بعد القرار الأميركي المثير بفرض حظر اقتصادي وتجاري شامل على ايران دخل الصراع القائم بين واشنطنوطهران منذ انتصار الثورة الاسلامية الايرانية عام 1979 مرحلة أكثر خطورة. وأصبح السؤال المطروح بقوة هو: هل أصبحت المواجهة العسكرية بين الولاياتالمتحدةوايران وشيكة؟ وهل أصبح على دول الخليج التي نكبت بحربين اقليميتين داميتين في أقل من 12 سنة ان تهيئ نفسها لصراع عسكري جديد في منطقتها الحيوية للأمن والاقتصاد العالميين؟ ما أثار الأسئلة ليس فقط الخطوة الجديدة التي تعتبر أكبر تصعيد لعملية الضغط المباشر وغير المباشر التي تمارسها الولاياتالمتحدة على ايران "منذ اليوم الأول للثورة ومن أول عهد جيمي كارتر مروراً برونالد ريغان وانتهاء ببيل كلينتون" كما قال ل "الوسط" مسؤول ايراني كبير. ولكن أثارتها أيضاً مجموعة المؤشرات والتصريحات التي لعبت كلها في اتجاه الايحاء بأن الصراع العسكري لم يعد مستبعداً بعد 16 عاماً من الحرب الباردة وحملات الاعلام والضغط النفسي والاقتصادي. وتمثلت هذه المؤشرات لدى الجانب الأميركي في الاعلان المتوقع الذي ستحول القيادة السياسية والعسكرية للولايات المتحدة بمقتضاه قواتها البحرية في مياه الخليج والبحار القريبة منه الى أسطول "خامس" كامل له قيادته وتجهيزاته الجوية والبرية والبحرية. والقرار الذي يذكّر باعلان الأسطول السادس في البحر المتوسط في حرب حزيران يونيو 1967 موجه، في نظر المصادر الخليجية المطلعة التي خصت به "الوسط"، الى ايران في الدرجة الأولى وليس الى أي بلد آخر في المنطقة، بما في ذلك العراق الذي لا يزال هو الآخر في حالة مواجهة ولكن سياسية مع الأميركيين منذ حرب الخليج الثانية. أما على الجانب الايراني فإن المؤشرات التي شهدتها "الوسط" في طهران كثيرة، من بينها اصرار بعض القادة الدينيين والسياسيين على تشجيع تظاهرات الطلبة الى مقر مجلس الشورى الاسلامي البرلمان للاحتفال بذكرى "عملية طبس" التي أمر بها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر لانقاذ الرهائن الأميركيين في السفارة الأميركية في طهران عام 1980 والتي فشلت فشلاً ذريعاً في موقع في الصحراء الايرانية يعرف باسم طبس، واستخدام بعض هؤلاء القادة، مثل روحاني النائب الأول لرئيس مجلس الشورى، المناسبة لتأكيد سياسة صدامية مع الولاياتالمتحدة. ومن بينها أيضاً اعلان قائد قوات حرس الثورة الايراني محسن رضائي في اليوم التالي لاعلان كلينتون الحظر "ان المواجهة العسكرية مع الولاياتالمتحدة لا مفر منها وان على القوات الايرانية الاستعداد لحرب قال ان كل المؤشرات تظهر أن الولاياتالمتحدة تقوم بالتحضير لها. كل هذه المظاهر التي توحي باحتمال حدوث حرب أو صدام عسكري أميركي - ايراني في المدى المنظور على كثرتها لا تصمد أمام وقائع وحقائق وآراء أكثر صدقية ومسؤولية أتيح ل "الوسط" الاطلاع عليها في العاصمة الايرانية وكلها ترجح عدم وجود تهديد جدي بنزاع عسكري قريب في منطقة الخليج. وبينما تعتبر خطوة واشنطن بتحويل قواتها البحرية في الخليج الى مسمى استراتيجي جديد الأسطول الخامس تصعيداً لا يمكن اغفاله الا أنه لا يعني قراراً بالحرب وقد لا يزيد، كما قال مسؤول خليجي طلب عدم ذكر اسمه، عن عملية تحذير صارم للايرانيين بأن واشنطن جادة في موقفها القاضي بالضغط عليهم لمنع ما تقول الولاياتالمتحدة انه دعم ايراني للارهاب الدولي وانخراط في عملية غير مشروعة لبناء ترسانة عسكرية نووية نفت ايران ووكالة الطاقة الذرية وجود مؤشرات على وجودها. كذلك فإن تصريحات أعضاء البرلمان من رجال الدين الايديولوجيين وتصريحات قائد الحرس الثوري لا تمثل في واقع الأمر سياسة رسمية حقيقية للدولة الايرانية بدليل أن هذه التصريحات لم تصدر عن مسؤول "حكومي" سواء في مؤسسة الرئاسة أو في مؤسسة وزارة الخارجية أو مجلس الأمن القومي، وهي الجهات المعنية أساساً باعلان مواقف السياسة الخارجية الايرانية. فهي في واقع الأمر مجرد مثال جديد، كما يقول الدكتور سيماتي استاذ العلوم السياسية في مركز دراسات الشرق الأوسط في طهران على التوزع الحاصل في السلطة السياسية في ايران، خصوصاً بعد وفاة الامام الخميني والذي يجعل من تعدد الأصوات في مواقف مختلفة واحياناً متناقضة حالة معروفة، سواء في السياسة الداخلية أم الخارجية. وعلى رغم ان الدكتور محمد جواد لاريجاني عضو مجلس الأمن القومي الأعلى ونائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الايراني يؤيد حدوث هذا التوزع في مراكز القوة السياسية في البلاد وبأن ذلك يحدث تأثيرات سلبية على كل من السياسة الخارجية والداخلية في بعض الأحوال الا أنه يشدد على أنه لا ينبغي الاعتداد الا بالمواقف الرسمية التي تعلنها الحكومة الايرانية. استبعاد المواجهة العسكرية عنصر الاتفاق الواسع النطاق في صفوف النخبة الايرانية، سواء الحاكمة أو المعارضة أو المثقفة، هو استبعاد احتمالات اندلاع المواجهة العسكرية في المرحلة القريبة Short Run. ففي حديث مع الدكتور لاريجاني عضو مجلس الأمن القومي الأعلى المسؤول رسمياً عن صياغة عناصر السياسة الخارجية الايرانية استبعد "وجود أي تهديد عسكري جوهري أو قائم تجاه الأمن القومي الايراني من أي جانب، بما في ذلك الولاياتالمتحدة. وحتى التهديد بالحظر النفطي والتجاري الشامل لا يعتبر في نظر لاريجاني "تهديداً عسكرياً جدياً ولكن مجرد واحد من الأعمال الاستفزازية والسياسة العدائية التي تمارسها الولاياتالمتحدة حيال ايران منذ قيام الثورة الاسلامية التي أطاحت نظام الشاه الموالي لواشنطن". وليس هذا رأي السلطة ولكن أيضاً رأي فريق من المعارضة. فالدكتور ابراهيم يازدي رئيس حزب الحرية المحظور ووزير الخارجية في احدى المراحل الأولى من عمر الثورة الاسلامية يتفق مع الرأي السابق ويستبعد بقوة احتمالات قيام الولاياتالمتحدة بتوجيه ضربة عسكرية الى ايران في المدى المنظور. وعلى رغم ان الأكاديميين وعلماء السياسة الايرانيين أكثر حذراً في درجة التقليل من احتمال الخطر العسكري المباشر إذ لا يستبعدونه كلية، إلا أنهم يضعون مجموعة من النتائج والعواقب والمحاذير تصب كلها في خانة ان المواجهة العسكرية ليست مرجحة. ووضع استاذا العلوم السياسية هادي سيماتي وناصر هاديان في جامعتي بهشتي وطهران مجموعة من الشروط الصعبة التحقيق في وقت قصير لكي يندلع النزاع العسكري بين ايرانوالولاياتالمتحدة. من هذه الشروط أن تتحول ايران الى قضية ساخنة من قضايا السياسة الداخلية والانتخابات الأميركية أو أن تقوم ايران بعمل ما يستطيع الأميركيون تصنيفه كعمل واضح من الارهاب الدولي، كانفجار اوكلاهوما أو انفجار لوكربي. ويعتبر هؤلاء الأكاديميون ان الرئيس هاشمي رفسنجاني، كزعيم براغماتي، يتصرف بحرص شديد وسيستمر في ذلك في المرحلة المقبلة لتجنب نزاع مباشر مع الولاياتالمتحدة، لافتين الى أن وجود حالة يمكن معها تبرير نشوب الحرب أو تتخذها واشنطن ذريعة أمام المجتمع الدولي لتوجيه