول الى هذا المبدأ. ولذلك، نعتقد ان قطار السلام بدأ يصعد الى قمة الجولان، وسيصل اليها في نهاية المطاف، وان ببطء. وفي نظرنا، سيكون من شأن التوصّل الى اتفاق امني بين سورية واسرائيل جعل المسائل الأخرى المتعلّقة بالتسوية مجرّد تفاصيل، وان استغرق التوصّل الى اتفاق في شأنها بعض الوقت. وينطبق الأمر نفسه على المسار اللبناني - الاسرائيلي الذي سيلحق في الضرورة بالمسار السوري، خصوصاً ان المسار اللبناني - الاسرائيلي حيّد نفسه الى حين التوصّل الى اتفاق على المسار السوري - الاسرائيلي. حديثكم يعكس قدراً كبيراً من الارتياح الى الاتجاه الاستراتيجي العام لمسار التسوية، ومستقبل السلام في المنطقة. هل هذا الشعور في محلّه؟ - نعم، نحن مرتاحون جداً الى الاتجاه العام الذي تسير فيه الأمور. فما تحقّق حتى الآن ليس قليلاً. صحيح اننا واجهنا عوائق ومشكلات كانت تبرز بين الحين والآخر. ولعلّ أبرز الامثلة عليها كان قرار الحكومة الاسرائيلية قبل مدة مصادرة أراضٍ عربية في القدس. لكنّ الطريقة التي تمّت بها معالجة تلك الأزمة، وتراجع الحكومة الاسرائيلية عن ذلك القرار، والرغبة الحقيقية في التوصّل الى نتائج ايجابية على مختلف مسارات العملية السلمية، كلّها مؤشرات تدل على الجديّة التي تميّز المساعي الجارية حالياً، وان السلام بات هدفاً استراتيجياً شاملاً بالنسبة الى جميع الأطراف. وهذا ما يدعونا الى الشعور بالارتياح، لكنّه ارتياح متعقل وهادئ ينطلق ايضاً من معرفتنا بالصعوبات التي لا تزال موجودة، والتي لا بد من ان تبرز هنا وهناك. لكنّنا مقتنعون بوجه عام بأن عملية السلام ستصل في نهاية المطاف الى أهدافها. العلاقات السعودية - الأردنية وهل يقابل هذا الارتياح الى مستقبل السلام ارتياح مماثل في ما يختص بمستقبل علاقات الأردن العربية، لا سيما مع الدول التي شهدت معها العلاقات فتوراً وتأزماً ابّان حرب الخليج؟ - استطيع القول بكل أمانة اننا، في الأردن، تجاوزنا المرحلة الحرجة التي مرّت بها علاقاتنا مع بعض الاشقاء العرب، خصوصاً في الخليج، نتيجة احتلال العراق للكويت. فالأردن كان وسيبقى عربي الوجه، وعربي الضمير، وعربي التوجّه، لأن هذا هو خيارنا، وقدرنا. ولا ظهير لنا إلا الظهير العربي، ولا هدف لنا سوى الهدف العربي. ونعتقد ان علاقاتنا حالياً مع اشقائنا باتت افضل ممّا كانت عليه منذ فترة. فالتزامنا الاستراتيجية العربية، والأمن القومي العربي، والمصلحة العربية العليا، مبدأ ثابت في سياستنا، وهو ما يتضح باستمرار. وأود الاشارة في صورة خاصة، الى علاقاتنا مع المملكة العربية السعودية التي بمستطاعي ان اقول انها شهدت اكثر من انفراج. ونحن في الأردن نعبّر دائماً عن شكرنا وتقديرنا العميقين للعناية والرعاية التي يلقاها المواطنون الأردنيون في المملكة الذين لم تتعرض مصالحهم لأي مضايقة خلال المرحلة الحرجة التي مرّت بها علاقات البلدين الشقيقين. على العكس، هناك الآن ازدياد في حجم التعاون الاقتصادي والتجاري، وفي أعداد الأخوة السعوديين الذين يفدون الى الأردن للزيارة والاقامة. والآن، وبعد ان قبل ترشيح السفير الأردني الجديد لدى الرياض، وعلى أمل ان يرشح سفير سعودي جديد في عمّان، نعتقد انه لا بدّ لهذا الانفراج ان يتوّج بلقاء قريب بين خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز والملك حسين. والى ان يتم هذا اللقاء، فان الجهد الديبلوماسي سيبقى منصبّاً على توسيع مساحات التلاقي، وتكريسه بين البلدين.