في الأساس، لم تخلق السينما من أجل هذا. لم تخلق لا لتكون سينما ذاتية تعبر عن دواخل مبدعيها، ولا لتكون سينما فولكلورية محلية تصور عوالم ضيقة الحدود، وكذلك لم تخلق السينما. أصلاً، لكي تكون سينما قضايا ورسائل اجتماعية أو مواعظ أخلاقية. كل هذا دخل عالم الفن السابع لاحقاً، وهو في مرات عدة، وفي أشكال متفاوتة أثبت فاعليته. غير انه أبداً لم يتحول الى قاعدة لسلوك السينما. فالسينما ظلت على الدوام وفي المكان الأول فناً ترفيهياً وصناعة واسعة النطاق ومركز جذب لمئات الملايين من الناس الذين سعوا الى أفلامها دائماً، من دون ان تكون لديهم أدنى رغبة في معرفة أفكار المبدعين أو أحوال طفولتهم، أو أحلامهم المستقبلية، أو أحوال العوالم الضيقة التي تدور من حولهم. أما في الحقب التي تمكنت فيها الأنواع الخاصة جداً من السينما من "تمرير" أفلامها، وتحقيق نجاحات ما، والدخول - من أبواب عريضة - الى تاريخ الفنون، فإن هذا كله حدث في أشكال استثنائية، وبالافادة من ظروف خاصة، بل شديدة الخصوصية. فمثلاً حين تسود أفكار ثورية معينة على صعيد بقاع كبيرة من العالم صراع الأجيال، وثورة الطلاب، والحروب الكونية وما الى ذلك كانت السينما تعطي هامشاً ما، لمبدعين يقولون ما عندهم، من دون أن يبالوا بأن يصل هذا القول الى أعرض الجماهير ومن دون أن يحلموا بأن يتحول ذلك كله الى ثورة عامة في السينما، في المجتمعات وفي الذهنيات. ومن هنا، لا بد من التذكير مرات ومرات، بأن حركات وتيارات مثل "الموجة الجديدة" الفرنسية و"السينما الحرة" البريطانية و"نوفو سينما البرازيلية" و"الواقعية الجديدة" المصرية... وغيرها، ناهيك بأفلام كوروساوا في اليابان وساتياجيت راي في الهند، ظلت على الدوام هامشية في المنظور العام، وعبئاً على تمويلات غير جماهيرية، في المنظور الاقتصادي. وقد يكون من المستحسن هنا التذكير أيضاً، في ما هو قريب منا، بأن أفضل الأفلام الفنية والذاتية والتعبيرية التي صنعت في مصر خلال نصف القرن الأخير، انما كانت - مالياً - عبئاً على الدولة القطاع العام، أو سابقاً ولاحقاً على منتجين مبدعين مثقفين بدورهم غامروا من دون ان ينتظروا نجاحات جماهيرية كبيرة رمسيس نجيب وحسين القّلاّ مثلاً. وهكذا، مهما كان من شأن تمردية المبدعين الكبار ومعارضتهم هذا النظام أو ذاك، كان عليهم دائماً أن يتسولوا الأموال اللازمة لانتاجاتهم، من تلك الأنظمة نفسها، أو أن يصطادوا التمويل في الخارج، من دون توخي الربح، مع كل ما يستتبعه ذاك من اتهامات وتعقيدات. في اختصار نريد ان نقول هنا ان الفن السابع، في طبيعته، جعل السينما الجيدة سينما المؤلف، سينما القضايا، السينما التي تريد ان تقول شيئاً... الخ، سينما مستحيلة... سينما نيات طيبة أجل، وسينما مبدعة بكل تأكيد... ولكن دائماً سينما من دون مستقبل، حتى وإن كانت ساهمت في مرات عدة في إحداث بعض التحسن والتثوير في السينما السائدة نفسها. ومع هذا ثمة أصوات طيبة تطلع بين الحين والآخر متسائلة عن مصير هذا النوع من الإبداع، ناعية على الجماهير عدم معرفتها بالأفلام الهامشية، آخذة على مسؤولي الصالات في البلدان والعواصم، عدم اقدامهم على عرض ما لا يزال المبدعون مصرّين على انتاجه على رغم كل شيء. لا شك، مبدئياً، في