يتزامن كل سنة في بيروت معرض الكتاب العربي مع معرض الكتاب الفرنسي،... لكن جو الواحد منهما يختلف عن الآخر. وكذلك المشهد الأدبي والجمهور. هنا قراءة في المعرضين: افتتح معرض بيروت العربي الدولي للكتاب 46، في الأول من الجاري برعاية رئيس مجلس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وليس وزير الثقافة غسان سلامة في قاعة "اكسبو بيروت" في مبنى الهوليداي ان سابقاً الشهير في زمن الحرب بقصصه. وكان أعيد ترميم جزء منه فيما لا يزال الجزء الأكبر شاهداً على ما تركته الحرب من خراب ودمار. ليس مرادنا الكلام عن مكان المعرض ومحيطه، بل القول ان في كل سنة، قبيل بدء المعرض بأيام تتزايد الاصدارات الجديدة، وتبدأ دور النشر في بيروت بتوزيع الدعوات الى حفلات التواقيع للكتب، في مشهد يشبه العرس. يجلس الروائي أو الشاعر صاحب الكتاب المولود الجديد، ويروح يكتب على الصفحة البيضاء من نسخ كتابه الثناء والمجاملة أو المغازلة لكل من يشتري من الأهل والأصحاب والمحبين، وتكون غاية البعض محاولة الحصول على كليشيه "الكتاب الأكثر مبيعاً" ليكون العرس لائقاً. في المقابل يشكل التوقيع احراجاً لبعض الشعراء أو الروائيين الذين يفضلون أن يذهب القارئ من تلقاء نفسه ويشتري من غير هذه "الأهزوجة" التي تحولت روتيناً سنوياً، المراد منه تسويق الكتاب والسيولة. وعندما نتحدث عن الكتاب فإننا نميل دائماً الى الحديث عن نوع معين من الكتب وهي الكتب الأدبية على اختلاف أنواعها والتي اعتدنا قراءتها وامتاعها ومؤانستها من دون الاهتمام بالكتب العلمية والدينية والسياسية التي يكثر قراؤها. وهناك كتب الطبخ التي باتت تسمى "ثقافة المعدة" نجدها أمام بعض الأجنحة في المعرض مثل عمارات وأنصارها غالباً هم من النساء، اضافة الى ما يسمى بالقراء غير الجديين من أنصار كتب التسلية والأبراج. المعرض العربي يتزامن مع معرض "اقرأ بالفرنسية والموسيقى" في وسط بيروت "البييل". طبعاً لكل معرض رواده وزواره. زائر المعرض العربي يلاحظ ان مشهده يشبه المشهد اللبناني بامتياز، ففيه ثقافات متنوعة ومتجاورة ايديولوجية وعلمانية، دينية وشيوعية، أصولية وسحرية، قومية وليبرالية، ولكن وسط هذا التجاور يلاحظ المرء سطوع نجم "حزب الله" على عكس الجماعات الأخرى، فالعابر قرب أجنحة هذا الحزب وأجنحة أنصاره يلحظ كمّاً من الشعارات التي يمكن القول انها "ثقافة الجهاد"، من صور حسن نصرالله "ايقونة" جزء كبير من الشيعة في لبنان، الى شعارات: "الغضب الساطع آت" و"الوصايا الأساس حفظ المقاومة" و"الموقف سلاح" والاحتلال حتماً الى زوال"، وصولاً الى التلفزيون الذي يعرض اشرطة العمليات العسكرية في الجنوب. وفي مكان آخر من المعرض يجد الزائر باعة أشرطة الأناشيد الكربلائية الشيعية و"الفتحوية" الفلسطينية على مقربة من جناح يبيع أشرطة فيروز وغيرها من المطربين وأصحاب الأصوات "الرائعة"، أيضاً يجد كتب الدكتور داهش الظاهرة الشهيرة في لبنان وكتب "الزعيم" انطون سعادة في حيز خاص بها ولا تبتعد