حدث ذلك قبل ثلاثة أعوام. اقتحم رجال الأمن الفرنسيون غرفة مريض اسمه جورج حبش وأبلغوه أنه محتجز وقطعوا الاتصالات الهاتفية. وحضر القاضي جان لوي بروغيير الى احدى طبقات مستشفى هنري دونان استعداداً لاستجواب الرجل الذي هزّ العالم في مطلع السبعينات لتذكير هذا العالم بالظلم اللاحق بالفلسطينيين. اخطأ القاضي في حساباته فعند باب الغرفة وقفت امرأة وقالت لن يدخل بروغيير إلا على جثتي. ولم يدخل بروغيير وكانت تلك المرأة هيلدا حبش زوجة الأمين العام ل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". لم تحاول هيلدا حبش يوماً ان تكون في دائرة الضوء. كانت تذهب الى المخيمات باسم مستعار كي تعامل كأي "رفيقة" اخرى في "الجبهة الشعبية". ولأن قصة جورج حبش لا تنفصل عن قصة شعبه ولأن قصة هيلدا معه لا تنفصل عن القصتين كان هذا الحوار. لم أكن أبحث بالتأكيد عن قصة حب. فالصحافة السياسية مدرسة في نشاف القلب. ولكن حين انتهى الحوار وجدت نفسي أمام قصة حب كنت أعتقد بأنها لم تعد موجودة خارج الكتب. إنها قصة حب دارت على دوي الثورة والسجون والملاحقات وهواجس الأمن. ودائماً كانت هيلدا يقظة حذرة تضحي بكل شيء من أجل سلامة الرجل الذي استحق لقب "ضمير الثورة". بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في 1982 تيسر لجورج وهيلدا حبش ان يعيشا، للمرة الأولى منذ زواجهما في 1961، تحت سقف واحد بفضل الشعور بالأمان الذي توفره دمشق للمقيمين فيها. وقبل ذلك كانا يعيشان في هذه العاصمة أو تلك ويبدلان المنازل التي كانا يستأجرانها باسماء مستعارة ويلتقيان وفق مواعيد يصعب اكتشافها. قبل زواجهما في دمشق قبل 34 عاماً صارح جورج حبش هيلدا بأن عليها ألا تتوقع امتلاك أموال أو عقارات أو حياة هادئة وهذا ما حصل. لكن هموم الثورة لا تنسي الحكيم الحميم من اللحظات فهو لا يزال يستقبلها بالورد كلما عادت من عمان ويتمسك بموعد فنجان القهوة الصباحي ويسرق الوقت ليلاً ليلعب الشطرنج ويطيب له الاستماع الى أم كلثوم وفيروز ويغني لعبدالوهاب. لم تنس هيلدا طفولتها في القدس ومشهد الشريط الشائك. ولم تنس ايضاً ولادة ابنتهما الأولى خلال وجوده في السجن. ولم تنس ايضاً الصعوبات المالية التي لم تغب. خلال الحوار الطويل غاب الدكتور حبش ليطل بين وقت وآخر، وشاءت الصدف ان يكون قريباً حين سألت السيدة هيلدا عن الدكتور وديع حداد فانهمرت الدموع من عينيه وابتعد. وهنا نص الحوار: أين ولدت وفي أي أجواء تربيتِ؟ - ولدت في القدس عام 1943 في عائلة مسيحية ميسورة الحال. وكان والدي عيسى حبش من التجار المعروفين. نحن أصلاً من اللد، وأنا ابنة عم الحكيم. هذا لا يعني اننا تزوجنا بسبب رابطة القربى. وحين اتخذنا قرار الخطوبة كنت على مقاعد الدراسة في مدرسة راهبات مار يوسف في القدس القديمة، وأكملت دراستي في تلك السنة وهي نهاية المرحلة الثانوية. تربيت في ظل المأساة التي حلت بشعبنا. وما عانيناه في طفولتنا من الرعب ترك في ذاكرتنا صوراً عجزت السنوات عن محوها خصوصاً أن المأساة راحت تتعمق والمشاهد المروعة تتكرر. في سنوات الطفولة من الصعب على الصغير أن يلم بأبعاد ما يحدث لكن مجرد التحديق في عيون الأهل والجيران ومشاهدة ما يجري كان كافياً لايضاح حجم الظلم الذي استهدف الشعب الفلسطيني. بعد 1948 كان الجو في القدس شديد التوتر وعشنا أياماً من الرعب الحقيقي. لم تتوقف المواجهة واستمرت الاشتباكات متقطعة. كان بعض الشباب يحاول التسلل لاطلاق النار على الاسرائيليين فيستشهد من يستشهد ويجرح من يجرح. أذكر وأنا طفلة حوادث عدة وقعت في محلة باب العمود. لم نكن نعرف أصلاً معنى كلمة القنص. تصور أن الجنود الاسرائىليين كانوا يتمركزون على سور مدرسة نوتيردام ويتسلون باطلاق النار على المدنيين، أي على امرأة تنشر الغسيل على السطح أو رجل يطل من شرفة. كنا نقيم في الطبقة الثالثة وحين يشتد صوت الرصاص نقفز من النوم ونسارع إلى الطابق السفلي. وكان