على مدى ما يقارب الأربعة أشهر، يقيم معهد العالم العربي في باريس واحدة من أهم التظاهرات التي أقيمت في أي مكان حتى الآن، تكريماً للسينما المصرية وتاريخها، حيث تضم التظاهرة عروض مئة فيلم علّمت تاريخ هذه السينما، منذ البدايات وحتى الآن، الى جانب معرض طريف يدخل المتفرج في داخل السينما المصرية وتاريخ رموزها وأنواعها. هنا، وعلى مدى أربعة أسابيع نتأمل في السينما المصرية، تاريخها، أنواعها، مخرجيها، نجومها وحاضرها، بوصفها الفن الذي أثر أكثر من غيره على الذهنيات العربية طوال هذا القرن. الحسناء الشابة بلغت المئة من عمرها. وهذه السن جديرة بأن يُحتفل بها، خصوصاً اذا كان من بلغها لا يزال يشعر انه في شرخ الشباب، واذا كان المحتفلون جميعاً موافقين على ذلك. حسناؤنا الشابة هنا هي السينما المصرية، السينما التي رافقت معظم سنوات قرننا العشرين هذا، وفعلت في الذهنيات العربية ما لم يفعله أي فن آخر، أبكت الناس، اضحكتهم، أفرحتهم، أحزنتهم، غّيرت في مجرى العلاقات العائلية، خدمت كأداة لنشر الغناء والأدب، ازاحت المسرح عن عرشه، خلقت من الممثلين والممثلات نجوماً وأساطير، وحّدت العالم العربي من محيطه الى خليجه من حول بوتقة واحدة هي مصر. وأخيراً، حين جاء "السيد" التلفزيون ليقول كثيرون انها ستنهزم أمامه لا محالة، لم تستغرق عملية سيطرتها عليه سوى سنوات قليلة، عادت بعدها تحتل عرشها، اذ حتى عبر شاشات التلفزة في طول الشبكات العربية وعرضها، تعتبر المكانة الأولى محفوظة للسينما المصرية بأفلامها التي تنهض كل عقد من جديد، كطائر الفينيق. عبر شاشات التلفزة، كما عبر أشرطة الفيديو، وكذلك عبر الذاكرة الجماعية لعشرات ملايين العرب، تشغل السينما المصرية المكان الأول. وازاء هذا الواقع لا جدوى من كل ضروب الصراخ والاحتجاج، ولا تنفع أية مناقشة. صحيح ان العقود الأخيرة شهدت ازدهار فيلم من هنا وفيلم من هناك، خارج مصر، وتألق مخرج أو تيار أو أكثر، بعيداً عن مجال هيمنة السينما المصرية، لكن هذا كله لم يبدل من واقع الأمور شيئاً، ففي الدار البيضاء، أو في بيروت، في الكويت أو في بغداد، في عمان أو تونس أو الخرطوم، اذا توجه المشاهدون بعشرات الألوف لمشاهدة فيلم سينمائي فهذا الفيلم سيكون فيلماً مصرياً، وأبطاله سيحملون أسماء عادل امام، ليلى علوي، ميرفت أمين، عمر الشريف، أحمد زكي، يسرا، نورالشريف، بوسي، لوسي، محمود حميدة …، تماماً مثلما كانت الأجيال السابقة تركض وتركض لمشاهدة أفلام شادية أو فاتن حمامة، كمال الشناوي أو عماد حمدي، أو محمود المليجي، وعلى الدوام فريد شوقي وأمينة رزق. من القاهرة الى العرب ليس في الأمر سحر ولا يحزنون. فالسينما المصرية منذ ولادتها الحقيقية قبل نحو سبعين سنة، لا قبل نحو مئة سنة كما يقترح علينا "المهرجان" الكبير الذي يقيمه معهد العالم العربي في باريس، حرصت على ان تكون سينما عربية تلح على ذلك بداياتها البدوية في "ليلة" عزيزة أمير، كما في "قبلة في الصحراء" لابراهيم وبدر لاما وكذلك بداياتها التاريخية "لاشين" لغريتز كرامب، وتلح عليه أيضاً وقائع عدة اخرى منها فلسطينية الأخوين لاما ومشاركة آسيا وماري كويني اللبنانيتين في اولى الأفلام المصرية، وأيضاً حرص وداد عرفي، في العام 1928 على ان يصطحب فيلمه "غادة الصحراء" ليعرضه بنفسه في معرض دمشق