عامٌ آخر من الخيبة وانتظار ما لا يأتي. عامٌ من المفاجآت والتحوّلات السريعة التي لم تعد تستوعبها الجماعة، ولا الطليعة، فانعكست على سلوك البعض مزيداً من التشنّج والانغلاق والتعصّب والعجز عن الحوار واعادة النظر، وعلى سلوك البعض الآخر اسرافاً أعمى في الانفتاح والمراهنة على سراب. عامٌ دمويّ آخر حاولنا أن نجتازه بأخف ضرر ممكن، وبأقل عدد من القتلى والضحايا والخيبات والهزائم. عامٌ تعثّر، كأنه يقاوم هو الآخر، يتردد في العبور بنا الى فجر قرن جديد بدأ يلوح في الأفق... وكأنه يخشى تركنا بين براثن ألفية مقبلة لسنا مهيأين لمواجهتها بما فيه الكفاية. لكن الواقع القاتم هو أيضاً شكل من أشكال التحدي الذي من شأنه أن يخصب الحياة الفكرية والابداعية. فعلى حافة البركان، هناك مسارح افتتحت، ومعارض للكتب حقّقت بعض الاقبال. هناك أفلام نالت رواجاً واسعاً، وروايات ومجموعات شعرية تعكس تجارب مميزة وتطرح اشكاليات جديدة، وعروض مسرحية تبحث عن جمهورها. لذا فتحت "الوسط" منذ العدد الماضي، ملف الحصاد الثقافي للعام 1994، محاولة رصد بعض الاحداث والتحوّلات التي تختصر حياة ثقافية عربية في عزّ التأجج والغليان. بعد مصر والجزائر وسوريا، نتناول أبرز محطات العام في لبنان والمغرب، ونستعرض أبرز انجازات السينما العربية خلال العام. قارئ غائب وتهافت معلن لا شفاء منه ... لبنان : الحصاد جيد لكن اليأس أكبر ! السنة الثقافية عند التعداد ليست شحيحة. في الأدب ما يشبه الوفرة. ثلاثة اجيال من الشعراء في الميدان. أنسي الحاج عائداً بعد 18 عاماً في "الوليمة". أدونيس في "أبجدية ثانية" وشوقي أبي شقرا عند مغلق العام في "صلاة الإشتياق على سرير الوحدة". من الجيل الثاني شوقي بزيع أصدر "لأني غريبك بين النساء"، والياس لحود "مراثي بازوليني"، كما أصدر انطوان الدويهي باكورته المتأخرة. بعدهم نشير الى بسام حجار في "مجرد تعب"، وانطوان ابو زيد في "اعمق من الوردة"، وعقل العويط في "لم أدع احداً". وبين المتأخرين يجيء يحيى جابر في "خذ الكتاب بقوة"، واسكندر حبش في "نصف تفاحة"، وشبيب الأمين في "اعتقد اني سكران"، وفادي ابو خليل "فيديو"، وفوزي يمين في "المستلقي على طابقه الأرضي"، واسماعيل فقيه في "مدن وشبكة". وبين الاصدارات الروائية لا بد من التوقّف عند الياس خوري في "مجمع الأسرار"، وبعده محمد ابي سمرا في "الرجل السابق"، والعشريني ربيع جابر في "شاي أسود". أما على مستوى الدراسات والأبحاث فالحصاد ليس قليلاً هو الآخر: نذكر وضاح شرارة في "الواحد نفسه"، وجوزيف سماحة في "سلام عابر"، وسمير قصير في "حرب لبنان"، وفيصل جلول في "نقد السلاح الفلسطيني"، وعدنان الأمين "التعليم في لبنان"، و"تاريخ لبنان" لجماعة من المؤرخين. في المسرح نذكر "مذكرات أيوب" لروجيه عساف، و"يوسف بك كرم" لريمون جبارة، و"أمام الباب" لشكيب خوري، و"ميديا" لسهام ناصر، و"صخرة طانيوس" لجيرار افيديسيان، اضافة الى العروض العربية التي شكلت الحدث الثقافي مثل "فاميليا" لفاضل الجعايبي، و"تقاسيم على العنبر" ثم "الخادمتان" لجواد الأسدي. في الفن التشكيلي هناك ثلاثة اجيال في الساحة ايضاً: أمين الباشا ورفيق شرف وحليم جرداق، ثم غريتا نوفل وحسن جوني، وبعدهم يوسف عون، جان مارك نحاس، يوسف الغزاوي، ريم