اكمل من حيث توقفت أمس في عرض رسالة الأخت هيلدا حبش زوجة الدكتور حبش، وأقول مرة أخرى ان كل شهودي على تلك الفترة لا يزالون أحياء، ونحن نقول "اللي يكذب، يكذب على الميتين". والاخت هيلدا لا تتهمني بالكذب، وانما هي تحاول نفي التهمة عن الجبهة الشعبية. هناك من مات، وهو عند رب غفور، أما أنا فأكتفي بالاحياء العدول. ثمة نقطة اساسية في رسالة السيدة هيلدا حبش هي قولها ان الجبهة الشعبية لم تحاول قلب النظام في الاردن، وبالتالي، فكلامي عن جلسة حضرها الحكيم في مخيم الوحدات "تهمة" وغير صحيح. وهي تقول "من حقك يا أستاذ جهاد أن تنفي التهمة عن حركة فتح، ولكن ليس من حقك أن تلحقها بالجبهة الشعبية...". لم أنف أو اتهم، وانما سجلت ما رأيت بعيني وسمعت بأذني، وهو موجود في كتب ومراجع موثوقة موثقة عن تلك الفترة. ولم أكن وحدي فقد كان هناك صحافيون كثيرون، رأوا ما رأيت وسمعوا ما سمعت. وأزيد، من زاوية أمس، على الأخ وفيق رمضان، مبعوث "النهار" في حينه، اسماء جون بولوك، مراسل "الديلي تلغراف" في تلك الأيام، وريتشارد بيستون، مراسل "التايمز"، وجيسي لويس، مراسل "واشنطن بوست"، وهذا الأخير كان أسود، وفرّ من فندق الأردن المحاصر وكتب عن تجربته في جريدته. وأنا أذكر هؤلاء لأنني بصفتي "رئيس نوبة" في وكالة رويترز كنت أعرفهم جيداً، وهم وآخرون من الصحافيين الأجانب كانوا يرسلون أخبارهم عن طريق الوكالة البريطانية في بناية "أونيون" التي لا تزال قائمة في منطقة الصنائع. وكنا جميعاً نذهب في الصباح ونعود في المساء، او نقيم يوماً أو يومين في فندق الأردن، اذا كانت هناك أخبار مهمة. وكان شباب الجبهة يوزعون علينا جميعاً منشورات شعارها "كل السلطة للوطنيين". وقد أعطيت الأخت هيلدا اسماء اخرى على الهاتف، أيضاً لأصدقاء أو زملاء احياء. وأزيد معلومات عن رحلة الطائرة مساء التاسع من أيلول سبتمبر 1970 الى بيروت، فقد قلت انني وجدت عليها السيدة سمية الدجاني، ابنة الحاج علي الدجاني، رئيس مكتب "الحياة" و"الديلي ستار" في حينه، وهو وزير سابق. والسيدة سمية موجودة، وأعتقد انها تعيش في انكلترا، وأزيد انه كان يفترض أن تكمل سفرها في اليوم التالي الى دبي حيث يعمل زوجها الضابط الطبيب في الجيش الاردني، وكان معاراً في دبي أو أبو ظبي. إلا أنها بعد بدء القتال في العاشر من أيلول بقيت في بيروت أياماً لتطمئن على أهلها وقد ساعدتها قدر ما استطعت، وكذلك ساعدها الزميل عرفان نظام الدين، وهو معنا ومعروف لا يحتاج الى تقديم. أما الصديق بسّام أبو شريف الذي استشهدت به، وطلبت مني الأخت هيلدا أن أعود اليه، فبيننا معرفة عمر وصداقة تعود الى أيام الجامعة عندما تخرج بسّام بمعجزة بسبب نشاطه السياسي في الجبهة الشعبية. وكنت كتبت عنه مرات عدة في مناسبات من نوع خلافته غسان كنفاني في عمله في الجبهة، وانفجار رسالة مفخخة في وجهه، ونشاطه الى جانب الرئيس عرفات. بل انني كتبت في مطلع 1997 عن ابنته كرمة، فقد فوجئت بعد أن أخلينا مكتب "الحياة" في لندن اثر تلقينا رسائل مفخخة بشابة صغيرة تجري معي حديثاً صحافياً في باحة مجاورة. وكانت قدمت نفسها إلي فسألتها عن قرابتها مع بسّام وقالت انها ابنة ذلك الصديق الذي كاد يروح ضحية رسالة مفخخة في بيروت سنة 1972. استطيع أن أزيد اليوم ان بسّاماً ساعدني كثيراً في الاخبار، وانه في بدء الحرب الأهلية في بيروت كان يرسل الى مكاتب "الحياة" في الخندق الغميق احدى سيارات الجبهة، وينتقل بها أربعة محررين، ثلاثة اميركيون وبريطاني واحد، بأمان الى شقتهم المشتركة قرب فندق فينيسيا. وكنت وعدت أن أتكلم عن الاحياء فقط، ولكن ازيد هنا انني عندما كنت أخجل من تكرار الطلب على بسام ليلة بعد ليلة، كنت أطلب من الصديق ماجد أبو شرار، رحمه الله، وكان في حينه رئيس المجلس الثوري في فتح، ومكتبه قرب اليونسكو، ان يرسل إلي سيارة لينتقل بها المحررون الأجانب فنأمن عليهم من الخطف. أرجو أن تكون هذه الذكريات مسلية ومفيدة في آن، وإن كان لي أن أزيد شيئاً فهو ان موضوع الزميلة "الوسط" لم يكن عن حركة القوميين العرب، أو الجبهة الشعبية ككل، وإنما كان عن موضوع محدد هو اسرار المجال الخارجي من عمل الجبهة ومسؤولية وديع حداد عنه. وقد انطلقت في تعليقي من علاقتي باستاذي قيصر حداد، شقيق وديع، وكنت كتبت عنه غير مرة في السابق، والزملاء من تلك الفترة كثيرون، وقد سجلت اسماء بعضهم في مقال عن "المعلم قيصر" بعد وفاته في تشرين الثاني نوفمبر من السنة الماضية. وأخيراً لم أنف تهمة عن فتح محاولة قلب النظام في الأردن سنة 1970 ولم ألصقها بالجبهة، فأنا على البعد نفسه أو القرب، من فتح والجبهة، ولم أنتم الى أي تنظيم سياسي في حياتي، أو أي جمعية أدبية، ولم أشترك في مظاهرة. ولعل هذا الحياد هو الذي يمكنني من الحكم بالموضوعية الممكنة على أحداث عايشتها، من دون أن تتأثر نظرتي اليها بأي انحياز شخصي أو تحيز. فكلنا مع القضية الفلسطينية، إلا انني لا أوافق على كثير من الممارسات التي رافقت النضال من منتصف الستينات وحتى اليوم.