الدولي بوصفه فيلماً يدغدغ مشاعر القومية العربية ويكشف على ترحيب مصر بالفنان العرب آسيا. صحيح ان القاهرة سوف تشهد بعد ذلك بستين عاماً "معركة" من حول جنسية واحد من أبرز مخرجي جيل الثمانينات، محمد خان، في التساؤل عما اذا كان يحق أو لا يحق له العمل في مصر، هو المولود من أب مصري ذي أصول باكستانية، غير ان هذا الأمر كان عارضاً، وشاذاً في مسار سينما ارتبط تاريخها على الدوام بالتواريخ العربية، وحرصت دائماً، مهما كانت مصرية مواضيعها، على معالجة تلك المواضيع بطريقة تلقى قبولاً من المتفرجين العرب ككل. وفي هذا السياق يمكننا ان نحصي عشرات الفنانين العرب، من مخرجين وممثلين ومطربين، عرفت القاهرة كيف تكون نقطة انطلاقهم، ويمكننا كذلك ان نحصي عشرات المواضيع العربية التي شغلت السينما المصرية على الدوام، من المواضيع الفلسطينية الى مواضيع الوحدة العربية، الى معالجة المشكلات الاجتماعية التي تمس المجتمعات العربية كما تحسن المجتمعات المصرية. والحال ان هذا البعد العربي في السينما المصرية لم ينتظر ثورة الضباط الأحرار، وتمسك الرئيس جمال عبدالناصر بالقومية العربية حتى يعبر عن نفسه، بل كان هناك، منذ البداية، كامناً في داخل سينما جعلت من "كوزموبوليتها" العربية واحداً من اتجاهاتها الرئيسية. البداية أجنبية غير ان هذا البعد العربي - البدوي - الوطني - الوحدوي، لئن كان رافق السينما المصرية منذ بداياتها أواخر سنوات العشرين، واشتدت حدته بعيد الحرب العالمية الثانية، حين أضحت السينما المصرية مشروعاً صناعياً وتجارياً لا بد له من ان ينطلق في الأسواق العربية، وغالباً بمشاركة رساميل الموزعين العرب، فإنه - أي هذا البعد - كان غائباً قبل ذلك، أي طوال العقود الثلاثة الأولى التي سبقت وجود أول فيلم روائي مصري حقيقي. تلك العقود الثلاثة كانت بالكاد تبدو، حتى، مصرية. فالسينما في مصر، منذ العام الثاني "لاختراعها" على ايدي الشقيقين لوميار في فرنسا، تبدت فناً مرتبطاً بشكل أساسي بوجود الجاليات الأجنبية في القاهرةوالاسكندرية. ومن هنا اذا كان في إمكاننا ان نلتقي في مجرى تاريخ السينما في مصر، ببعض الأسماء العربية - المصرية مثل محمد كريم ومحمد بيومي وفوزي واحسان الجزايري، بل أحمد بدرخان نفسه، فإنهم كانوا يشكلون أقلية ضئيلة بالمقارنة مع عشرات الأسماء الفرنسية والايطالية واليونانية التي احتمت بفن السينما واحترفته فمكنها ذلك من انتاج العديد من الشرائط التسجيلية والسياحية وبعض الأفلام الروائية التي تنظر الى مصر نظرة استشراقية تضيع بين الانبهار والاحتقار. وفي هذا الاطار من اللافت ان يكون أول ظهور مصري على شاشة مصر الاجنبية منذ العام 1917 هو ظهور محمد كريم في دور صغير لعبه في فيلم "شرف البدوي" من انتاج شركة سيتشيا. كان دوراً صغيراً بالطبع، لكنه زرع جرثومة حب السينما لدى محمد كريم، الذي سنجده بعد ذلك بوصفه علامة أساسية من علامات تاريخ السينما المصرية، الى جانب محمد بيومي، الذي يعود اليه الفضل في لفت نظر الاقتصادي الكبير طلعت حرب الى فن السينما وأهميته، ما جعل هذا الأخير يقدم المساهمة الأساسية في نشوء فن سينمائي حقيقي في مصر. والطريف ان طلعت حرب نفسه كان هو الذي حاول ان ينهي عزيزة أمير وزوجها العمدة أحمد بك الشريعي عن خوض مغامرة انتاج أول فيلم روائي