الجندي، ماريو سابا، الخ. العدد ليس قليلاً والنوعية ليست دائماً هابطة. ثمة هنا وهناك ما يلمع بل وما يضيف. واذا وقفنا عند التعداد وجدناها سنة خير أوفر حصادها يتمتع بالجودة، النسبية طبعاً، من دون الارتقاء بالضرورة الى مستوى الحدث الثقافي. هناك من يفضل تجاهل التعداد وعدم الرجوع اليه، لكن التعداد مع ذلك ليس نافلاً. فهو في اي ظرف يبقى علامة خير. وهو قمين بأن يهبنا نسمة رجاء. الحصاد بأي مقياس مقبول. لكن اليائسين من الثقافة في لبنان، او اليائسين من لبنان كله احياناً، قلما تعنيهم هذه الأرقام. فالثقافة الراهنة في نظرهم، ميزتها الاساسية هي التهافت. تهافت لا يستثنى منه كتاب ولا لوحة ولا اغنية، تهافت معلن لا شفاء منه. والا فكيف نفسّر تلك اللامبالاة القاتلة: فالكتب هنا، والأعمال الابداعية على أنواعها هنا وليس من يهتم! فما يفتقد اليوم بقوة هو القارئ والمتلقي. ليس المقصود القارىء بالمطلق، هناك من يقرأ بطبيعة الحال. لكن ما يفتقد هو حالة من القراءة الموازية للنتاج. قراءة دينامية متواصلة تنقل الأثر الى جدل ثقافة قائمة وتمنحه مكاناً فيها. قراءة ذات ذاكرة، قراءة عاكسة على اصحاب النتاج انفسهم، تجمّع وتبوّب، ترصد اتجاهات وتقيّم، تقدّم وتؤخر... ليست القراءة اليوم هكذا في بيروت. انها مبعثرة منعزلة قليلة الصدى ما يجعل المبدعين معزولين، وحدهم امام مراياهم. واذا انفرد المؤلفون بمراياهم في ارض خالية، ماذا يبقى لهم سوى ان يقرأوا هم نصوصهم، وعبرها نصوص غيرهم؟ باتت القراءة معرضاً لترّهات وتفاصيل شخصية واذواق ومعرفة صغيرة وآنية، ناهيك عن الإنخطاف بالذات والأثر الشخصي. المؤلفون أياً كان مجالهم يكشفون في الغالب عن سوء قراءة، يدعو احياناً الى إساءة الظن في نصوصهم نفسها. فحين يكون فعل القراءة موصوماً بضيق الرؤيا وغياب الفكر، لا بد أن يقودنا ذلك الى اعادة النظر بطبيعة النتاج نفسه، وبما ينطوي عليه من فكر ورؤيا. ليس من قراءة إذاً، وما من مهتمّ حتى بين الكتاب أنفسهم. إذ يبدو لكثيرين - وبخاصة بين الكتاب الجدد - أن النص اضعف من أن يقوم بنفسه. وأنه أحوج الى سند من قوة أخرى، هي غالباً قوة الكاتب نفسه بسلوكه وصِلاته وموقعه. النص والعمل ذريعة، أما الشغل جلّه فللشطارة والحرفة والصلات التي تقوم في الغالب على استتباع او تبادل صريح. لا يهم النص كثيراً. هو في الغالب لا يقرأ بجد، معركته ليست في قراءته، بل في محل آخر. لذا يمكن الكلام أكثر من أي وقت مضى عن فاصل بين النص وصورته. النص في واد والصورة في واد آخر. والصورة حصيلة عناصر أضعفها القراءة. والكبار والصغار، المخضرمون والجدد شركاء غالباً في استبعاد النص وثانويته وتحويل الثقافة الى شبه اجتماعيات. استتباع ولياقات وتبادل وتقديم للاعتبار الشخصي، بحيث ان مكان المقالة في صفحة من صحيفة لا يدل على أكثر من صلة الكاتب بمحررها، وهكذا يتراتب الناس على قدر صِلاتهم. وتتحول الصفحة الى سجل لصداقات المحرر ومراتبها. التلقّي الهابط ليس النتاج هابطاً في بيروت 1994، لكن التلقي أكثر من هابط. واذا كان التلقي على هذا النحو، فقدنا أي اتصال جدي، واي سباق، واي تراكم وأي تسلسل. فنحن الآن امام نوع من نقاش حججه غالباً مما بلي قبل عقود كثيرة، والذين يتراشقون بها يظنون أنها ما زالت طاغية، وبعضهم