ضربة الى النظام الاسلامي في ايران يصعب توافرها بسهولة. واضافة الى عدم توافر شروط الحرب أو مبرر الهجوم فإن الدوافع أيضاً ليست قوية، كما يجادل معارض ايراني قال ان الحكومة الأميركية لا تريد في الواقع قلب الحكومة الايرانية، اذ لا يمثل ذلك حتى الآن على الأقل مصلحة حيوية أو ضرورة حيوية لها. كما أنه لم يثبت بشكل قاطع أنه يمثل مصلحة واضحة لأي طرف آخر. ويوافقه في ذلك البروفسور سيماتي الذي رأى أن الادارة الأميركية لا تريد حرباً مع ايران ولا تريد القضاء على النظام الاسلامي بنفسها بقدر ما تريد ممارسة ضغوط مؤثرة لتصحيح وتعديل السلوك الايراني الاقليمي والدولي بما تراه غير ضار بمصالحها في الخليج أو الشرق الأوسط كتخفيف معارضتها لعملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط وانهاء دعمها لحزب الله في لبنان... الخ. حرب خاسرة وأشار البروفسور هاديان الى أنه اضافة الى "ضعف" الشروط والدوافع فإن "خطورة العواقب" تعتبر عنصراً آخر يقلل من احتمالات العمل العسكري المباشر من قبل الولاياتالمتحدة تجاه ايران. فالنتائج التي يمكن أن يحدثها هجوم على ايران المعبأة ايديولوجياً والممتدة جغرافياً على مساحة تزيد عن 1.6 مليون كلم مربع وتجاور أكثر من عشر دول وتمتد حدودها جنوباً من غرب آسيا عند الخليج وشمالاً حتى حدود أوروبا مع روسيا مع عمق بشري يزيد عن 60 مليون نسمة هي نتائج يصعب تماماً التكهن بها وبالمخاطر التي تتولد عنها. وبالنسبة الى منطقة تعيش عدم استقرار، في افغانستان وباكستان ودول آسيا الوسطى مثل طاجيكستان واذربيجان، فإن المبادرة بشن حرب جديدة على ايران هو خيار قد لا تستطيع الولاياتالمتحدة كقوة عظمى دولية مسيطرة أن تقبله في ظل سعيها للسيطرة على الصراعات الاقليمية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. استاذ ايراني بارز آخر يشرف على احدى أهم الفصليات السياسية الاكاديمية تحدث الى "الوسط" مضيفاً أسباباً أخرى الى التعقيدات والصعوبات التي تواجه اختيار واشنطن الحرب مع ايران. فهو لا يستبعد هذا الاختيار كلية، لكنه يعتقد بأن الأميركيين اذا فكروا في ان الحرب لن تحقق النتيجة التي يسعون اليها فإنهم لن يقدموا عليها. وهو أولاً يعتقد بأن القرار إذا اتخذ أميركياً فسيكون في الغالب في صورة قصف جوي مركز ربما طوال أيام عدة على مناطق وتجمعات ايرانية. كما ان الأميركيين قد يتورطون مباشرة ويفكرون في استخدام اسرائيل الموجودة في المنطقة للقيام بهذا العمل ضد ايران. ومن المؤكد، حسب هذا البروفسور، انه سيكون هناك دمار كبير وضحايا كثيرون، لكن سيكون صعباً، ان لم يكن مستحيلاً، هزيمة الدولة الاسلامية في ايران من خلال مثل هذا العمل العسكري. ويرجع ذلك في رأيه الى وجود جيل ثوري كامل تربى في ظل الثورة ويشعر بأن مصيره مرتبط ببقاء هذا النظام وعندما سيحدث الضغط الذي سيخلقه العمل العسكري الخارجي فإن الدولة ستصبح موحدة وينسى الايرانيون الأزمة الحالية وضعف الاقتصاد وعدم كفاءة الحكومة وحرية النظام السياسي ويلتفون حول الحكومة مؤكدين شرعيتها للدفاع عن نفسها. واضافة الى القاعدة السياسية الواسعة للنظام في بلد يقع نصف سكانه تحت سن الثلاثين فهناك كما يقول البروفسور سيماتي قوات الحرس الثوري وغيرها من الفئات الحسنة التنظيم التي يرتبط وجودها بالدولة الراهنة وستعمل على مقاومة أي محاولة لاسقاطها. بعبارة أخرى فإن عملاً عسكرياً أميركياً سيؤدي الى عكس أهدافه اذ سيقوي