وقع خبر إقفال «مسرح بيروت» كالصاعقة على ريما التي قرأت على موقع «فايسبوك» أن هذ الفضاء التاريخي سيُهدم قريباً، ليُشيد مكانه مبنى تجاري ضخم. دمعت عينا الصبية التي تربّت في كنف هذا المكان – المدينة، حيث تبلورت ذائقتها الثقافية، وتعرفت الى حبيبها، وبنت صداقات والتقت كتّاباً وموسيقيين وسينمائيين. سارعت ريما للاتصال بصديقتها الحميمة رشا لتنعى لها المكان الذي التقتها فيه وهما مراهقتان. الصديقتان اللتان تعتبران «مسرح بيروت» بمثابة مكتبة ومقهى ومسرح ونقطة لقاء، قررتا التحرك «علّنا نفعل شيئاً لنمنع هدمه». لكن هذه الحماسة للحفاظ على فضاء رمزي من رموز بيروت الستينات والحداثة، اصطدمت بلا مبالاة الناس والمسرحيين أنفسهم. فالممثل أحمد حافظ الذي تعلّم ألفباء الخشبة هنا، وحوّل إحدى غرف المسرح الى بيت له في وقت ضاقت به المدينة وطرده غلاء معيشتها، يعلق على الإقفال بكل سذاجة: «لا أبالي». ثم عندما تجحظ عينا أصدقائه يفسر: «أقصد ماذا عساني أفعل وليس في يدي حيلة. هذا المسرح يقع في عقار من 3000 متر مربع، تملكه عائلة من آل سنو قررت بيعه، فلا يمكننا إجبارها على إبقائه وعدم هدمه. فهو ملك خاص يحق لها التصرف فيه». خبر إقفال «مسرح بيروت» الذي أعيد افتتاحه عام 2009 بإدارة الممثل عصام أبو خالد والمخرج طارق عمّار، ليس بجديد. فقد أقفل المسرح أكثر من مرّة، وحكي الكثير عن هدمه وبناء مركز تجاري مكانه. لكن الجديد في الموضوع، لا مبالاة الجمهور ووزارة الثقافة اللبنانية والفنانين، بمكان رمزي يعتبر من أساسيات ذاكرة بيروت الجماعية. مكان ساهم في نهضة المسرح اللبناني في الستينات، ومرّ على خشبته نجوم السينما والمسرح والموسيقى مثل منير بشير، توفيق الجبالي، جلال خوري، ريمون جبارة، روجيه عساف، حنان الحاج علي، لينا صانع، وسواهم من الفنانين العرب والأجانب. منذ سنوات، عندما أقفل مقهى «المودكا» في شارع الحمرا، قامت الدنيا ولم تقعد، وشهد الشارع تظاهرات واعتصامات من جانب رواده باعتباره فضاء حوارياً اجتماعياً وجزءاً من ذاكرة بيروت. أما اليوم، فيقفل فضاء فريد كان في وقت من الأوقات هو المدينة بتناقضاتها وانفعالاتها، وكان صوتها وكلمتها، ولا أحد يرفع صوته لإبقائه. كأن لسان بيروت لا يقوى سوى على غناء: «لا تندهي ما في حدا» راثية شعبها المخدّر الذي لا يقوى حتى على رفع صوته. فهل القضية تكمن في موت المكان أم في تراجع الحياة الثقافية أم في موت المدينة أم في استسلام أهلها؟ جسد بلا روح في كتابها التوثيقي والبحثي «تياتر بيروت»، تقول المسرحية اللبنانية حنان الحاج علي إن «المسارح كالمدن لا تفتح أبوابها إلا من الداخل، ولا يمتلك ناصية أبوابها إلا مواطنون وفنانون يجيدون صنع مدنهم ومسارحهم. لكن يبدو المسرح اليوم مبعداً عن الاجتماع المديني وعالقاً في حزن لامتناهٍ، حزن من فقد وجهة المستقبل ويمضي في التأمل بماض غابت عن أطرافه المعالم». يعتبر الفنان التشكيلي والشاعر سمير الصايغ الذي عايش نهضة مسرح بيروت، أن هناك تهديداً مستمراً بتحويل وهدم «مسرح بيروت» ومسارح أخرى، والاستعاضة عنها بأبنية تجارية لا علاقة لها بالمسرح نظراً الى تراجع المسرح كفن. ويرى أن أهمية مسرح بيروت الصغير، ليس بشكله أو بنائه أو مكانه، على رغم تميز هندسته المعمارية، بل بالفن عند الممثلين والمثقفين والموسيقيين والتشكيليين الذين أسسوه وعملوا فيه إذ كانوا يتطلعون الى رؤية ثقافية حديثة. ويقول الصايغ: «مسرح بيروت كان من الفضاءات الأساسية التي أسست النص المسرحي والإخراج والموسيقى في لبنان، نظراً لدوره التجريبي الطليعي في الستينات ومن ثم