مصري، اشفاقاً عليهما. يومها لم تنفع محاولات طلعت حرب، فحققت عزيزة أمير فيلمها على رغم الصعوبات العديدة. وأخيراً حين عرض الفيلم في تشرين الثاني نوفمبر 1927، بنجاح معلناً بداية السينما المصرية كان طلعت حرب أول المهنئين حين قال لعزيزة أمير: "لقد قمت يا سيدتي بعمل كبير، عمل يعجز عنه الكثير من الرجال". ميلودراما وشركاؤها كانت تلك العبارة، في كافة الأحوال، ايذاناً بولادة السينما المصرية، ولكن أيضاً ايذاناً بانطلاقة مشروع اقامة "ستوديو مصر"، الصرح الذي أنشأه طلعت حرب نفسه، وافتتح في العام 1935، ليكون المكان الذي تنطلق فيه أفضل انتاجات السينما المصرية. هذه الانتاجات يأتي مهرجان "مئة عام من السينما في مصر" ليختصرها لنا عبر مئة فيلم تم اختيارها بعناية لتعكس مختلف مراحل وأنواع وولادات السينما المصرية. وشاء منظمو المهرجان ان تأتي نوعية الأفلام المعروضة على مدى أربعة أشهر تقريباً، لتتواكب مع التقسيم الذي جُعل لتوزع السينما المصرية بين سينما ميلودرامية، وثانية اجتماعية وثالثة تاريخية، ورابعة موسيقية - غنائية، وصولاً الى "سينما اليوم"، السينما الجديدة السائدة والتي تشهد منذ بداية سنوات الثمانين تفجر الأنواع والاجناس واختلاطها ببعضها البعض على ايدي جيلين أخيرين من سينمائيين مصريين تمتزج لديهم وقائع المجتمع بصراخ الغضب بالرغبة في التعبير عن الذات… مع هذين الجيلين الجديدين، يبدو من الواضح ان تاريخ السينما المصرية كله قد عرف كيف يترك آثاره، حتى وان كان بإمكاننا ان نتساءل عن السر الكامن وراء غياب واحد من اجمل وأنجح الأنواع التي عرفتها السينما المصرية: الفيلم الغنائي الاستعراضي، الفيلم الذي كان منذ الاربعينات وحتى السبعينات أثرى السينما المصرية بأفلام محمد عبدالوهاب وأم كلثوم، ليلى مراد وشادية وفريد الأطرش وصباح وعبدالحليم حافظ، ناهيك عن رقص نعيمة عاكف وتحية كريوكا وسامية جمال. فهل يمكننا ان نقول بأن الطفرة التي تعرفها السينما المصرية، نوعياً ان لم يكن كمياً، منذ عقدين على الأقل، انما جاءت على حساب ذلك النوع السينمائي المجيد، النوع الذي لا يمكن بأي حال ان تغنينا عنه استعراضات يدمجها في أفلامهم مخرجون مثل يوسف شاهين "عودة الابن الضال" و"الاسكندرية كمان وكمان" أو خيري بشارة "آيس كريم في جليم" و"حرب الفراولة"؟ سؤال نطرحه وان كان العثور على جواب عنه لا يدخل في نطاق اهتمامنا؟ الورثة لا يفرقون نظرة سريعة الى الأفلام المنتجة في مصر خلال العقدين الأخيرين توضح لنا ان السينما المصرية قد عرفت طفرة كبيرة، غير ان تحول النظرة السريعة الى نظرة متأنية فاحصة، ربما سيفيدنا الى ان السينما المصرية على رغم كل التطور الذي طرأ عليها لا تزال أمينة لماضيها. فالميلودراما الخالدة التي انفق جلال الشرقاوي كل اطروحته الشهيرة حول تاريخ السينما المصرية، وهو يحاول ادانتها، لا تزال هي هي سيدة الموقف، والصدف والنهايات السعيدة لا تزال هي المتحكمة في أكثر من نصف ما ينتج في القاهرة، غير ان هذا لا ينبغي له ان يمنعنا من ملاحظة ان السينما الراهنة انما استوعبت بشكل جيد، كافة الدروس مجتمعة، بحيث اننا قد نجد لدى المخرج الواحد الآن ما يذكرنا بتيارات كانت متصارعة ومتناقضة في الماضي، ترى أفلم يكن الراحل باكراً عاطف الطيب، ابناً باراً لصلاح أبو سيف ولكامل التلمساني ولكن أيضاً لحسن الامام ونيازي مصطفى في الوقت نفسه؟ وعادل امام، أفلا يمكن اعتباره الامتداد الطبيعي لنجيب الريحاني ولاسماعيل ياسين في آن معاً؟ وحين يحقق رأفت الميهي "قليل من الحب… كثير من العنف" أو هاني لاشين "الاراجوز" أفلا تذكرنا بعض أجمل لحظات أفلامهما بعزالدين ذوالفقار وصلاح أبو سيف وعباس كامل وبدايات هنري بركات؟ نورد هذا لنقول انه من الصعب الحديث عن قطيعة أساسية وجذرية في مسار الفيلم المصري، على رغم تبدل الأجيال والأنواع والعوامل الاجتماعية التي تقف خارج السينما نفسها. لحظات القطيعة الحقيقية كانت قليلة، بدءاً من "العزيمة" لكمال سليم، وصولاً الى "المومياء" فيلم شادي عبدالسلام اليتيم، مروراً بپ"النائب العام" و"السوق السوداء"، والسيناريوهات التي كتبها نجيب محفوظ لصلاح أبو سيف. ولكن من اللافت حقاً ان لحظات القطيعة تلك كانت سرعان ما تستوعب من قبل الاجيال التالية فتضيف الى سينما تعززها وهي التي كانت تريد ان تقطع معها. وفي هذا الاطار يمكننا حتى ادراج أفلام حملت توقيع حسن الامام، ولعنات النقاد، لكن بامكاننا ان ننظر اليها اليوم في ابعادها الحقيقية لنكتشف مدى ما أضافته، حيناً على الشكل وحيناً على المضمون. نقول هذا وفي البال أفلام إمامية مثل "بمبة كشر" و"الخرساء" و"التلميذة". الشاشة تقدمية على الدوام والحديث عن حسن الامام يذكرنا بكم كانت السينما في مصر، فعل تقدم على الدوام، على الصعيد الاجتماعي كما على الصعيد الوطني، بحيث سيكون من النادر ان نقول عن مخرج أو فيلم معين باستثناء بعض الأفلام في المرحلة الساداتية التي تلت انتصار تشرين الأول/ اكتوبر وكان مطلوباً منها ان تخدم كفعل دعاوة لا كفعل فني، ومن أبرزها "بدور" و"الوفاء العظيم" و"الرصاصة لا تزال في جيبي" انه دافع عن قضية رجعية، أو عن تخلف المجتمع. فالسينما المصرية، سواء نهلت من الدوافع الميلودرامية وصولاً الى الرومانسيات المأخوذة عن احسان عبدالقدوس، أو تلك التي تحمل تواقيع أحمد ضياءالدين أو بركات، أو من اقتباسات لروايات نجيب محفوظ، في صرامتها الواقعية، أو نهلت من أرضية الواقع الاجتماعي أو حرصت على ان تتبع، وبكل صراحة، رغبات الجمهور، كانت على الدوام سينما تواكب حركة التقدم في المجتمع، تنتفض ضد ظلم المرأة من بركات الى حسن الامام ودفاعاً عن حقها في الحب أحمد ضياءالدين، عزالدين ذوالفقار، ودفاعاً عن الأجيال الجديدة ضد المعوقات الاجتماعية عاطف سالم، صلاح أبو سيف، ووقوفاً الى جانب قوى الثورة والتمرد توفيق صالح، حسين صدقي حتى في وطنياته الساذجة، والى جانب دعوات الوحدة العربية صلاح أبو سيف، يوسف شاهين…. وحتى في أفلام التشويق التي كان يحققها مخرج كبير من طراز كمال الشيخ كان العامل الاجتماعي بارزاً مرسوماً من منطلق متقدم واع… هذا الإرث التقدمي الذي ساد منذ سنوات الخمسين وتجلى خصوصاً في انتاجات رمسيس نجيب والقطاع العام، كان هو الخلفية التي ارتسمت عليها أعمال ذلك الجيل الذي انتفض في الثمانينات ليبعث السينما المصرية الجديدة من رقادها. لكنه - أي هذا الإرث - كان أيضاً الفاعل الأساسي في ذهنيات الجمهور. ومن المؤكد هنا اننا لن نبتعد عن الحقيقة ان نحن أكدنا مرة ثانية، في هذه الصفحات، على ان السينما - والى حد ما الى جانب الأغنية - كانت العامل الأساسي في