ان هذه المطالب مشروعة فنياً وحضارياً. ولكن في المجال الواقعي لا بد من التساؤل: هل هناك، في زمننا الراهن - وهو الأسوأ في مجال تعبئة الجماهير لمصلحة الأعمال الجيدة وذات الفاعلية - امكان حقاً لتصور مواطن عادي يصطحب عائلته وأصدقاءه، ويقصد صالة سينمائية ويدفع عنه وعنهم، عند المدخل ما يوازي ثمن عشاء أسبوع كامل، لكي يشاهد، في بيروت أو اسطنبول أو حتى باريس أو القاهرة، فيلماً أفريقياً من غينيا، أو سورياً يروي طفولة مخرجه، أو مغربياً همه الدفاع عن حق المرأة؟ نحن نتمنى، بالطبع أن يكون هذا ممكناً. بل ثمة أمثلة تفيد حقاً، أن هناك سينما ذاتية وإبداعية حقيقية وذات قضايا ومسؤوليات في هذا العالم، تُنتج وتُشاهد خارج دوائر المهرجانات ونوادي السينما - التي لم يعد أحد يقصدها على أي حال - وما أفلام لاس فون تراير وبيدرو المودافار ويوسف شاهين - في حالاته القصوى -، والانكليز الجدد، وباز ليرمان وغيرهم عشرات، سوى دليل حي على هذا. ولكن هل أن معظم مخرجي البلدان العربية - من ذوي الرغبات الفنية الحقيقية - وأفريقيا، وعرب فرنسا ومن شابههم، قادرون حقاً على تحقيق أفلام ذاتية وجذابة، فائقة الجودة الفنية ومقنعة، مثلما يفعل الذين ذكرنا أسماءهم؟ نشك في هذا. بل نشك حتى في أن تكون كل تلك الأفلام الآتية من خارج مراكز الانتاج الجماهيري هوليوود، بومباي، القاهرة... الخ قادرة على تحقيق أي نجاح، حتى في المهرجانات، إن لم تُضخ بإعلام سياسي البعد، أولاً وأخيراً، كما هي حال ما يصاحب عرض معظم الأفلام الايرانية، مذكراً بالضجة التي ثارت من حول الآداب الانشقاقية في أوروبا الشرقية وهي آداب ماتت مع موت أسباب الانشقاق!. ويقيناً أن هذا كله يقودنا الى حقيقة بديهية وهي أن غرابة أمر مبدعي السينما الجيدة في أفلامنا هذه هي انهم يطلبون العنصرين اللذين لا يمكن اجتماعهما في زمننا: المردود المادي العريض، والاعجاب الفني الخالص. وكل واحد من هؤلاء يعتقد - في شكل مضحك مبك - أن فيلماً عن حياته وطفولته، أو عن مشكلات حياته اليومية الخاصة، أو عن فولكلور بلاده، قادر حقاً على تحقيق الاثنين له. ومن البديهي أن هذا الالتباس يوقع في مأزق خلاصته أن كل هذا الرهط من الأفلام لا يمكنه أن يعيش إلا عالة على الآخرين وليس جمهور السينما من بين هؤلاء الآخرين، وهذا ما يجعله في نهاية الأمر "فناً غرائبياً" يرضي بعض الغرباء الباحثين عن الغرابة، من دون أن يثير أي اهتمام لدى الجمهور الذي يفترض انه موجه اليه أصلاً... ولما كان مثل هذا الأمر محدوداً برغبة الغرباء في الاستزادة، يمكن القول ان هذا كله يحول الأمر الى ما يشبه السينما المستحيلة. وهذا النوع من السينما بات من السهل على التلفزات منافسته وقهره في يومنا هذا. ولكن، إذ نقول سينما مستحيلة هل ترانا ندعو الى موته؟ على الإطلاق. كل ما في الأمر أننا ندعو الى بعض الواقعية و... التواضع. فاليوم، ولأن الزمن رديء وجمهور السينما الجيدة غير موجود، أو غير قادر - ان وجد - على تمويل نتاجات هذه السينما، أفلا يتعين على المبدعين الراغبين في مزيد من الإمعان في انتاج هذه الأعمال، أن يلتفتوا الى المكان الوحيد الذي يمكنه ان يوفر لهم سنداً وتمويلاً و... جمهوراً حتى ولو كان محدوداً... وهو التلفزيون؟