الحكومة الاسلامية ذات التوجه الثوري في طهران بل والى أكثر من ذلك، الى دعم الاتجاه الراديكالي في هذه الحكومة التي كان الرئيس البراغماتي الحالي رفسنجاني قد تمكن جزئياً من الحد من نفوذه. الايرانيون "يبكون" بحبوحة عهد الشاه لكنهم يؤكدون شرعية النظام "هذا هو أفضل وقت تزور فيه ايران حيث الشهر الثاني من فصل الربيع" قالها لي ديبلوماسي مقيم في "تهران" كما ينطقها الايرانيون مشيراً من نافذة مكتبه الى المساحة الهائلة الجميلة من الأشجار والخضرة التي تملأ المدينة. وكان هذا القول صحيحاً من الناحية "المناخية" لكنه لم يكن كذلك من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، اذ كان مطلع شهر نيسان ابريل شهد أخطر تظاهرات عرفتها ايران منذ انتصار الثورة الاسلامية على الشاه في عام 1979، فخرج عمال ضاحية اسلام شهر الصناعية شمال العاصمة للاحتجاج على مضاعفة أسعار الوقود وأحرقوا البنوك ووسائل النقل العام ومحطات البنزين وهو الاحتجاج الذي انتهى بعد مصادمات دامية مع قوات الأمن وقوات الحرس الثوري الى سقوط عشرة قتلى على الأقل. كان أخطر ما في هذه الاحتجاجات ان من قام بها هم "المستضعفون" الذين كانوا الوقود الذي أنجح الثورة قبل 16 عاماً والذين قالت الثورة منذ البداية - ولا زالت - انها قامت لانصافهم من تاريخ مثقل بالظلم والكبت في عهد الشاه السابق". كما كانت مؤشراً الى الأزمة الاقتصادية الحادة التي تشكل الهاجس المسيطر على الشارع والنظام السياسي في آن واحد، وهو ما يلمسه الزائر للوهلة الأولى. أول سائق تاكسي ركبت معه عقد المقارنة التي كررها تقريباً جميع من التقتهم "الوسط" بعد ذلك، وهي المقارنة بين أوضاع الاقتصاد ومستوى المعيشة قبل الثورة وبعد الثورة: "الأوضاع قبل الثورة كانت أفضل، فالأموال كانت كثيرة والأسعار رخيصة والتومان العملة الايرانية كان أكثر قوة". وهي مقارنة عقدها موظف كبير يعمل منذ 25 سنة في احدى أكبر الشركات العامة في ايران "فرع اصفهان"، عندما قال: "كنت أحصل قبل الثورة على ما يساوي ألف دولار أميركي كراتب شهري وكنت في سعة من العيش وفي الوقت نفسه أوفر من راتبي ما يساوي نحو 800 دولار شهرياً. وفي الوقت الحالي بعد الثورة لا أحصل الا على أقل مما يساوي 200 دولار كراتب لا تكفي لتوفير الحاجات الأساسية". هذا الانخفاض الهائل في مستويات الدخل الحقيقي والمعيشة لشرائح مهمة في المجتمع الايراني يعود الى الانهيار الهائل في سعر التومان أمام الدولار الأميركي اذ قفز الأخير من 7 تومانات في عهد الشاه الى 500 تومان في الاسبوع الأخير الشهر الماضي. ومن المفارقات أن سعر التومان انخفض أمام الدولار في أواخر نيسان ابريل الماضي بما يساوي مئة تومان مرة واحدة خلال ثلاثة أيام فقط في الوقت الذي كان الدولار في جميع أنحاء العالم يسجل أحد أكثر معدلات هبوطه منذ الحرب العالمية الثانية. مواطن ايراني التقته "الوسط" في أحد فنادق الخمسة نجوم في قلب طهران لخص القضية بشكل ساخر عندما أشار الى عبارة "الموت لأميركا" المكتوبة منذ أوائل عهد الثورة على الحائط المقابل لمكتب الاستقبال في الفندق في الوقت الذي تؤكد فيه ادارة الفندق للنزلاء الأجانب ان دفع اجرة الاقامة بالعملة الايرانية غير مقبول وان الدفع لا بد أن يكون بالدولار الأميركي. أسباب الأزمة الاقتصادية واستمر ارتفاع سعر الدولار بشكل مذهل على رغم محاولة الحكومة كبحه عن طريق ضخ بضعة مليارات من الدولارات قدرتها مصادر