كثيراً عن الدار التي تبيع كتب المنظر اللبناني ميشال شيحا أو التي تطالب بالإمام موسى الصدر الغائب وهي ترفع شعار "الى متى جدار الصمت"... ويمكن القول ان المعرض هو بابل اللغات والايديولوجيات والألوان. في السنوات السابقة كان يحصل في المعرض ما يمكن تسميته كتاب الموسم حدث المعرض من خلال نشر كتاب يلمع نجمه ويصبح محور اهتمام الرواد وغيرهم. حين نقول هذا لا بد من أن نذكر كتاب "الشيف رمزي" المخصص لفن الطبخ، وأيضاً كتاب "الأيادي السود" لنجاح واكيم. هذا من دون أن ننسى رواية "ذاكرة الجسد، لأحلام مستغانمي، وكتاب "كمال جنبلاط الأسطورة" لايغور تيموفييف. أما هذه السنة فلا يبدو ان هناك ملمحاً لكتاب سيكون حدث المعرض على رغم كثرة الاصدارات الروائية والشعرية، فالاهتمام بها يأتي عادياً، والملاحظ هو ندرة الاصدارات الشبابية الجديدة سواء في الشعر أم في الرواية وبإزاء هذا يكون السؤال: أين المبدعون الجدد؟ اجنحة وكتب ولعلّ ما نستنبطة من جولة سريعة في المعرض، هو ان الناشر رياض نجيب الريس هذا الموسم لم يوزع الدعوات للتواقيع، بادرة خاصة بالطبع، ابتكر الشعارات الجديدة لداره التي تتصدر مدخل القاعة ومن هذه الشعارات التي لها دلالاتها المعبرة "لا تتركوا الكتاب وحيداً" وهو يذكرنا بعنوان كتاب محمود درويش: "لماذا تركت الحصان وحيداً". عناوين أخرى وضعتها الدار مثل "خذ الكتاب من مؤلفه"... وهكذا يجلس الكتّاب قرب مؤلفاتهم الزاهية بأغلفتها الفوسفورية. في دار النهار يبدو التراث الفرنكوفوني اللبناني عامراً، وثمة رموز الجمهورية اللبنانية ورجالاتها من شارك مالك الى الإمام محمد مهدي شمس الدين، اضافة الى اصدارات جديدة ذات منحى خاص. وأما الدور السورية فهي أكثر ميلاً وحماسة للترجمة من "دار الطليعة الجديدة" الى "دار ورد" وصولاً الى "دار المدى" وسلسلة نوبل والذخائر الأجنبية... عشرات العناوين المترجمة روايات وأشعاراً وأبحاثاً تستحق التوقف. والسبب في هذا الرواج هو ان الناشرين السوريين لا يراعون الملكية الفكرية، وحقوق المؤلف الأجنبي لا تزال مشاعاً في سورية يقرضها أصحاب الدور. في مقابل هذا، نجد ان دار الاداب اللبنانية الشهيرة بترجمة الروايات لم تصدر أي رواية مترجمة هذه السنة باستثناء رواية "العسل" لزينة غندور. ودار الفارابي أصدرت رواية "الشقيقان" للبناني الأصل ميلتون حاطوم. دار الساقي، وهي تنشر باللغتين العربية والانكليزية، كثيرة الاهتمام بقضايا السعودية ومنطقة الخليج وهي ترفع شعارات وصوراً تحفز على القراءة وتقتطف عبارة من كتاب "تاريخ القراءة" لألبرتو مانغويل تعلقها فوق الكتب "كل الحكام الديكتاتوريين على مر العصور والأزمان ما زالوا يعرفون ان الجماهير الأمية سهلة الانقياد، ونظراً الى عدم التمكن من ابطال مفعول القراءة بعد تعلمها يلجأون الى الحل الثاني الذي يفضلونه ألا وهو منع تعلم القراءة". "المركز الثقافي العربي" يهتم بالكتب الفكرية والفلسفية على الأغلب. والملاحظ ان "دار الجديد" ليس لها جناحها الخاص