الأهالي يتناقلون أخبار ضحايا القنص والممارسات المشابهة. أجواء التوتر والقلق انعكست على مشاعر الأولاد. والصغار أنفسهم راحوا يتساءلون عن سبب حرمانهم من حقهم في اللعب وفي الامان والطمأنينة. مناخ الخطر يلهب المشاعر أو يجعلها حادة ومواجهة احتمالات الموت تجذر الأحاسيس. هذه كانت الأجواء السائدة في القدس. ومن الطبيعي أن يعلق بذاكرة الصغار بعض الكلمات الواردة في أحاديث الكبار. في السنوات اللاحقة وعلى مقاعد الدراسة كان هناك موضوع الثورة الجزائرية. ما زلت اذكر أنه كانت هناك راهبة تعلمنا اللغة الفرنسية. حتى الساعة لم انس نظراتها الحاقدة التي كانت تجعلنا نخاف من الوقت المخصص للمادة التي تدرسها. طبعاً نحن لم نرضخ وكنا نعبر عن رأينا وتعاطفنا مع الثورة الجزائرية. ونجمع التبرعات لها حتى من مصروفنا الشخصي. ثم جاءت مرحلة عبدالناصر وتزايد الحديث في السياسة والجدل فيها على غرار ما حصل في انحاء كثيرة من الوطن العربي في بداية مرحلة النهوض. كانت حماسة الناس كبيرة الى فكرة نهوض العالم العربي والرموز التي تعد بمثل هذا النهوض. بقيت في القدس حتى سنة 1960 وخلالها عقدنا خطوبتنا وتزوجنا في العام التالي. طب وسياسة هل كنت ترين الدكتور حبش قبل ذلك؟ - كان يتردد على القدس في مهمات سياسية وأخرى طبية. كانت عيادته في عمان وكانت له علاقات مع مستشفى المطلع والمقاصد ومؤسسات طبية أخرى. اعتقد ان تلك الفترة كانت فترة التفكير في العمل المسلح. لا استبعد ان يكون بعض المهمات الطبية آنذاك تغطية للمهمات السياسية. كان يزورنا من وقت إلى آخر زيارات خاطفة وأمضى لدينا ليلة أو اثنتين لأننا بيت عمه. وذات يوم دعوناه إلى الغداء مع رفاق كان منهم الدكتور وديع حداد والدكتور أحمد الخطيب وغيرهما. نشاطه السياسي كان ظاهراً وخاض الانتخابات في الأردن في العام 6195 في مرحلة سليمان النابلسي. كان صاحب شعبية لكن الحكومة حالت دون فوزه. لم أفكر في تلك المرحلة في أن مصيري سيرتبط بمصيره وكنت استقبله فعلاً بوصفه ابن عمي وهو يكبرني بستة عشر عاماً. هل كنت تشعرين آنذاك بأن الطبيب الشاب مشروع قائد وطني؟ - في أوساط العائلة كان الجميع، ومنهم أنا، ننظر إليه نظرة احترام وتقدير وكان في نظرنا البطل لأنه يناضل، وهو من تلك الأيام حوّل العيادة إلى قيادة وكانت مركز لقاء الوطنيين الذين تحولوا شعلة من الحماسة. كنت معجبة به كثائر. اضافة الى سمعته كطالب ذكي، ولاحقاً كطبيب ماهر. حين حصل على شهادته بتفوق كان ملاحقاً في السنة الأخيرة في الجامعة الأميركية في بيروت، التي امضى جزءاً منها في السجن. ولا يزال رفاقه يتندرون حتى اليوم بذلك فالطالب المختفي درس تحت الأرض وورد اسمه على لائحة الشرف. درس الطب عن قناعة واعتقد ان ما حدث في 1948 شكل نقطة تحول في حياته، إذ اعتبر أن المسألة صارت أكبر بكثير من المهنة والطب والمستقبل الشخصي وكرّس حياته كاملةPO-164-13 لقضية شعبه. والحقيقة هي أن موضوع الزواج لم يكن وارداً بالنسبة إلى الحكيم في ذلك الوقت لانهماكه بالعمل الوطني. كانت والدته تحاول اقناعه بالزواج والأمر نفسه بالنسبة إلى شقيقاته وكن يلفتن نظره إلى وجود مجموعة من الفتيات في الحركة حركة القوميين العرب وهن من الفتيات الواعيات ومن النخبة. المتخفي يسترق النظر متى كانت اللحظة التي أدت إلى الحب والزواج؟ - سأذكر لك بالتحديد متى حدث ذلك. بدأ الأمر بمشاعر الاعجاب ولو من طرف واحد تضحك من جانب الحكيم وذلك في 1958. ولم يكن موضوع الحب والزواج وارداً بالنسبة اليّ. الا ان الصدفة لعبت دورها آنذاك. كان الحكيم مطلوباً ومتوارياً عن الأنظار في مكان ما في عمان وحصل اللقاء غير المتوقع، وحصل عن بعد وكان خاطفاً كلمح البصر، وشكل مفاجأة مذهلة لي. كنت اعتقد، في ضوء ما اشيع في أوساط العائلة انه موجود خارج الأردن. وحين لمحته أدركت حراجة الموقف وخشيت عليه، واعتبرت المسألة سراً لا يمكن أن أبوح به. لماذا اختفى الحكيم في الأردن؟ كان هناك حكم بإعدامه، وكان باستطاعته التوجه إلى سورية لكنه فضل البقاء في الأردن متخفياً لأنه المسؤول الأول واعتبر ان لا بد من التضحية لبناء قاعدة لتنظيم قوي وروابط متينة بين أعضائه في الأردن والضفة الغربية والقدس. اختفى لمدة سنتين ونصف سنة في ظروف قاسية جداً. كان يتنقل من جبل إلى جبل سيراً على الاقدام بثياب عامل دهان حاملاً العدة معه حتى يبعد الشبهات. كان يحمل السطل وينتقل متابعاً مهماته. هناك ويا للأسف من يزوّر التاريخ ويدعي أنه كان المسؤول الأول والأخير عن متابعة الشؤون التنظيمية. انني اترك هذا الموضوع لشعبنا في الأردن الذي يعرف حجم التضحيات التي قدمها الحكيم ورفاقه من أمثال الدكتور وديع حداد رحمه الله. اختفى الحكيم عندما اشتدت عملية ملاحقة الوطنيين. كان له خطاب في ساحة الجامع في عمان، وبدأوا بمطاردته واختفى. ذات يوم انتقل الى بلدة اخرى فطوقوه. استطاع ان يهرب من الباب الخلفي فتدحرج على الشوك والحجارة مسافة تزيد على 300 متر، وحين وصل الى مبنى قريب واختبأ وراء السور وجد الدم ينزف من جسمه بفعل الأشواك، وفي هذه الاثناء كانوا يفتشون المنزل. كيف رآك خلال الاختفاء؟ كيف حصلت تلك المصادفة؟ - لم أكن اعرف أنه موجود في عمان. ذهبت لزيارة مكان في عمان ولمحته يمشي في حديقة المنزل الذي كان مختفياً فيه. لا داعي للخوض في الاسماء تفادياً للاحراج، لكنه اختار منزلاً لا يمكن رجال الأمن أن يشتبهوا باحتمال وجوده فيه نظراً الى قربه من أحد المراكز. كنت ذاهبة إلى ذلك المكان مع مجموعة من القريبات ولمحته فقررت أن ارجع لكن بعض قريباتي رفضن ذلك فجلسنا في الحديقة وما أن لمحني دخل المنزل ولم يره أحد. عشت على أعصابي أثناء الزيارة وكان داخل المنزل. كان باستطاعته ان يرانا بوضوح وشعرت بخوف كبير من ان تعرفه القريبات والرفيقات واحتفظت بالسر ولم أقل حتى لأهلي. وروى لي الحكيم لاحقاً أنه فكر في تلك اللحظة في الزواج مني على رغم اننا لم نتبادل أي كلمة. في 1960 عرض عليّ الزواج، وكان خرج إلى سورية ولا يستطيع المجيء إلى الأردن، طرح أهله الموضوع، فطلبت أن اتعرف اليه أكثر، وقال لي والدي نذهب إلى سورية فوافقت وترددنا على سورية وتمت الخطوبة. ومنذ تلك الأيام كان شديد الصراحة والصدق. مرات عدة قال لي عليك ان تفهمي انني لن استطيع أن أوفر لك مستوى المعيشة الذي وفره لك أهلك. طبعاً والدي ووالده كانا في الوضع المالي نفسه، لأنهما شريكان، ولكن دعني اخبرك: جورج حبش لا يعرف ما هو المال ولا يريد أن يعرف. لم يكن يتقاضى أجوراً من المرضى حين كانت لديه عيادة وحتى الساعة لا يحمل فلوساً، وان حمل لا يعرف كم هي. لا علاقة له بموضوع المال. لماذا كان قرارك إذاً؟ - كان قراري عن وعي. كان جورج حبش رمزاً للانسان المستعد لأن يضحي بموقعه المهني وبراحته من أجل القضية. كنت معجبة به كثائر. وحين اتخذت قرار الزواج لم تكن لديه أرصدة أو عقارات. وماذا عن الجانب العاطفي الشخصي؟ - تضحك أم ميساء، هذا أساسي وهو الأول لكنني قصدت القول إن الاشياء اجتمعت. اذكر مرة ان المديرة وهي راهبة استدعتني وقالت لي: "حبش أنا لا أريد سياسة في المدرسة". في الواقع كان لدينا كطالبات حد أدنى من النشاط. حفلة الزفاف أين تزوجتما ومن حضر؟ - في دمشق. ولم تكن لدى الحكيم عقلية الانسان التقليدي المهتم بالمظاهر. كان الزواج عادياً جداً واقتصر على عدد قليل من الأصدقاء بينهم وديع حداد والدكتور أحمد طوالبي المسؤول عن الحركة في أربد وشخص يدعى رشدي الخطيب وحكم درزوه وتيسير قبعة وهاني الهندي ومحسن ابراهيم، وعدد من الرفاق الآخرين أذكر منهم خالد الحاج أول شهيد ل "الجبهة الشعبية" في 1964. حضر خالد زواجنا وعاش معنا تقريباً، وكنت أعامله كأنه أخي الصغير وكان قريباً جداً من الحكيم. وهناك شاب آخر استشهد لاحقاً وهو محمد اليماني شقيق أبو ماهر اليماني. وكذلك رفيق عساف، وكان الدكتور عزام، وهو من قياديي الحركة، اعتقل في بغداد وتعرض للتعذيب الوحشي آنذاك. العريس إلى السجن أين اقمتم في سورية؟ - لم تكن لدى الحكيم امكانات مالية فاستأجر أهلي وأهله منزلاً لنا وتحملوا نفقات تأثيثه. لم يكن يحب الشكليات أو المظاهر، ولم يشترِ لي حتى محبس الزواج تضحك. حتى الساعة لا يحمل الفلوس. حاول أهله في البداية وعرضوا عليه أموالاً لاغرائه فقال لي: "انا لا تجارة ولا أموال". لو اراد تحصيل المال لكان سهلاً عليه. قال لي زميلاه في الدراسة الدكتور منير شماعة وكذلك الدكتور منصور ارملي وهما من أشهر الأطباء ان جورج كان طبيباً لامعاً. اقمنا في دمشق وحصل، لسوء الحظ، الانفصال بين مصر وسورية في الشهرين الأولين من زواجنا، وبدأت الملاحقات تستهدف جميع المحسوبين على الناصرية. دخل السجن لفترة قصيرة. وحتى في الشهرين اللذين تبعا الزواج كنت انتظره على الشرفة حتى الصباح. إذ لم يكن هناك هاتف وكان منغمساً في العمل السياسي. فترة السجن الأولى لم تكن طويلة. أما في الثانية فكنت حاملاً وعلى وشك الولادة. خرجت معه لنتمشى في شوارع دمشق، وقال إنه يريد أن يمر على بيت يسكنه الرفاق. لم نتوقع ان تكون هناك مصيدة. مشينا نحو ساعة وكنت حاملاً في الشهر التاسع. راح ينادي على الشباب، واستغرب أن أحدا لم يجب. عندها قال لي سأصعد لمدة خمس دقائق لأعرف السبب. صعد ولم يرجع وكنت منتظرة في الشارع ومعي والدتي. شعرت بالقلق وصعدت غاضبة. كان ذلك في 1961. وجدت رجلين على مدخل الشقة يحمل كل منهما مسدساً ففهمت أنهما من المخابرات. سألتهما أين جورج؟ فقالا جورج من؟ انزلي من هنا. تجادلت معهما ورفضت الخروج ولم يتعرضا لي بأذى فقد كنت حاملاً وكان لا يزال هناك بعض الاخلاق. دفعتهما وإذا بي أرى أكثر من 40 شاباً يجلسون على الأرض. سألت أحدهم أين جورج فأومأ لي بعينيه إلى غرفة مجاورة. حاولت الدخول إلى الغرفة فسبقني الرجلان وطلبا منه اقناعي بالذهاب. خرج جورج فاطمأننت اليه، وقال لي الوقت ليس وقت عناد الآن. كانت التجربة مهمة بالنسبة إلي. لم أشعر بالخوف أو الرعب وكنت مستعدة حتى لمواجهة الموت. همس في أذني ان في البيت أوراقاً ووثائق ففهمت. تحركت في الحال، ولحسن الحظ كانت الوالدة معنا. ففي تلك الأيام كان من الصعب على سيدة أن تصعد وحدها في سيارة تاكسي في مثل هذا الوقت المتقدم أي حوالي الأولى بعد منتصف الليل. وصلت إلى البيت وجمعت كل ما فيه من أوراق... ولكن أين اخفيها؟ قرعت باب الجيران فسألني الجار عن الحكيم وهل تعرض لمكروه فقلت لا، ولكن لديّ أغراض أريد أن اخبئها عندكم. اظهر الرجل استعداداً ونبلاً وخبأت الأوراق عنده. وبعد نصف ساعة وصل رجال المخابرات ومعهم الحكيم وفتشوا المنزل بكامله ولم يعثروا على أي وثيقة. ولو اكتشفوا الأوراق لتسبب الأمر في اعتقالات ومشاكل وعقوبات كبيرة له ولرفاقه. أذكر ان الضابط جلس ليكتب المحضر فقلت له ماذا ستكتب؟ أكتب انك زرت منزل جاسوس اسرائيلي! طفلته ولدت في غيابه اقتادوا الحكيم الى السجن، وفي غيابه انجبت ابنتنا البكر ميساء وحملتها الى السجن بعد 15 يوماً من ولادتها. كان ذلك في تموز يوليو والحرارة في المزة على أشدها. تصبب العرق من وجه الصغيرة واقتربت امرأة غريبة تنتهرني: "انتم مجانين كيف تحملين الطفلة في هذا الحر". ولم تكن السيدة تعرف القصة. كيف كانت أعصاب الحكيم في السجن؟ - لحظة اقتياده الى السجن قالت والدتي لرجال المخابرات كيف تفعلون ذلك وزوجته توشك ان تضع مولودها وأنا غريبة لا أعرف كيف أتصرف. ولدى دخوله السجن أمضى ثلاثة أيام بلا نوم بسبب هذا الموضوع، اذ اعتقد أنني فعلاً في الساعات الأخيرة. بعد ثلاثة أيام طلب مقابلة مدير السجن وقال له هناك موضوع خاص أريد ان أطمئن اليه وبعد ذلك لا أمانع في البقاء في السجن عشر سنوات. وحكى له القصة واعتقد انه كانت لا تزال هناك مشاعر ناصرية لدى بعضهم. لهذا، في اليوم الثالث لاعتقاله وضعوه في سيارة جيب مع أربعة حراس وفوجئت به يقرع الباب، وفوجئ بأنني لم أضع المولود بعد. وحكيت له ان أمي قالت ما قالت لاقناعهم بعدم أخذك الى السجن. أمضى ساعة معنا واعاده الحراس الى السجن. سألتني عن أعصابه وربما يفترض ألا اتكلم لأنني زوجته. منذ 35 عاماً مرت بنا صعوبات وشدائد كثيرة ولا أبالغ اذا قلت انني أراه في الشدائد صلب الارادة لا يتزعزع ولا تخيفه الضغوط أو الأخطار. دام الاعتقال بضعة أشهر واستأنف العمل في صورة سرية الى 1963 تاريخ المحاولة الانقلابية للضباط الاحرار الناصريين في دمشق واتهم الحكيم بالضلوع في العملية وكان بين 50 شخصاً ادرجت اسماؤهم في لائحة للاعدام. الاختفاء في الشارع القريب لم يكن أمام جورج غير الاختفاء ففعل. اختفى في دمشق في مكان قريب جداً من منزلنا في شارع الانشاءات الموازي لشارع بغداد. كان من الصعب على رجال الأمن الاعتقاد بأن مكان اختفائه قريب الى هذه الدرجة من منزله. ولا حاجة الى الحديث عن صعوبة تلك الأيام. لم يكن باستطاعة الشباب الاقتراب منه لأنهم تحت المراقبة. وكنت أنا مع طفلتي في المنزل واذا لم أرسل اليه طعاماً لن يرسله أحد. ولم يكن هناك خيار غير الاتصال به وصرت صلة الوصل بين الحكيم والشباب. أوفر له كل حاجاته ومتطلباته. انني أشعر بالامتنان للسيدة التي وضعت البيت في تصرفنا وكانت خارج سورية آنذاك، وكان المنزل مهجوراً ويفترض ان لا يلمح احد فيه أي حركة وان لا تنبعث منه أي ضجة. لا أريد ان أذكر اسم السيدة، لكن موقفها لا ينسى. وضعنا أغطية معتمة على النوافذ لئلا يتسرب الضوء وكان علينا ان نمشي بهدوء لئلا يتنبه المقيمون تحت الشقة. عندما كنت أريد زيارته ليلاً كنت احتاج الى تغطية فكيف تتوجه امرأة بمفردها الى شقة يفترض انها مهجورة. كان لدينا جار وطني. راح يرافقني ويطلب مني السير أو التوقف ويرصد الحركة. بعدها بدأ بعض الشباب بالتردد عليه. طبعنا سبعة مفاتيح. وكان الأمر محرجاً فكيف أتردد انا على ذلك المكان والشائع ان زوجي في بيروت! انها ذكريات حلوة ومرة في آن. كنا نعيش ضائقة مالية لا تصدق. تصور انه لو دعا الحكيم في تلك الأيام صديقاً الى الغداء أو العشاء كنا نشعر بارتباك كيف سنكمل ذلك الشهر. اختفى نحو تسعة أشهر على بعد نحو 500 متر من البيت. كانت ميساء طفلة صغيرة لكنها حفظت المكان وكانت تفلت من يدي وتقترب من الباب وتقول "بابا. بابا". وذات يوم كنا نهم بالمغادرة فقالت الطفلة: "بابا"... وصادف نزول بعض الجيران فسارعت أغني لها "باي باي باي باي" للتغطية. يومها قلت له ان احضار البنت قد يتسبب في انكشاف الأمر فوافق شرط ان اصطحبها كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر في نزهة بعربة الأطفال الى الحديقة القريبة ليحدق اليها من وراء اخشاب النافذة المقفلة. كان يحبها حباً جنونياً ويعتبر عدم رؤيتها نوعاً من التعذيب. كان باستطاعة جورج مغادرة سورية أو التوقف عن العمل كما فعل آخرون أو الابتعاد عن المكان الخطر كما اختار آخرون لكن ذلك لم يكن اسلوبه. أقول بصدق انه لم يقل يوماً شيئاً منافياً لقناعاته ولم يتصرف يوماً على نحو يخالف هذه القناعات. سلامة الآخرين كانت هاجساً بالنسبة اليه لكن سلامته الشخصية لم تكن في المقدمة أو على حساب المبادئ او الرفاق. وعندما اطمأن الحكيم الى وضع الرفاق انتقل الى لبنان وبدأت مرحلة جديدة. كيف اقمتم في بيروت؟ - في 1964 ذهبنا الى بيروت واستأجرنا منزلاً باسم مستعار كالعادة وكان الاسم هذه المرة احمد فؤاد حسن. وحصل التباس اذ كانوا يعتقدون احياناً انه منزل الموسيقار الذي يحمل الاسم نفسه. المنزل كان في وطى المصيطبة. تابع جورج عمله وكان هناك في بيروت قدر من الحرية وكان لديه مكتب. الأزمة المالية استمرت تلاحقنا. لم يكن لدى جورج ما يمكنه من دفع ايجار تاكسي من المنزل الى المكتب وبينهما نحو كيلومتر واحد. كانت الليرة اللبنانية الواحدة مشكلة في احيان كثيرة. وكان أهلي يرسلون إليّ مصروفاً يكفي لاعالتي مع ميساء. في تلك الفترة تلقينا دعوة من الرئيس عبدالناصر الى حضور احتفال تحويل مجرى نهر النيل وتدشين السد العالي، وكان الرفيق غسان كنفاني، رحمه الله، موجوداً وكذلك صديق شنشل وعدد كبير من الشخصيات السياسية. وفي 1966 تعرضت أنا للاحتجاز في القدس. كيف حصل ذلك؟ - ذهبت الى القدس ومنعت من مغادرتها وسحب مني جواز السفر. بأي اسم كان الحكيم يتجول؟ - باسماء عدة للتجوال أو استئجار المنزل. وحين كبرت ميساء قليلاً كانت تسألني نحن نحمل أي اسم هنا فاخوري أم نصار أم...؟ لنرجع الى الاحتجاز في القدس؟ - احتجزت نحو ستة أشهر وكانت لمى طفلة صغيرة. أنا ذهبت للولادة في القدس ولم تكن سقطت بعد في يد الاحتلال. تمت الولادة في القدس وكنت مضطرة الى تسجيلها في جواز السفر وحين عرفوا انها ابنة جورج حبش صادروا الجواز ومنعوني من السفر. في النهاية قررت السفر مهما كلف الأمر وقلت لوالدتي ان تهتم بالبنتين. خافت أمي خصوصاً أنهم كانوا عمموا صوري على مراكز الحدود. ومرة أخرى يظهر الناس النبلاء. الشاب الذي أوصلني الى بيروت كان أردنياً. خرجت سراً بصفتي طالبة. ولو لم أفعل ذلك لربما وقعت الحرب خلال وجودي في القدس ولك ان تتصور ماذا يمكن ان يحدث. وفي حزيران 1967 أين كنتم؟ - في لبنان. وأذكر أننا بكينا حين سقطت القدس. والدتي من القدس ووالدي استقر في القدس منذ أول شبابه. أصلنا من اللد. كان لما حدث وقع الكارثة. صدمة عنيفة لا تنسى. لكن الحكيم كان يخرج بعد كل صدمة بعزيمة أقوى. وديع حداد "يخطف" الحكيم ما هي قصة اعتقال الدكتور حبش في سورية في 1968 والعملية التي نفذها الدكتور وديع حداد لتحريره؟ - صادر السوريون أسلحة ووجد من يقول لهم ان الغرض منها قلب النظام في سورية... ولن أخوض في الاسماء. استدعي الى دمشق بحجة عقد اجتماع وقيل له أنت في ضيافتنا تضحك واعتقل. لك ان تتصور حجم المعاناة في تلك الأيام. زوجي سجين في سورية وأهلي في القدسالمحتلة وأنا مع البنتين في بيروت والامكانات قليلة. تسجلت لدخول الجامعة الأميركية ونلت الشهادة ونجحت في امتحان القبول لجامعة ميتشيغان وفجأة حصلت عملية "الخطف" التي ضمنت اطلاق سراحه. احتجز الحكيم في سجن الشيخ حسن وهو من اسوأ السجون. منع من النوم لمدة تسع ليال. كان الجندي يوقظه كلما غفا. كانت الحشرات كثيرة في الزنزانة. عملية الافراج عنه أو تحريره كانت شبيهة بما يجري في الافلام السينمائية. خطط للعملية الدكتور وديع حداد. وطلب منه الحكيم ان لا يبلغني بشيء لئلا يثير لدي أي قلق لكنني شعرت بأن شيئاً ما يحضر بعدما جاء الشباب وأخذوا صوراً وأشياء أخرى. فجأت دخلت سامية زوجة الدكتور وديع منزلنا وقالت ماذا تنتظرين فسألتها عن الأمر. فأجابت الحكيم عندنا في البيت. عندما سمح بأول زيارة له وضع وديع خطة خطفه. نقل من سجنه الى أحد مراكز المخابرات ليتم اللقاء هناك وادعى الشباب ان البنات اللواتي سيلتقينه هن قريباته وهن في الواقع فتيات من الجبهة. واثناء اعادته من مركز المخابرات الى السجن اعترض الشباب وكانوا يرتدون ثياب ضباط في الجيش السوري سيارة الحراسة. وكان الحكيم على علم بالخطة ويفترض ان يقفز من سيارة الحراسة الى سيارة الشباب بسرعة. الجنود الذين كانوا يتولون حراسة الحكيم أدوا التحية للضباط الذين اعترضوهم ظناً منهم ان انقلاباً حصل. وساورت الشكوك احد الحراس، وحاول ان يقول شيئاً فسارع أحد الشباب الذين ارسلهم الدكتور وديع حداد الى التلويح بصفعه. وكاد ذلك ان يؤدي الى إحباط العملية برمتها ذلك ان علاقات ما نشأت بين الحكيم وحراس سجنه سمحت له بأن يرسل إلي مرة رسالة من 12 صفحة بواسطة أحد حراسه في السجن. قفز الحكيم لكن الشباب اعتبروا ان من الأفضل اصطحاب الحراس معهم. ساروا الى نقطة الحدود ثم اطلقوا الحراس وتوجهوا الى لبنان. وهنا أريد ان أشير الى موضوع الانشقاق فقد تم الاعداد له أثناء وجود الحكيم في السجن. ففي الوقت الذي كان بعضالرفاق يدبّر خطة كان آخرون يديرون مؤامرة الانشقاق... والسؤال هو ماذا قدموا الى الشعب الفلسطيني؟ لقد اثبت التاريخ ان الانشقاق كان وراءه في الدرجة الأولى العامل الذاتي اضافة الى العوامل الموضوعية آنذاك. وأصر الحكيم على استخدام الأساليب الديموقراطية في التعامل مع الانشقاق على رغم ان المنشقين كانوا قلة. من قاد العملية؟ - خطط لها الدكتور وديع وشارك فيها 15 شاباً. وبعد وصوله الى لبنان؟ - هدد عبدالكريم الجندي بخطف الحكيم من بيروت او خطف مسؤولين آخرين من الجبهة. عندها ضغط الشباب عليه للسفر فذهبنا الى القاهرة. كان في استطاعتي البقاء في بيروت لكنني اخترت منذ زواجنا ان أكون قريبة منه حتى في ساعات الخطر لعل بمقدوري ان اخفف من وطأته. بعد أقل من شهر من وصولنا الى القاهرة. توجه الى بغداد ومنها سراً الى عمان. بقيت في القاهرة لمتابعة الدراسة الجامعية. وطبعاً كانت المشاعر ملتهبة والعمليات الفدائية تتصاعد. وشعرت بأن عليّ أن أذهب الى عمان فاصطحبت ميساء ولمى وذهبت. وشاركت في احدى التظاهرات وكان النظام متشدداً آنذاك. وحدث في تلك الفترة احتلال فندق انتركونتيننتال وقصة الرهائن. وجاءت الازمات. كنا نسعى الى جمع التبرعات ونشارك في بعض النشاطات. هل كاد الحكيم ان يقتل في 1970؟ - كانت هناك خطة لاغتياله لدى وفاة والده وحدد موعد التنفيذ أثناء الجنازة. كان والده على فراش الموت وطلب ان يرى ابنه الذي كان في اجتماع ولم يتمكن من الحضور إلا بعد وفاته. حبش في معارك جرش أين كنتم في ايلول سبتمبر 1970؟ - كنت أعيش مع أهله اذ لم يكن في استطاعتنا العيش في شقة مستقلة. كان راتبنا 30 ديناراً اذ ان الحكيم يرفض ان يتميز عن رفاقه، ولهذا السبب سموه "ضمير الثورة" لأنه قاسٍ على نفسه وانضباطي. كنت اصطحب ميساء ولمى واذهب الى احدى القواعد لرؤيته. وكان يتردد بين وقت وآخر على البيت لرؤيتنا. الاجراءات الأمنية كانت ضرورية ورافقتنا لاحقاً. بدّلنا في بيروت مثلاً نحو 35 بيتاً وسكناً في معظم الأحياء. حين جاء الصيف كان ينوي الذهاب في مهمة الى كوريا الشمالية فقررت الذهاب الى بيروت لتفقد اثاث المنزل الذي تركناه. شاءت الصدفة ان نكون في الخارج في ايلول 1970 ولم يكن احد يتوقع حصول مواجهة نهائية ذلك ان الاشتباكات كانت تندلع وتتوقف. وتعرضت العائلة لممارسات قاسية في تلك الفترة. حاول العودة من كوريا الى عمان، كانت المسألة متعذرة. ذهبت أنا الى بيروت وعاد هو الى الأردن سراً والتحق بالجبل وذهب الى جرش وخسروا المعركة ونجا بأعجوبة ايضاً. تصور هذه الحياة القاسية! صار عمر لمى سبع سنوات أو أكثر وهي بالكاد تعرف والدها. بعدها عشنا في لبنان. تراكمت الشجون في قلب الحكيم فتعرض في 1972 في بيروت لذبحة قلبية حادة جداً ونجا بأعجوبة بعد تلقيه العلاج في الجامعة الأميركية. وساهمت في إنقاذه السرعة التي انتقلنا بها الى المستشفى على رغم عدم امتلاكنا سيارة وانتظارنا التاكسي في الشارع. ولم يكد يخرج من المستشفى لتمضية نقاهة في منزل في سوق الغرب حتى استشهد غسان كنفاني وكان وقع الحادث قاسياً جداً عليه. النجاة من الخطف وفي 1973 تلقى دعوة رسمية الى زيارة العراق وتمت الترتيبات على أساس انه سيسافر الى بغداد في طائرة تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط. رتبت له الحقيبة وودعني وتوجه الى المطار. لعب الحظ دوره اذ عاد الحكيم من المطار وخطف الاسرائيليون الطائرة وكان عليها وزير عراقي وزوجته اعتقد الاسرائيليون انهما الحكيم وأنا. لماذا رجع من المطار؟ - كان هناك جاسوس مزروع في الجبهة الشعبية وكان مقرباً واسمه وليد قدورة زودهم معلومات وهو لا يزال حياً ولم يعاقب. استنفر الطيران الاسرائيلي، وأما لماذا رجع الحكيم فربما لأنه لاحظ حركة غير عادية في الاجواء ونحن كنا تنظيماً ولدينا أجهزة مراقبة. ا لاسرائيليون يكتشفون البيت هل تعرض الحكيم لمحاولات اغتيال او خطف أخرى؟ - حصلت حادثة الطائرة في المرحلة نفسها التي اغتال الاسرائيليون فيها ثلاثة من القادة الفلسطينيين. بالتأكيد كانوا يفضلون اغتيال أربعة، لا سمح الله، لكن الطريقة التي اعتمدناها لضمان أمن الحكيم حالت دون وصولهم اليه على مدى سنوات. اعتمدنا أسلوباً خاصاً في الحماية وكان مكلفاً ويستلزم تضحيات وليس من السهل تحمله. كنت أنا اختار البيت وأحياناً يشرف شباب الجبهة على الترتيبات، نستأجر البيت باسم مستعار ولا يعرف به الا عدد من الشباب الموثوق بهم. كنت أغيّر شكلي وكان الحكيم يتبع الاسلوب ذاته. تصور ان خالتي كانت في البلد ولم أقل لها أين البيت. سرية المكان كانت مهمة وضرورية. وفور انكشاف البيت لسبب أو آخر كنا نسارع الى تغييره. حين كان الحكيم يأتي الى البيت لم يكن أحد يعرف ماذا سنفعل ونحن أنفسنا لا نقرر سلفاً. وإذا أراد ان يزور اصدقاء كنت أقود السيارة بنفسي. طبعاً لا أحاديث في الهاتف عن التحركات أو الارتباطات. حماية الحكيم كانت أولوية مقدسة بالنسبة اليّ. لم أفرط يوماً بهذه الأمانة ولم أتسبب في اهمال. وتخليت أيضاً عن المناسبات الاجتماعية وعشنا مثل النسّاك. هل كشف الاسرائيليون البيت ذات يوم؟ - نعم هناك بيت كشف، لكننا لحسن الحظ تنبهنا في الوقت المناسب وغيرنا البيت في النهار نفسه بعدما عثرنا على أجهزة لاسلكي. لا أريد الخوض في الاسماء لأن الشخص الذي كان يقطن في البناية نفسها معروف وأكدت الأيام ان علاقته مع الأميركيين جيدة. لقد قرع مجهول الباب في الخامسة والنصف صباحاً وكنت مع البنتين. لم يكن الحكيم موجوداً ونحن لم نعش تحت سقف واحد على رغم تعلق كل منا بالآخر. انها حالة تعذيب، لكن العيش معاً ولو لمدة اسبوع كان يعني الخطر. رتبنا حياتنا وفق برنامج يقضي بأن الحكيم اذا جاء ظهراً لا يأتي مساء، وفي اليوم التالي نلتقي في مكان آخر. كانت لمى الصغيرة تسألني أين سننام الليلة وهل سنلتقي البابا. بعد كل عملية فدائية كبيرة كان علينا ان نغير المكان حتى ولو كان مضموناً. كانت حقيبتي جاهزة باستمرار أضعها في صندوق السيارة وانتقل الى مكان آخر، الفاكهاني وتلة الخياط. ذات ليلة نامت لمى وجاء الشباب وألحوا علي ان أغادر المنزل فاستيقظت الطفلة في مكان آخر وراحت تطالب بألعابها وكتبها وتشتم جورج حبش، البيت الذي اكتشف كان في الطبقة العاشرة في حي شعبي في منطقة المزرعة. ... قلت لك ان الباب قرع في الخامسة والنصف صباحاً وقال شخص: "افتحي أنا أبو محمد". وكان هناك شخص يأتي لاصطحاب البنات الى المدرسة. كدت ان أفتح لكنني نظرت الى الساعة فوجدت الوقت مبكراً وحدّقت عبر الباب فتبين لي انني لا اعرف الرجل. رجعت ورحت أقفل الأبواب. وأرسلت خبراً الى الحكيم. وقال لي الشباب لاحقاً انهم اشتبهوا بوجود أجهزة لاسلكي. رصاص الجيش اللبناني وفي صدامات 1973 بين المنظمات الفلسطينية والجيش اللبناني؟ - واجه الحكيم فعلاً خطر الموت. حصلت معركة في بئر حسن ونخرت مدفعية الجيش المبنى الذي كان الحكيم بداخله. كان المكان مطوقاً وكان يكره النزول الى الملجأ وينزعج منه. بعد يومين شعرت بأن لا بد من طريقة لاخراجه. بقيت احدى الجثث ثلاثة أيام أمام باب المبنى ولم يستطع أحد الوصول اليها بسبب كثافة النار. وانقذ الحكيم عن طريق طبيب صديق أخرجه بسيارته كمريض ولم يكن هناك حل آخر. سر "الرفيقة" وفي حرب السنتين؟ - ركزت على النشاط الاجتماعي. موضوع تل الزعتر هز كياني أكثر من أي شيء آخر. كرست وقتي لخدمة المشردين وذوي الضحايا وطلبت من "الجبهة" ان لا يعرف من أنا خلال توجهي الى المخيمات او الاحياء، واستخدمت اسماً آخر لأتمكن من التصرف كرفيقة عادية من "الجبهة الشعبية". عملنا كثيرا. كان اسمي منى وكنت أذهب في اطار فريق من "الجبهة" ولم يعرف الناس من أنا. بعد أربع سنوات اقترح الحكيم ان نقيم حفلة رمزية لتكريم الأهالي ولرفع معنوياتهم. دخلت يومها مع الحكيم وجلست فراحوا يتهامسون ويقولون يبدو ان موقع منى في الجبهة مهم، وفي النهاية عرفوا انني زوجته وقدروا كثيراً تكتمي وعملي كأي رفيقة عادية.