عريضة ال51 مثقفاً ضد الفساد الحكومي التي تصدرت، قبل اشهر، الصفحة الاولى في جريدتي "النهار" و "السفير"، قدمت على انها برنامج وميثاق لحركة. لم يكن الموضوع كافياً ولا اللقاء العرضي كافياً. لكن الميثاق التشيكي لا يزال في البال، وفي لبنان لا يصعب تمثل الآخرين ومنهم للعجب القضاة الايطاليون اصحاب حملة الايدي النظيفة، ولا يصعب تصديق اوهام عن الذات. كان ذلك ايعازاً استجيب له. تتابعت بعد ال51 مثقفاً مئات الاسماء من كل مكان، العرائض المعارضة للتمديد التي وقّعها المثقفون شغلت ايضاً حيزاً لا بأس به من الصحف. من المؤكد ان هذه لن تكون الاخيرة، وسيبدو الامر كل مرة شائقاً ومدعاة للترحيب. فحيث يتردى الاداء السياسي ويتبادل الحكام تهم الفساد علانية، يبدي المثقفون أملاً دائماً ومتجدداً بنخب سياسية وحاكمة جديدة، والمثقفون المتحدرون من أرومات سياسية وليسوا قلة يبنون على هذا الامل. ستتزايد عرائض المثقفين كل مرة لا نجد فيها صوتاً لمعارضة منظمة. إذ سيكون المثقفون لأمد اسماً سرياً لمعارضة لم تجد حتى الآن اسمها ولا أطرها. والواضح ان اسم المثقف، بما يعنيه من حياد ونزاهة واستقلال عن الجماعة الاهلية، يصلح ان يكون اسماً لمعارضة هاجسها وطني توحيد، استقلال وأخلاقي ضد تقاسم السلطة من قبل القيادات الطوائفية وممثلي المال وشراء الاصوات والاقلام والمواقف. هل المثقف في الجمهورية الثانية أكثر من اسم؟ وهل يكون الاحتفال بعرائض المثقفين او الاحتفال بتكريس اجتماعي للمثقفين شأن الاحتفال الكبير بتكريم أنسي الحاج الذي شارك فيه 30 ممثلاً تقريباً، و7 مخرجين، وغصّت خلاله قاعة "مسرح المدينة" بالجمهور حتى فاض هذا الاخير وملأ البهو الخارجي، أكثر من محاولة في الهواء لاحياء مثال غارب؟ فالمثقف ليس مجرد مثال، والمثقفون يتخبطون في ما يتخبط فيه الجميع. هناك تردي الاداء الثقافي ايضاً راجع الصفحات الثقافية في الصحف المحلية وهناك حركة شراء أقلام، واستيعاب مثقفين في الاعلام الشخصي محطات تلفزيونية تخدم اشخاصاً، وانتشار ثقافة الأمية واللامبالاة العامة. وهناك ايضاً ما يشبه تضاؤل الحاجة الى ثقافة الا في الحد المهني طبعاً، اي تضاؤل الحاجة الى ثقافة عامة. فالمجتمع في حركته الغرائبية يسبق اي ثقافة، اي معايير، وأي صور، ويبدو في اقل حاجة اليها. ان النتائج المثيرة والعجيبة احياناً هي التي تتكلم. التستر بالمثقفين! لكن الاحتفال بعرائض المثقفين واشخاصهم ينطوي على دلالات اخرى. فمن عقم الوضع اللبناني انه ليس هناك غير الوسط الثقافي يُطلب، منه من جهة، انتاج معارضة، وميثاق اجتماعي، وفلسفة للدولة والمجتمع... كما يبدو انعاشه واجتذابه من قبل السلطة، من جهة اخرى، ادعى الى اعطاء شرعية للحكم والدولة. ان افتقاد المعارضة والحكومة الى شرعية كافية يدعوهما احياناً الى التستر بالمثقفين والثقافة، فيما لا يذهب دور المثقف الحقيقي أبعد من المعاناة اليومية او كتابة خطابات المسؤولين. هذا العام لا نسجل غنى كبيراً في المكتبة اللبنانية، ولا في النتاج الفني. فالخطوط العريضة للنشاط الفني والأدبي في بيروت كانت خصوبة في النتاج التشكيلي تفوق الحد، وخصوبة في الشعر، ومراوحة في القصة والدراسات، وعودة متفاوتة للمسرح، وغليان بديهي للغناء الذي يزيد في التردي الموسيقي. هذا العام لم تتبدل هذه الخطوط كثيراً. الخصوبة التشكيلية لا تزال على حالها. تتلاحق المعارض على طول الموسم، وفي عدد من الصالات تتزايد باستمرار، ولا تزال خصوبة المعارض وخصوبة الصالات قائمة. لا نملك تفسيراً واضحاً لهذه الخصوبة التي تقلق البعض، ويراها الكثيرون فوضى وفلتاناً وفقدان معايير. ليس الامر كذلك بالنسبة الى معارض الشبان، فالواضح ان فيها ما يملأ تلك الفجوة الواسعة التي ولدتها الحرب. ففن الرواد بدا فجأة مكتملاً ومحكماً ومدروساً والى حد كبير ناجزاً. من زمن ما قبل الحرب. لا، لم ينقطع الكبار عن الانتاج وهم في ذلك أسرع من الشبان، ولا نستطيع ان ننسبهم دائماً الى الاعادة ومضغ النفس. لكننا مع ذلك امام نتاج ناجز، وهو لا يتجاوب بحال مع فن السبعينات والثمانينات في العالم، كما لا يتجاوب ايضاً - بالدرجة نفسها - مع عالم ما بعد الحرب اللبنانية. دعك من