هذا العام. فكتبها معروضة في "دار الفرات"، و"الجديد". كانت ظاهرة تستقطب أسماء الشعراء والكتّاب من أهل الحداثة والقلم الصريح وتحاول اكتشاف المواهب الجديدة، من خلال نشر أعمال الشبان. ولكن يبدو ان أصحاب الدار ملوا من مهنة النشر وتداعياتها وتوقفوا عن اصدار العناوين الجديدة. والأمر نفسه في "دار المسار" التي حاول أصحابها أن يجدوا منها شيئاً للنص الأقلوي الشعري خاصة لكنهم اصطدموا بأزمة الكتاب، فهم لم يشاركوا في المعرض هذه السنة. الأجنحة الخليجية في المعرض لها مشهدها الخاص والمميز، الدور الكويتية مثلاً في مجملها مدعومة من الدولة، وهي تقدم الخدمات الى القارئ بأسعار رخيصة، وبأقل من كلفتها. الجناح السعودي يبدو من خلال ديكوره كأنه مملكة صغيرة للكتاب، والجناح الذي كتب عليه "الكتاب العراقي" من يتأمله يستذكر صور أسواق الكتب في شوارع بغداد. أما معرض "اقرأ بالفرنسية والموسيقى" الذي يلتئم للمرة الأولى في وسط العاصمة في صالة "البييل" بعد نقله من "بيروت هول" سن الفيل، فهو بدأ مساره منذ العام 1992، في احدى قاعات "المركز الثقافي الفرنسي" بانطلاقة متواضعة ليتحول مع الوقت ظاهرة ثقافية "مخملية" إذا جاز التعبير. المعرض هذه السنة وجد فيه البعض عنصراً مكملاً لنجاح القمة الفرنكوفونية التي "أدخلت العاصمة اللبنانية التاريخ"، بحسب السفير الفرنسي في لبنان. وإذا كان المعرض في السابق حمل عنوان "الميراث" 1998 و"اللقاء" 2000 و"حوار الحضارات" 2001 فهو حمل هذه السنة شعار "التعدد الثقافي" في مساحة واسعة وأنيقة فيها 66 جناحاً أجنبياً ولبنانياً. تقدّم المكتبات اللبنانية في المعرض اصدارات من دور النشر الفرنسية، ويشارك عدد قليل من دور النشر المحلية منها دار "النهار"... والمساحة تتسع شيئاً فشيئاً لتضم أجنحة الموسيقى وتشمل نشاطات فنية وموسيقية في "المقهى الأدبي". في المعرض أيضاً دعوة الى أشهر فرسان الاسطوانات دي جي في فرنسا لتقديم حفلات في بناية ستاركو. وتحضر الممثلة والمغنية جين بيركين التي ستؤدي اغاني سيرج غينسبورغ على ايقاعات شرقية في برنامج يحمل عنوان "ارابيسك". وتقدم الشاشة الأدبية أفلاماً سينمائية مقتبسة عن كتب أدبية. على ان معرض هذا العام يحتفي بسنة فكتور هوغو العالمية الذكرى المئوية الثانية لولادته وذكرى جبران خليل جبران والكسندر دوما مع نقل رفات هذا الأخير الى مقبرة المبدعين العظماء في باريس. ويوقع بعض الكتّاب مؤلفاتهم ويشارك أدباء فرنسيون وفرنكوفونيون مثل جلبير سينيوه وباتريك رينال ودومينيك بودس وبيار ميشون وفيليب مديور وغيرهم من الكتّاب اللبنانيين ومنهم الشعراء الذين شاركوا في محترف الترجمة الشعرية الذي أقامه المركز العالمي للشعر في مدينة مرسيليا. يبقى القول ان المعرضين الفرنسي والعربي يشكلان فسحة للتلاقي والحوار. فالجمهور الذي يزور المعرضين يتأمل العناوين أكثر مما يشتري تبعاً للظروف المالية التي يعانيها اللبنانيون ولا سيما أبناء الطبقة المتوسطة الذين يعتبرون من شراة الكتب.