ديبلوماسية غربية بحوالي أربعة مليارات دولار. لكن ارتفاع سعر الدولار وهبوط قيمة العملة الايرانية ليس الا الجزء الظاهر من جبل الجليد العائم الذي يضم كذلك ارتفاعاً هائلاً لمعدلات التضخم ولأسعار المساكن والسلع الأساسية والغذائية بصورة وضعت شرائح مهمة من المجتمع الايراني أمام شعور يومي مستمر بالضائقة والأزمة لخصها أحد المواطنين من محدودي الدخل يقيم في الضاحية الفقيرة في جنوبطهران بقوله: "أسعار الفاكهة واللحوم أصبحت بعيدة عن متناول كثير منا بحيث أصبح شراء احداها شهرياً غنيمة كبيرة". وشاهدت "الوسط" ضابطاً من رتبة عالية يدخل أحد محال الفاكهة "المتوسطة" في غرب العاصمة ويخرج بلفافتين في احداهما كيلو واحد فقط من الموز، ومثله من الخيار. "الاسلوب الذي طبقت به الحكومة سياسة التحرير الاقتصادي هو سبب رئيسي للأزمة الاقتصادية أو للوضع الاقتصادي غير الجيد الذي تعيشه ايران وكثير من طبقاتها الاجتماعية" هكذا قال ل "الوسط" أكاديمي ايراني في جامعة طهران مؤيد للدولة. وتشمل أخطاء هذا الأسلوب أولاً السرعة الفائقة في تطبيق برنامج للتخصيص واطلاق قوى السوق في مجتمع تمتع باستمرار حتى في عهد الشاه بدور مهيمن للدولة على الاقتصاد، وثانياً فتح الباب من دون قيود للاستيراد بما في ذلك السيارات والأجهزة الالكترونية حيث تجد أحدث السيارات الأوروبية واليابانية وأجهزة التلفزيون والفيديو وأغلى العطور في واجهات المحلات خصوصاً في وسط المدينة وشمالها الذي يضم الطبقة الغنية. إلا أن اقتصادياً ايرانياً يعارض جزئياً هذا الرأي ويرى أن الأزمة لا تعود أساساً الى خطأ السياسة نفسها، فهي صحيحة بل وضرورية لايران وهي عادة ما تجلب نتائج اجتماعية سلبية في المدى القصير وانما تعود بشكل أساسي الى عيبين رئيسيين: الأول هو وجود "أزمة كفاءة" في ادارة الاقتصاد حيث لا توجد عناصر مؤهلة كافية وإذا وجدت فإن الدولة والمؤسسات الاقتصادية لا تستخدمها وتستخدم العناصر محل الثقة عديمة الكفاءة والخبرة. والثاني هو عدم فاعلية نظام "التوزيع" الايراني، الأمر الذي يؤدي الى عدم عدالة واضح في توزيع عوائد التنمية على الفئات الاجتماعية المختلفة. ويقول بروفسور للعلوم السياسية في جامعة طهران ان سوء نظام التوزيع وراء زيادة النصيب الذي تحملته طبقات معينة من تطبيق سياسة التحرير الاقتصادي في عهد الرئيس رفسنجاني، خصوصاً الطبقة الوسطى الحديثة التي يرى أنها أكثر الفئات تضرراً من مرحلة ما بعد الثورة، وتشمل هذه الفئة شريحة اجتماعية واسعة تضم موظفي الحكومة والعمال الصناعيين. وربما يفسر هذا الرأي لماذا خرجت أولى التظاهرات الحقيقية ضد حكومة من حكومات ما بعد الثورة من ضاحية اسلام شهر العمالية. ولا يحصل أستاذ الجامعة على أكثر من 50 أو 60 ألف تومان أي حوالي 120 - 130 دولاراً، يقول هذا الأكاديمي ان أكثر من ثلثها يذهب الى ايجار المسكن. أما المستفيدون فهم الطبقة الوسطى التقليدية من أصحاب المتاجر وتجار "البازار" التقليدي الشهير في ايران، أصحاب الحلف التاريخي مع رجال الدين في ايران قبل وبعد الثورة. ولكن رجل الشارع العادي يضيف الى ما يقوله الاقتصاديون والأكاديميون عاملاً آخر هو وجود فساد واستغلال نفوذ من قبل عدد محدود من عناصر النخبة الادارية والحكومية. مواطن قال ل "الوسط" ان عملية النصب على بنك صادرات ايران التي قام بها ثلاثة أشخاص قريبين من أحد أبرز عناصر النخبة في ايران ما بعد الثورة والتي قدرت بحوالي 123 