الاعلانات النظرية للشبان التي قد تشير هي الاخرى الى نوع آخر من العجز. لكن "الاحتجاج" هو فنهم بالتأكيد، واللوحة التي هي اعادة اعتبار للتعبير تعني خروجاً من لوحة سابقة، إن لم تكن تجريدية دائماً، فهمها الغالب تصميمي اسلوبي بنائي اولاً، وتبقى اياً كان الامر ذات اسلبة عالية وحساب سيمتري ونظافة وتنميق لوني او بساطة مدروسة. ولوحة الشبان التي تعمي بتنوعها، ليس مع ذلك كثيرة الاختلاف كما يبدو من ظاهرها. إن شغف الاسلبة والبناء لا يزال في الغالب من ركائزها، كما انها في مرجعيتها العالمية تبحث بحذر عن أجداد مكرسين بعد ماتيس هناك تابييس، وتشي احياناً بفقر في طاقتها الاشارية والرمزية. ثمة استثناء طبعاً، الا ان اللوحة مع ذلك هي ايضاً الاحتجاج، والعنف المضمر او المعلن، التعبير والقسوة والاهمال والنقصان والتلطيخ ومواد الشارع. واذا كان ثمة خطر فهو ان يؤدي دوران محسوب، وانتشار بالعدوى، لهذه العناصر الى نوع من رتابة وبرانية وتشابه مبكر. شهد العام المنتهي معارض الكبار، من أسادور الى حسين ماضي. لكننا سجلنا ايضاً حضور الجيل التالي وما بعده: غريتا نوفل، محمد الرواس، سمير خداج، علي شمس، ندى أميون، جان مارك نحاس، جوزف حرب، شوقي شمعون، ريم الجندي، سمير قانصوه، إلخ. ونحن هنا نستعرض من الذاكرة، ولا نقدم أو نبرز. أما النحت فيظهر فجأة خصباً وحاضراً كما ينبغي في اشكال فنية ومهنية وحياتية. مهرجان حديقة الصنائع بدا مظهراً لهذه الخصوبة. ما يشبه السكوت بعد خصوبة الشعر، هناك ما يشبه السكوت. بدأ العام بمحمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً؟" وشوقي أبي شقرا "صلاة الاشتياق على سرير الوحدة"، وخُتم بأدونيس "الكتاب - أمس المكان الآن". وبين المبتدأ والختام لا نلحظ سوى "كأني غريبك بين النساء" لشوقي بزيع الذي يبتعد بحساب عن قصيدته، و "مزاج خاسر" لعناية جابر التي تجد بتأن جملتها. وكالعادة يصدر على مفترق السنتين مجموعات لا تعرف في حساب أي منهما تضعها: مجموعة محمد العبدالله "بعد قليل من الحب، بعد قليل بقليل"، وعبده وازن "ابواب النوم" وهناك المجموعات المنتظرة: "صباح الخير أيها الكناري" لبسام حجار... وهناك مجموعات اخرى لا بد من الاشارة اليها: "صباح الخير يا بريطانيا"، ومجموعات عبدالعزيز جاسم، علاء خالد، ابراهيم الحسين... وكل العناوين المشار اليها هنا صدرت عن "دار الجديد" التي قامت خلال العام بتقديم الجيل الاخير من الشعراء حسان الزين، سامر ابو هواش، فارضة نفسها كأبرز منابر تقديم الشعر في بيروت. غير أن السكوت النسبي الذي شهدته الساحة الشعرية هذا العام، لا يقلق. انه حاجة بعد الكثير من الصخب، كما ان النشر للجدد الاجد يلقى ترحيباً، لا لسبب اخلاقي فحسب، بل لحاجة الى مكتبة شعرية تجعل التواصل والسجال قائمين على ركيزة. كان المسرح اللبناني منذ الحرب في نوع من انتكاسة الى الطفولة، وهو الآن يبدو وكأنه يغادرها. إضافة الى "الخادمتان" لجواد الاسدي مسرح بيروت، حيث للبنان قوة تمثيل رندة الاسمر، وجوليا قصار وسينوغرافيا غازي قهوجي، أخرج يعقوب الشدراوي مسرحية "يا اسكندرية بحرك عجايب" مسرح المدينة، حيث نعثر مجدداً على طموح مسرحي يتجاوز حدود اللعبة نفسها. كما قدم روجيه عساف "المغنية الصلعاء" مسرح بيروت لنجده يعود الى افضل ايامه. لم تكن الرواية كالعادة خصبة لكنها الآن، مع ذلك، في افضل اوقاتها. الياس خوري في "مجمع الاسرار" ورشيد الضعيف في "رسالة الى كاواباتا"، بينما أنجز حسن داود "عام الأوتوماتيك". اما الجديد فهو ثلاث روايات يمكن ان نعتبرها اعمالاً اولى، إذا اعتبرنا ما سبقها، في حال وجوده، عملاً ما قبل اول هناك "شاي اسود" لربيع جابر، و "الرجل السابق" لمحمد ابي سمرا، و "اعتدال الخريف" لجبور الدويهي. تجارب تشق دروباً اخرى، وأياً تفاوتت النتائج، فإننا امام بوادر طور جديد للرواية اللبنانية. وربما كان الحدث الموسيقي هو صدور شريط "بما أنو" لزياد الرحباني. فهو عمل قائم على أولوية الموسيقى، خروج الكلام الى اليومي والفوري والعابر، التهكم والفكاهة السوداء، اللعب والحرية. موسيقى معاصرة وأغنية معاصرة. ولكن ايضاً احتجاج من قلب الشارع والحياة اليومية والتفاصيل.