بعد إعادة افتتاحه في التسعينات. وبتراجع هذه الرؤية المسرحية، فقدَ هذا المسرح كبناء وكفنّ حضوره وأصبح ضعيفاً جداً، إذ ما كان ليُلعَب بمصيره لو كان يتمتع بحضور قوي جداً». ويضيف: «ولو كنا متعلّقين بهذا المكان، كنا خلقنا مكاناً آخر بديلاً، أو على الأقل كان «مسرح بيروت» فرض نفسه على الواقع ولم يُقفل». ويصف الصايغ المسارح في بيروت اليوم ب «المعفّنة والرطبة»، وهذا يعني أن «الروح المسرحية العظيمة التي كانت سابقاً، لم تعد موجودة وصار المسرح جسداً بلا روح». ويعتقد الصايغ أن هذا التراجع المسرحي الذي يقابله هجوم فوضوي بالحركة المعمارية لم يسبق له مثيل، «ما هو إلا نتيجة للحرب الأهلية التي كسرت الحداثة وبترت الحوار». ويضيف: «المسرح هو حوار، وعندما انقطع الحوار مع الجمهور المنقسم سياسياً وطائفياً في بداية الحرب، انتهى المسرح. أما المسرح بعد الحرب فهو محاولة جاهدة لإنقاذ شخص دخل في غيبوبة». يتقاطع رأي الصايغ مع رأي الروائي الياس خوري الذي كانت له تجربة طويلة وتاريخية في هذا المسرح. خوري الذي يشعر بالحزن والخسارة على «أحلى مكان في بيروت لكونه وُجد من أجل استعادة الثقافة والأمل»، يرى أن هذا الأمل ذهب، داعياً الشباب الى البحث عن أمل جديد وعن بديل جديد. ويصف خوري الحياة الثقافية في لبنان بالمهمشة، قائلاً: «لو كانت الحياة الثقافية قوية في لبنان، لما أُقفلت المسارح وتراجع دورها». ويعتقد أن «هذا التهميش وما يقابله من لامبالاة من الناس ومن النخبة اللبنانية، ناتج من شعور عميق بالخسارة والفشل وخيبة الأمل من المأزق السياسي اللبناني الطائفي. فالطائفية لا تؤدي إلا الى الخراب. وما يحدث في البلد انتصار للنظام الطائفي العنصري وتدمير للأخلاق». وترى الممثلة عايدة صبرا أن المسرح اللبناني لم يمت، بل «هو يتحوّل ويتبدّل ويتنقل من منطقة الى أخرى». وتعتقد أن «المبادرات الفردية التي يقوم بها بعض المسرحيين الشباب الذين حولوا بيوتهم أو مكاتبهم الى صالات لعرض أعمالهم وتنظيم ورش عمل مسرحية، ليس إلا دليل أمل على أن هناك فنانين ما زالوا يتمتعون بطموحات ومتمسكين بحلمهم، وهو دليل حياة وليس موت». وتشرح أن المسرح «يعاني من ضائقة مادية لكونه غير مموّل من مؤسسات حكومية ولا من قبل جهات معنية، ناهيك بعدم تبني مواهب مسرحية جديدة وإنتاج أعمالها». وتفيد بأن المسرح «يحتاج الى مال كي ينهض». وتضيف: «المسرحيون في لبنان يفتقرون الى الوقت للتمرّن، كل واحد منهم يمتهن أكثر من مهنة كي يُعيل عائلته». وتتساءل: «كيف سنبني مسرحاً ونحن لا نخصص له وقتاً كافياً ولا مالاً كافياً؟». المسرح يُصرّ على البقاء تعتبر حنان الحاج علي في خاتمة بحثها حول «مسرح بيروت» الذي كانت عرابته وزوجها المخرج والممثل روجيه عساف، أن «على رغم نعي كثيرين لبيروت ومركزها ودورها الغابر، لا يزال هناك إصرار على مدينيتها وعلى وجودها ووجود مسرحها». وترى أن «بيروت لا تزال، والمسرح لا يزال، على رغم كل التدهور السياسي الاجتماعي الثقافي السائد، ولا يزال مسرح مدينة بيروت فضاء قابلاً للانتاج، فضاء كامناً». وتتساءل الحاج علي: «هل بيروت التي يتكلمون عنها بما فيها مسرحها، أي «مسرح بيروت»، وجدت فعلاً، أم أنها صورة أسطورية لبيروت أخرى؟ هل التجارب التي دارت في مسرح مدينة بيروت خلال الحرب تأكيد لإمكان وجود اليوتوبيا أم نقض لها؟ هل كنا بعد الحرب، سواء هرعنا الى «مسرح بيروت» أو فررنا منه، نلهث للبحث عن مدينة مفقودة؟... سواء كان الأمر للأفضل أو للأسوأ، فإن المدينة تدعوك باتجاه إعادة تشكيلها». ذلك المكان المتحرك في عين المريسة أساس المكان الذي يوجد فيه «مسرح بيروت» هو مرآب في مبنى يملكه ورثة إرسلان سنو في منطقة عين المريسة في رأس بيروت، استأجره الشقيقان داني ودوري شمعون اثر رئاسة والدهما كميل (1952-1958) وحولاه إلى كاراج لصيانة سيارات «بي أم دبليو». وتحول في 1959 إلى «سينما هيلتون» ثم إلى نادي سينما بإدارة غي غوبلتان بين 1963 و1964. وعندما شرع في تحويله إلى أول مسرح دائم في أواسط الستينات، لم يجتمع المالكون والفنانون على الرغبة والحماسة فقط، بل تعدوهما إلى الحرص على بناء فضاء مسرحي يتمتع بمواصفات هندسية وتقنية عالية. وقد سخى سعيد سنو وهو أحد الورثة وله حق التصرف بالبناء حتى اليوم، على المسرح لما يوفر له من ألق. وتبرّعت بإنجاز الرسم الهندسي المهندستان هنا أبيض فاخوري وديفينا أبو جودة، وتولى التخطيط الهندسي والإشراف على الأعمال مهندس الديكور جو نعمان القاطن العتيق في الحي. وافتتح «مسرح بيروت» ب «عودة أدونيس» للكاتب الفرنكوفوني غبريال بستاني الذي كان أول من اقترح تحول المكان من سينما إلى مسرح. وأقفلت الحرب أبواب المسرح عام 1973 وكانت «قبضاي» لجلال خوري، آخر مسرحية تعرض فيه، قبل اندلاعها. استخدمته الأحزاب المسيطرة على المنطقة خلال الحرب الأهلية، كمنبر لها أو مساحة للاحتفال والاجتماعات. ووضعت قوات الردع السورية سيطرتها عليه في 1978. وعام 1982 بادرت ابنة أحد الديبلوماسيين السعوديين نورا السقاف (خريجة قسم الفنون في كلية بيروت الجامعية)، إلى إعادة افتتاحه، لكن سرعان ما رابط المارينز في الجوار وحول مدخل المسرح بعد تفجير السفارة الأميركية في 1983. استعاد «مسرح بيروت» أنفاسه بعدما وضعت الحرب أوزارها عام 1991 على يد روجيه عساف والياس خوري وجوزيف سماحة وفواز طرابلسي وغسان تويني وهدى سنو ومرسيل خليفة وسمير الصايغ وحنان الحاج علي وسواهم. أقفل المسرح مرات عدة، كان آخرها عام 2004 وكانت تديره مجموعة «شمس» القيم عليها روجيه عساف وحنان الحاج علي اللذان ارتأيا الانتقال إلى أطراف المدينة وتأسيس مسرح «دوار الشمس» المنفتح على كل التجارب الفنية والثقافية. لكن يبدو أن «مسرح بيروت» الذي أعاد افتتاحه عصام أبوخالد في 2009 وطلب منه إقفاله في 31 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، لن يُفتح أبداً هذه المرّة. فالمالك ومؤسس المسرح سعيد سنو خسر دعوى قضائية رفعها عليه شركاؤه في الميراث، لمصلحة بيع العقار الكائن فيه المسرح. والرجل الذي قاوم أخوته وأقاربه لإبقاء المسرح، لم يرض التعليق على الموضوع بتاتاً. كأنه ينسحب من الحياة الاجتماعية بهدوء، كما انسحب المسرح. ربيع مروّة : فضاء في الذاكرة لا أتذكر متى انسحب مسرح بيروت من المدينة ورحل. لكن رحيله كان هادئاً من دون صخب، على عكس الحياة التي عاشها. رحل ولم ننتبه لرحيله ولم يعد موجوداً. المبنى الكائن في منطقة عين المريسة ليس «مسرح بيروت»، إنه مبنى آخر من المباني التي تُهدم في المدينة. المباني في بيروت عمرها قصير، نسبة لعمر المباني في الدول الأوروبية، ولكن في النتيجة مصيرها واحد وهو الموت. عاش «مسرح بيروت» حياة طويلة بالنسبة الى المسارح الأخرى في المدينة. مثلاً مَن يذكر مسرح المدينة في منطقة كليمنصو أو التياترو الكبير في وسط البلد أو البيكاديللي في الحمرا؟ كلها ماتت ولو ما زالت مبانيها قائمة. مسرح بيروت صار في الذاكرة، والذاكرة تحفظ القليل وتؤلف الكثير. نحن لدينا عنه ما يفيض لنُخبره ونضعه على ورق، تاريخ كبير مملوء بالأحداث والقصص المثيرة والشيّقة. «راح مسرح بيروت وما لازم نزعل». كلنا على الدرب سائرون. ومن المؤكد أن «في شي جديد رح يجي».