تظهر بيروت اليوم وكأنها منهمكة في تجربة البحث عن معنى. ففي حين تتهيأ لكي تتسمّى في العام المقبل "عاصمة ثقافية" في إطار برنامج منظّمة الأونسكو لإعلان عواصم ثقافية عربية، تراها تقابل هذه التسمية بما يشبه اللامبالاة. فليس ثمّة من مشاريع ثقافية تتبنّاها الدولة أو المؤسسات تتمّ من خلالها ترجمة التسمية الى مكتبة وطنية كبيرة على سبيل المثال، أو متحف معاصر، أو دار أوبرا متطورة، أو مسرح وطني كبير، أو معاهد علمية مستحدثة، أو مراكز متطوّرة للكومبيوتر والأنترنت، أو ما أشبه ذلك من مراكز ومؤسسات لا نجد مبرراً لتسمية مدينة من المدن أو عاصمة من العواصم "ثقافية"، من دونها. والسؤال الكبير الأوّل يطرح على الدولة، ومن ثَمَّ على المؤسسات الشعبية، وأخيراً على الأفراد، في مشاريعهم الثقافية لهذه العاصمة العريقة، التي سميت ذات يومٍ من الأيّام "مدينة الشرائع"، ووصلت قبل الحرب الأهلية لكي تصبح مركز جذب ثقافي عربي ومتوسطي في آن، لجهة انفتاحها الخاص على الحريات والتنوّع الثقافي والتجريب من جهة، ولتحولها الى مركز إعلامي متقدم في إطارها القومي والجغرافي معاً. لم يعرف للدولة اللبنانية الحديثة، من تاريخ الاستقلال حتى اليوم، أية مشاريع ثقافية أو اهتمام ثقافي يذكر. ووزارة الثقافة فيها وزارة مستحدثة، وتكاد تكون مشلولة، فلم يكن لها ميزانية تخولها القيام بأي نشاط ثقافي على مقدار من الأهميّة، فميزانيتها ميزانية نفقات إدارية بالكاد تفي برواتب الموظفين والمستشارين الذين يظهرون بلا دور... والسبب هو عدم اهتمام العقل السياسي اللبناني المدبّر بالشأن الثقافي كشأن حيوي لا يبقى للبنان في موقعه وفي العالم شيء يذكر من دونه. فنحن في إهمال الجانب الثقافي على امتداد العهود، نقف أمام سِمة من سمات النظام السياسي المتداول في لبنان، ومراكز اهتمامه الطائفية والعائلية والتراتبية الحاكمة من خلال العائلات والوراثة السياسية والمالية... وحتى العهد الحريري الأخير، فلم يكن في جملة ما خطَّط له وأنجزه من مشاريع عمرانية واقتصادية وإعادة بناء البنى التحتية لبيروت والمناطق، إنجاز ثقافي يذكر... وبقيت فكرة المركز الثقافي المنوي إنشاؤه في قلب العاصمة، وفي جانب من جوانب الأسواق التجاريّة فيها، فكرةً غائمةً لم تخرج الى حيّز النقاش والتداول الثقافيين كمشروع ثقافي مستقبلي. ولعل الفكرة بقيت في أدراج مجلس الوزراء أو مجلس النواب، وقيل إنها عبارة عن بناء ضخم سياحي وفندقي يتضمن قاعة محاضرات، وربما مكتبة... فلا يعوّل على ذلك في ما تحقق من انجاز أو ما يخطّط لتحقيقه، إذ أن الاتجاه العام للسياسة الحريرية كان اتجاهاً إعمارياً وترميمياً واقتصادياً خدماتياً، ولم يكن للمشروع الثقافي شأن يذكر في خططها. وهنا ينتهي حكم الرئيس الحريري، وتنتقل السلطة الى عهد جديد ورئيس جديد ووزارة جديدة، مع نهاية العام، وبداية العام المقبل الذي سيكون عام إعلان بيروت عاصمة ثقافية عربيّة، فليس في الإمكان خلال هذه الفترة الانتقالية المختصرة سوى إعلان بيان نيات رسمي بشأن الثقافة والاهتمام بها، مستقبلاً... ذلك ما لم يحصل على الأقلّ من خلال البيان الوزاري للوزارة الجديدة. حَسَناً... فما كان سائداً