الاشتغال على الذهنيات العربية بشكل عام. ولعل دراسة سوسيولوجية تطال المجتمعات العربية وتقارن بين ما كانت عليه ذهنيات - الطبقة المتوسطة على الأقل - قبل السينما وبعد انطلاقة هذه السينما ستكون كافية لأن تقول لنا الكثير حول ما فعلته السينما. ولكي نكون أقرب الى الحقيقة سنشير الى ان السينما تمكنت من احداث هذا الفعل بفضل لعبة التماهي التي قامت، على الدوام، بين المتفرج والنجم، ولم يكن الفيلم، في أغلب الأحيان، سوى واسطتها. ولقد شمل هذا الفعل الاجتماعي المشار اليه، شتى جوانب العلاقات الاجتماعية، من العلاقات الغرامية، الى العلاقات الاسرية، الى العلاقة مع مفاهيم مثل المال وسلطة الأب، والدولة، والبيئة الاجتماعية، والتاريخ القومي، وصولاً الى علاقة المرء بذاته. وفي هذا الاطار قد يكون من الملائم ان نشير الى ان الفعل الذي مارسته فاتن حمامة أو سعاد حسني أو ليلى مراد أو نعيمة عاكف على الاخلاقيات الانثوية فاق أي فعل مارسته المدرسة أو الأسرة في حياة الفتيات العربيات. ولعلنا لا نتعدى على الحقيقة ان أشرنا في السياق نفسه الى انه كان من النادر لشاب عربي مراهق ان يحب ويتعذب بطريقة مغايرة لطريقة حب فريد الأطرش وعبدالحليم حافظ وعذابهما. فهل نواصل فنقول ان تماهي الأجيال الجديدة مع انماط متجددة من الشخصيات مثل عادل امام ونور الشريف لعب دوراً أساسياص في التبدل الذي طرأ على شخصية الشاب العربي في العقود الأخيرة؟ هنا قد لا تبدو المقارنة دقيقة، ولعل السبب يكمن في ان نجاح شخصيات مثل نور الشريف وعادل امام، وربما أحمد زكي ومحمود حميدة، يعود الى كون السينما باتت، أخيراً، تشبه الواقع، أكثر مما بات الواقع يشبه السينما. فإذا كان في وسعنا ان نقول ان ليس ثمة قطيعة جذرية تطال تاريخ السينما المصرية بين البدايات والثمانينات، فإن في وسعنا أيضاً ان نقول، ان الاختلاف يكمن في علاقة المجتمع بالسينما. ففي العقود الخمسة الأولى من عمر السينما المصرية 1927 - 1980 اشتغلت السينما على الدوام، وغالباً بشكل غير واع، على تكييف المجتمع وربط ديناميته بديناميتها، وهكذا تمكنت من ان تصنع حركة وذهنية اجتماعيتين تشبهانها، وأدى هذا الى انهاء ما يمكننا ان نسميه بپ"عصر البراءة". بعد ذلك، ولكي تحافظ السينما على مكانتها، امام مجتمع تكونت ذهنيته العصرية وخرج أخيراً، بفضل السينما ولكن ايضاً بفضل عناصر اخرى غيرها، من القرون الوسطى، كان عليها ان تلعب اللعبة المعاكسة: كان عليها ان تبدو - هي - أكثر حرصاً على ان تشبه المجتمع، لا ان تجعله يشبهها. ولعل في هذه المعادلة تكمن الثورة الكبرى التي طرأت على السينما المصرية، الثورة التي جعلت للمخرج نفسه تاريخاً ذا حضور أساسي في تاريخ السينما كما سنرى في الحلقة الثانية من هذه السلسلة، تاريخ تغلب في بعض الأحيان على تاريخ النجوم الذي سنعالجه في الحلقة الثالثة. والحال ان أهمية مهرجان "معهد العالم العربي" في باريس، تكمن في كونه عبر المئة فيلم التي ستعرض، وعبر معرض اجناس وأنواع السينما، يضعنا مباشرة في وجه هذه السينما التي دخلت جلودنا وافئدتنا، وواكبت صبانا وشبابنا، وكانت جزءاً من تاريخنا. بمعنى انها اذ تكرم اليوم عبر هذه التظاهرة الاستثنائية، فإن تكريمها انما هو تكريم واستعادة لجزء من تاريخنا. الحلقة المقبلة: المخرجون نجوم لهم تاريخهم