من أبناء البارحة القريبة. نحن أمام نقاش معظمه بلا حجج على الاطلاق، وليس له حجة إلاّ أول خاطرة وأيسر بديهة هل يمكن الكلام عن ثقافة طبيعية لا تحتاج الى علم؟. يقول شاعر كبير إنه لا يشرب من حبر الآخرين، في بلد نعلم ان ثقافته قامت على التوسط بين لغات وثقافات، وفي عالم اختلف فيه مفهوم المؤلف. ثم يتبعه في ذلك شاعر شاب، ويقال هذا الكلام الممضوغ الدارج في بلد كنا نحس ان مسائل كهذه حسمت فيه، وصارت الى أشكال أنضج وتراكيب أشمل. فما يزعمه الزجالون من انهم لا يأخذون سوى ما استكن في بواطنهم وعبقرياتهم، لا يجوز ان يقوله مثقف معاصر شغله القراءة. ولا بد للمرء أن يعيش على هذا النقاش، ليلمس كيف ان الساحة ليافطات وخواطر سريعة وأفكار ممضوغة وشفوية. واذا كان النقاش على هذا المستوى غالباً، خاض فيه القدامى والجدد، القدامى ينتصبون ايضاً معلمين في هذه الضحالة، والجدد لا يكلفون انفسهم أكثر مما في وسعها. لا يهم ان يكون الكلام بالياً. من يعرف انه بلي وشاخ في هذه الجزيرة التي جعلتها الحروب مقطوعة عن الدنيا؟! هكذا تحوّلت الثقافة الى شيء من اجتماعياتنا، لون من الالوان، لا تستدعي الاهتمام بذاتها بل بمناسبتها. ثمة صحف ومجلات كثيرة، وقراء لا مبالون. هذا اذا قرأوا. الاستهلاك الثقافي اذا جاز التعبير في أدنى مستوى. ما من مصفاة ولا قنوات، الكل يمكث والكل يبقى في ارضه لا يتحول ولا يحرك ساكناً. الصفحة اهم مما يكتب فيها، والكادر أهم ما فيه. كذلك الكوكتيل والعشاء إذا أمكن، العشاء أهم من موضوع الحفلة الذي قد يكون احتفاء بفنان او حفلة توقيع على كتاب. المقالة أقرب الى رسالة، بل رسائل شخصية، لقراء محدودين معروفين. ان لم تكن موجهة الى القارىء الوحيد: المحرر أو رئيس التحرير! السجال يدور حول قضايا زائفة ولا من يدري. وما يقال غالباً ملخصات لانشاء من الخمسينات والستينات. ناهيك عن الحاق الكتّاب لا بالدرجات الدنيا في المؤسسات الجديدة، بل حتى بمحرر صفحة في الجريدة. هل من أحداث ثقافية تستحق الاهتمام في بيروت 1994؟ يمكننا أن نشير مثلاً الى زيارة أمين معلوف وتعريب روايته "صخرة طانيوس" وما رافقهما من حركة واهتمام... يمكن التوقف عند آخر مؤلفات وضاح شرارة "الواحد نفسه"، أو عند قيام "دار الجديد" باعادة طبع أعمال أنسي الحاج الشعرية. هناك أيضاً المعرض الجماعي الذي ضم أعمالاً ل 34 فناناً فرنسياً، هناك مهرجان فيروز، وافتتاح "مسرح المدينة". ناهيك عن بضع أعمال شعرية وبضع روايات جيدة. مجرد أمثلة ثمة غيرها بالتأكيد. لنتوقّف عند مسرحية "فاميليا" التي قدّمها المخرج التونسي الفاضل الجعايبي خلال الموسم الماضي على خشبة "مسرح بيروت"، مع أنها أنتجت في السنة السابقة. حضر الجعايبي الى بيروت بين مجموعة فنانين وكتاب عرب لقي بعضهم حفاوة لا تزيد على ما يلقاه أينما حلّ: نزار قباني، أدونيس، محمود درويش اداء مسرحي وقّعه عساف ل "أحد عشر كوكباً" الذي أثار عتب مثقفين لبنانيين رأوا فيه مجدداً تقديماً ل "الغريب"، وقلة اعتبار للذات. وفي ذلك طبعاً نسيان للامس القريب، إلاّ أنه جدل العصبية في لبنان... وهو جدل معقد يتيح مثل هذه المشاعر التي لم تدم طويلاً لحسن الحظ. شاهد المثقفون اللبنانيون "فاميليا" بحماسة اجماعية. يفتح المشهد على ممثلات يتشاجرن