في الماضي لجهة تهميش الشأن الثقافي رسمياً في لبنان، يعتبر سائداً حتى ثبوت العكس. والملاحظ أن العام الثقافي اللبناني المقبل 99 بدأ باكراً، ومع نهايات 98، ليس من بيروت، بل من باريس. لكأن الثقافة اللبنانية عليها دائماً أن تُرى بعيون مزدوجة. ففي معهد العالم العربي، وبدعوةٍ منه، تمّ تسليط الضوء، وتحريك شؤون ثقافية لبنانية، في الشعر والرواية والمسرح، من خلال ندوات عقدت في المعهد على التوالي، وضمت أبرز ممثلي هذه الفنون في لبنان... من خلال ما سميّ خميس المعهد - Les jeudis de l'INA - فكانت في عصر كل خميس تعقد ندوة ثقافية حول مسألة من المسائل آنفة الذكر. وقد شهدنا شخصيّاً مدى حيويّة وأهمية هذه الندوات، والجمهور الثقافي اللبناني والعربي والفرنسي الواسع الذي كانت تستقطبه، من خلال ندوة الشعر التي شاركت فيها بعنوان "تقاطعات شعرية حول جيل الثمانينات"، وساهم فيها أيضاً كل من الشعراء عباس بيضون وعبده وازن وبسّام حجار وعقل العويط وانطوان أبو زيد. والتظاهرة الثقافية الكبيرة التي أقيمت في باريس، ولا تزال فقراتها سارية حتى اليوم، والتي سميت "لبنان/ الضفة الأخرى"، شملت معرضاً استعادياً لجبران خليل جبران بعنوان "جبران خليل جبران، فنّان ورؤيوي" وصدر عنه كتاب من إعداد عيسى مخلوف، ومعرضاً تذكارياً فوتوغرافياً يستعيد من خلال صور فوتوغرافية خاصة ونادرة ذاكرة بيروت من العشرينات من هذا القرن حتى الخمسينات، فضلاً عن نشاطات فولكلورية وثقافة شعبية من زجل وتواشيح وفرق إنشاد وما الى ذلك. ولا ننسى المطبخ اللبناني فقد كان أيضاً حاضراً في تلك التظاهرة "الثقافية"، ففن الطبخ اعتبر، من خلال إحصاءات معرض الكتاب العربي الدولي الثاني والأربعين، الذي نظمه وأقامه النادي الثقافي العربي في بيروت، في قاعات سوق الأكسبو التجاري، بين 27/11 و9/12/98، من بين الفنون، وضمّ اليه فنّ المسرح مثلاً! من باريس إذاً يتمّ جذب الانتباه الى "لبنان الثقافي"، لا لكونه بلداً فرانكوفونياً مهمّاً فحسب، هو بلد جورج شحادة وفؤاد غبريال نفّاع وفينوس الخوري غاتا وصلاح ستيتيّة وأمين معلوف وسواهم ممّن ضخّوا اللغة الفرنسية بدم جديد رائع، بل لكون مركزيّة الثقافة اللبنانية غالباً ما كانت تشعّ من الخارج... من مصر أحياناً حيث أسّس اللبنانيون هناك الصحافة المصرية من أمثال أنطون الجميّل ويعقوب صنوع وجرجي زيدان، كما أسسوا المسرح مارون النقاش، ومن الولاياتالمتحدة الأميركية التي حضنت ثلاثي الإبداع اللبناني العظيم: جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، ومن أقطار المعمورة كافة، حيث نبغ سياسيون وعلماء وأطباء وشعراء وروائيّون لبنانيون أو من أصل لبناني ممن شكلوا ما يسمّى بملحمة الاغتراب اللبناني... وفي كل ذلك، فضلاً عن الاعتزاز بالعبقريّة الفردية اللبنانية، ما يشبه الإدانة للمجتمع اللبناني أو للدولة. فنحن بالفعل يتامى السياسة، وإن كنّا أبناء المبادرات الفرديّة، والمغامرة الثقافية في العالم. نعود ثانيةً الى مسألة إعلان بيروت عاصمة ثقافية للعام المقبل 99، ونسأل: ماذا فعلت بيروت لبيروت من أجل ذلك؟ أعني من أجل المستقبل... مستقبل الثقافة؟ والسؤال يستدعي بطبيعته ماضي المدينة لما قبل الحرب، بمقدار ما يستدعي المستقبل. فماضي بيروت الثقافي ماضٍ واضح، ذو معالم وإشارات، لكنّ مستقبلها غامض. من هنا نستطيع القول إنها تجرّب البحث عن معنى. فبيروت ما قبل الحرب، بيروت السبعينات حتى أواسطها 1975 سنة اندلاع الحرب الأهلية كانت مدينة ثقافية متطوّرة بملامح أبرزها مناخ الحريات الذي كانت تتمتع به بهوامش واسعة، أوسع من محيطها العربي. وكانت مضطرةً لهذه الحريات اضطرارها لتعايش وتفاعل الثقافات المتعددة التي حضنتها. فهي مدينة أعراق متعددة، ولغات متعددة، وأديان متعددة، واتجاهات فكرية وسياسية متعددة... من هنا شكلت هذه المدينة رصيفاً بارزاً ومقصوداً للذين تشرّدوا عن ديارهم ومنازلهم من فلسطينيين وعرب، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، واتسعت لما ضاق به محيطها من أفكار الضد أو المعارضة... من دون كثير اغتيالات أو ملاحقات أو بوليس، مثلما انفتحت على الثقافة الغربيّة الفرنسية والإنكليزية والأميركية، ومن بعد ذلك السوفياتية والأسبانية، انفتاحها على الثقافة العربية التي هي ثقافتها الأصل والأم، بل ثقافة لغتها الأم العربيّة. وأتاحت حريّة الإعلام وتنوعُهُ النسبيان مَجال التعبير المتنوّع والحرّ، السياسي والإبداعي والاجتماعي، فلعبت بيروت السبعينات بحقّ دور الحاضنة ونقطة الجذب والمختبر للأفكار والتيارات والفنون، وتولد من كل ذلك فرادتها كعاصمة عربية "خاصة"، بل كعاصمة متوسطية بامتياز، من أجل ذلك كان في الإمكان اعتبار الإبداع العربي على العموم، في السبعينات، ينطوي على شيء ما لبناني، فالماغوط وأدونيس وقباني ودرويش فيهم شيء من "اللبنانية"، كذلك قل بشأن رسامين ومسرحيين ومفكرين وسياسيين عرب... ما جعل بيروت عاصمة الحرية والإبداع العربي في السبعينات من هذا القرن. واليوم، وغداً، أي وجه سيكون لبيروت بعد أن دمرتها الحرب؟ أي معنى لها؟ ستكون عاصمة ثقافية... كيف؟ فإذا كان فرنسوا ميتران في فرنسا مثلاً خصّ باريس بذاك الصرح الهائل الثقافي المسمّى "المكتبة الوطنية" في خمس ناطحات سحاب قائمة في وسط العاصمة، وإذا كان بومبيدو خصّها بمركز بومبيدو الثقافي، وإذا كانت تنطوي على اللوفر، وعلى مركز غرينوبل للمختبر الذي رأسه ذات يوم اللبناني الراحل رمّال رمّال... وإذا كانت مركز صحافة متقدّمة، وحرّة، ونقطة استقطاب وجذب لثقافات العالم... إلخ فماذا أعددنا لبيروت الغد؟ هل ستكون ملاذ حريّة ومختبر تجريب سياسي وإبداعي مثلما كانت قبل الحرب؟ هل ستهتم بالمعلومات والثقافة العلمية المعاصرة من أجهزة كومبيوتر وخزانات المعلومات ومراكز الذكاء الصنعي، مثلاً، مثلما رسمت الشارقة لنفسها حين اختيرت العام الماضي عاصمة ثقافية، وخططت لنسخ مكتبة الكونغرس الأميركية وشراء صور عن محتوياتها؟ هل لديها همّ مؤسساتي ثقافي تضطلع الدولة والمؤسسات به، ويتم لحظه في خطط الحكومة، ويتم تمويله أيضاً، أم ستبقى مدينة اليتامى والأفراد والمبدعين الشخصيين، مثلما كان شحادة وجبران ونعيمة والريحاني، ومثلما هم شعراؤها ورساموها ومسرحيوها ومفكروها اليوم؟ إنها أسئلة... مجرد أسئلة، تطرح على هذا الملأ اللبناني الشاسع، وقد لا ننتظر أجوبة سريعة عنها.