مليار تومان هي مجرد مثال، أما ارتفاع أسعار الدولار على رغم ضخ الحكومة مليارات الدولارات لكبح جماحه فهو مثال أوضح على وجود مستفيدين من داخل الجهاز الحكومي وخارجه من عملية بيع وشراء الدولار الذي أصبح له أكثر من عشرة أسعار في ايران. ان ما يجعل الأزمة الاقتصادية هاجساً رئيسياً في ايران ليس فقط كونها هماً حياتياً يومياً للعديد من الشرائح الاجتماعية ولكن أيضاً انها أصبحت، خصوصاً بعد التظاهرات العمالية، مصدراً لعدم الاستقرار الاجتماعي ومؤشراً الى تآكل صدقية الحكومة في الشارع الايراني. شاب تخرج من الجامعة من أحد أقسام آداب اللغات الأجنبية عبّر عن ذلك بعد اشارة مريرة الى عدم قدرته وكثير من خريجي الجامعة على الحصول على عمل وعدم أمل الشباب في الزواج وتدبير تكاليفه قبل سن الثلاثين أو الخمسة والثلاثين، وقال ل "الوسط" "نحن كجيل جديد لا نثق بهؤلاء الناس"، في اشارة الى الحكومة. فيما توقع أستاذ في الجامعة ان تشهد طهران أو بعض المدن الايرانية "تكراراً لتظاهرات اسلام شهر في المرحلة المقبلة، اذا لم تستطع الحكومة بسرعة كبح التضخم الذي تزيد نسبته عن 28 في المئة الأرقام الرسمية و500 في المئة الأرقام غير الرسمية. وباختصار فإن الأزمة الاقتصادية فتحت المجال على مصراعيه للحديث عن صدقية وشرعية النظام الذي يحكم منذ الثورة. واحد من أبرز عناصر النخبة الثقافية الايرانية أكد ل "الوسط" ما اتفق عليه حتى المعارضون للحكومة من أن الوضع الاقتصادي السيئ أفرز وعياً وطنياً بضرورة التشديد على الكفاءة التي تفتقر الحكومة الى النصيب المطلوب منها. وقال ان معظم الايرانيين لديه مشكلة مع عدم الكفاءة ومع الفساد، وله مشكلة مع الحكومة ولكن أبداً ليس له مشكلة مع الشرعية. ولهذا تجد حتى أكثر المؤيدين للنظام لا يتوانى عن انتقاد السلبيات الحكومية خصوصاً في المجال الاقتصادي. واعتبر ان النظام الاسلامي في ايران لديه قاعدة سياسية كبيرة وان كثيراً من المواطنين ربما يريدون حكومة أخرى ولكنهم لا يريدون نظاماً سياسياً آخر. والجمهور الايراني باختصار يفكر في الاصلاح وليس في التغيير العنيف. المثال الذي ضربه أكثر من شخص في طهران على أن الأزمة الاقتصادية تعود في الأساس الى عدم الكفاءة هو المهندس كرباستشي، عمدة طهران الحالي الذي نجح في تطوير العاصمة وانشاء الكثير من الطرق والجسور لتخفيف أزمة المرور الخانقة اضافة الى انشاء الكثير من المراكز الثقافية الجديدة خصوصاً في المناطق الفقيرة، وذلك بفضل كفاءته الشخصية واعتماده على عدد من المساعدين من أهل الخبرة من حملة الدكتوراه المؤهلين الذين يزيد عددهم عن 700 شخص. لكن السؤال الذي يطرحه الديبلوماسيون في طهران هو هل سيمهل التضخم والبطالة نسبتها تزيد عن 20 في المئة من القوى العاملة في البلاد والدين الأجنبي المتراكم يستهلك نحو 25 في المئة من عائدات تصدير النفط السنوية الحكومة الايرانية لانجاز المهمة الصعبة التي بدأتها ولكن ببطء لتحقيق الكفاءة الضرورية لادارة الاقتصاد الايراني. الأخطر من ذلك هو ان كثيراً من المعارضين والاكاديميين والمواطنين الايرانيين يرون على رغم كل ذلك ان الأزمة الحقيقية ليست اقتصادية ولكن سياسية وان الأزمة الاقتصادية كشفت الثغرات وطرحت الكثير من الاسئلة الخاصة بالشرعية السياسية وانغلاق النظام في مقابل المعارضة المنظمة وحتى جدوى استمرار نظام "ولاية الفقيه" نفسه الذي قام على أساسه النظام السياسي الحالي وكرسه دستورها.