في الطريق الى المسرح، كأنهن يدخلن الى البوم للصور الفوتوغرافية، حتى إذا صرن على الخشبة تحول الضوء على الوجوه الى ضوء رجراج يحوّر في الهيئات ويطمسها، مذكراً بما يطرأ على الصور الفوتوغرافية القديمة من بهتان وتبقيع. كأننا مشهداً بعد مشهد نقلب البوماً من صور الماضي. ليست السينوغرافيا وحدها حجر الاساس في هذه العمارة المشهدية، بل أيضاً اللعب المدهش لممثلات تحولن عن هيئاتهن وأجسادهم وحولنها الى مادة للعب، فباتت لهن اجساد وهيئات أخرى للخشبة، أشبه بالاقنعة. هناك أيضاً تلك القدرة على التخلّص من الاعاقة وتحرير الايقاع، وتجاوز الحركة الثقيلة للجسد المكبل من الداخل المعاق عن طريق اطلاق العنان للمشاعر الحقيقية للممثل. هناك اعتماد لموسيقى خفية لا تلبث ان تتحول الى نوع من رقصة الموت، ورصد لحالة التحول من الشيخوخة الى الصبا والتنقل بين الكبت والاحباط والرغبة والقسوة. عمل الجعايبي كالشفرة رهيف قاس متوتر موار شاهده اللبنانيون بانخطاف وفي بالهم على الارجح المسرح اللبناني الذي يبحث عن نفسه، ولا يقدّم في الاغلب الا اعمالاً سريعة بلا شكل، أو قائمة على اداء مدرسي، أو متلفّعة بزي طليعي فات أوانه. أما "الواحد نفسه"، فليس كتاباً جديداً. انه اقتباس من عدة كتب لوضاح شرارة، يقدم لنا فرصة لاستعادة عمل مفكر نادر يشبك في كتاباته الفلسفة والاجتماع والمعرفة الميدانية، ونستشف لديه فوق ذلك حدساً ومخيلة شعريين وروائيين. وضاح شرارة يستحق الاهتمام، ليس فقط حين يكتب في موضوعاته القريبة في الفلسفة والسياسة والاجتماع، بل ايضاً حين يسرق من وقته مقالة عن السينما او الشعر. وهذا الكاتب لا يلقى اقبالاً واسعاً على كتاباته لصعوبة لا تتأتى عن النص نفسه دائماً. فنصّه سهل وصعب في آن: سهل لانه راهن وميداني وملموس. وصعب لأنه بعيد عن كل تناول مفترض. فهو يتطلب اعادة تركيب المنظومة المعرفية كلها لدى المتلقي، لأن نصّه قائم على عملية النسج والتحليل والتركيب أكثر مما هو قائم على نتائج برنامجية وتطبيقية. ولانه يكتب بين البحث الاجتماعي والنسج الروائي. بين التحليل والتأليف. كيف بقي لها صوت؟ وفي آخر أيام العام 1993 - أي عملياً خلال السنة الثقافية التي تنتهي هذه الايام - رحل بول غيراغوسيان، وهو رحيل باكر، على الرغم من ان هذا الفنان البارز، الارمني الاصل، أربى على السابعة والستين واختط لنفسه لوحة كان غالباً ما يعيدها. فعلى الطريق التي تدرج عليها عدد من محطات، بل عدد من ابواب ونوافذ وممرات ومسالك لا تحصى. مسيرته قائمة على غليان موهبة وطاقة ومقدرة لا تجارى. كان غيراغوسيان قادراً على ايجاد بؤرة ومركز لشوارد فنية من الفراعنة الى التجريد الاميركي، كأنه كلما أضاف الى فنه زاد في حضور تلك الشوارد الفنية. كما انه نجح في تجنب السهل والمغوي والميل الى الصعب والاقل اغواء. استخرج لحظته الفنية من زواج الهياج التعبيري والصمت الفرعوني، من زواج التجريد والتجسيم، من زواج البيزنطي والارمني، وربما الاسلامي مع المعاصر. من زواج الاسلبة الفرنسية مع الحدة الشمالية، من زواج القسوة والحنين، الملحمة والايقونة. وقف غيراغوسيان عند لوحته الاخيرة واطال الوقفة بحيث شاب فنَّه بعض الاسلبة. ترى هل كان بقي عندها لو طال به العمر؟ تكلمنا كثيراً عن مهرجان فيروز. أربعون ألفاً جاؤوا في الغالب في نوع من العودة الرمزية الى وسط بيروت المدمر. جاؤوا ليكونوا معاً، واستحال ربطهم في كراسيهم. كان أحرى بهم ان يهتفوا ويرقصوا ويزعقوا بملء أفواههم. أرادوهم صامتين وكانوا يريدون أن يحتفلوا. أرادوهم ان يحتفلوا لا بالمغنية الكبيرة فقط، بل أكثر من ذلك بالدولة الحاضرة. لكنهم جاؤوا للغناء، ولو تركوا لأنفسهم لصرخوا ورقصوا واستفرغوا أنفسهم حتى التعب. حصل قدر من فوضى ومن كبح ومن فظاظة. الأربعون الف لم يشاهدوا فيروز طبعاً. بالكاد شاهدها الكبار في الصفوف الامامية: الرؤساء، النواب، المسؤولون والموظفون الكبار ومدعوو الرؤساء... فالدولة بحالها كانت موجودة، كدولة في معزل وامان مع شرطتها وامنها ومرافقي المسؤولين ومواكبهم. هكذا غنت فيروز وامامها شعب مكبوح وستار امين وحاجز رسمي. كيف بقي لها صوت؟ النص والاسطورة أعادت دار الجديد اصدار أعمال انسي الحاج التي سبقت "الولمية"، ديوانه الاخير: "لن"، "الرأس المقطوع"، "ماضي الايام الآتية"، "ماذا فعلت بالذهب، ماذا صنعت بالوردة" و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع". وخطوة "دار الجديد" تجيء مناسبة لقراءة الشاعر بعيداً عن عاصفة "لن" كتابه الاول الذي شُوِّشت قراءته. لطالما طغى اسم انسي الحاج على نصه عند مثقفين متعجلين. ولطالما بحث غاضبون ومحتجون في كتاباته عما يجدون فيه وقوداً لغضبهم. قامت اسطورة انسي الحاج تقريباً في حواشي نصه، او جعلت من النص نفسه وقوداً للاسطورة هكذا لم يبحث كثيرون عن مكابدة الشعر في هذه النصوص، عما فيها من تحطيم اشكال وتعدد لهجات ولغات واساليب، من كتاب الى كتاب. لم يتوقّف الا قلّة عند المسار الذي يصل بين الفجوات والانقطاعات، ويتخلص من الهياج والكثرة ليصل على مراحل الى لغة مكثفة ذات غناء شبه فطري ونضارة شبه برية. وشهدت العاصمة اللبنانية افتتاح صالة جديدة: "مسرح المدينة" بعد "مسرح بيروت". هل نستطيع الآن أن نأمل بموسم غني منوّع يتواصل طوال العام؟ في بلد ليس فيه اليوم فرقة مسرحية ثابتة، يعتبر ذلك بحق خطوة متقدمة. تطمح نضال الاشقر الى ايجاد بيت للمثقفين: مسرح، مقهى، مطعم، مكتبة صغيرة. هذا طموح محمود يتطلّب شيئاً من الانتظار لمعاينة كيفية وضعه موضع التنفيذ. لم يمنع ذلك البعض من الاحتجاج، ومحاكمة الاشقر مسبقاً بسبب صلاتها برئيس الحكومة. لكنّها على الاقلّ من المرات النادرة التي يسفر فيها مثل هذه الصلات بين المؤسسة الحريرية وأهل الاعلام والثقافة عن شيء جدي ونافع ك "مسرح المدينة". وقد يكون من الظلم أن نحكم على مستوى العروض التي سيقدّمها المسرح، انطلاقاً من تجربة جيرار افديسيان "صخرة طانيوس"، وتشكّل العمل الاول الذي افتتح به. فالعبرة بطبيعة الحال باستمرار المسرح وتوالي عروضه. ولنا ان نأمل من فنّانة في عراقة نضال الاشقر أن تعمل بقدر من القصد والتطلب، ذلك ان هلهلة المسرح اللبناني لم تعد تحتمل مزيداً من المسامحة والتساهل. لم يكن الحصاد شحيحاً في بيروت هذا العام. كان في أحيان وفيراً. شعر جديد، ورواية مثيرة، معارض بعضها جيد، ومسرح يلملم نفسه، وخشبة جديدة. ليس هذا قليلاً في مجتمع يتواصل تدميره بقصد غالباً. فاذا بقيت للمثقف مرآته، وحدها خفنا من الهذيان... وأسوأ من ذلك: من التهريج والاحتيال!