"دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "ثبات للتطوير العقاري" تختتم مشاركتها الناجحة في "سيتي سكيب 2024" بتحقيق مبيعاتٍ نوعيةٍ وتوقيع اتفاقياتٍ مع بنوكٍ رائدة    عودة أكثر من ربع مليون طالب وطالبة في بدء الفصل الدراسي الثاني    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    "المواصفات السعودية" تنظم غدًا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    أغرب القوانين اليابانية    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    عروض ترفيهية    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    منتخبنا فوق الجميع    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    ابنتي التي غيّبها الموت..    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة في حياة وأعمال مخرج الواقعية صلاح أبو سيف ينشد أنشودة الحياة في فيلم عن … الموت ! 3 من 3
نشر في الحياة يوم 30 - 03 - 1992

بعدما روينا في الحلقتين السابقتين قصة صلاح ابو سيف مع نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس وكبار نجوم الفن والسينما، تتحدث الحلقة الثالثة عن اعمال مخرج الواقعية من البداية الى النهاية وصولاً الى طموحاته المستقبلية رغم بلوغه الثمانين.
طوال سنوات عمله السينمائي كمخرج والبالغة نحو خمسين سنة حتى الآن، حقق صلاح ابو سيف نحو اربعين فيلما يغلب على نصفها الطابع الاجتماعي، ويتوزع النصف الآخر بين عشرة افلام عاطفية، وأربعة افلام تاريخية وثلاثة افلام سياسية وفيلمين هزليين. والحال ان رصدا لايقاع عمل صلاح ابو سيف يفيدنا انه حتى العام 1960 حقق ثلاثة ارباع افلامه 30 فيلماً بينما لم يحقق خلال السبعينات والثمانينات وحتى الآن سوى عشرة افلام: سبعة افلام في السبعينات، فيلمان فقط خلال الثمانينات، اما في التسعينات فهو لم يحقق حتى الآن سوى فيلمه الاخير "المواطن مصري" عن رواية ليوسف القعيد. فهل يمكن استخلاص نتيجة معينة من هذه الارقام؟
يقول صلاح ابو سيف:
"ان هذا في طبيعة الامور. في البداية كنت مستعجلاً ومتحمساً.. اما الآن فان حركتي صارت ابطأ وصرت افضل ان اشتغل على الفيلم الواحد سنوات عديدة... افضل الا احقق فيلما جديداً الا حين يكون لدي شيء حقيقي وجديد اريد قوله.. او حين اجد نفسي امام نص يلحّ علي، كما كان الحال حين حققت "السقّا مات" عن رواية يوسف السباعي، وناضلت طويلاً لكي اجد لها منتجاً... بعدما رفضها الجميع ناظرين اليها على انها رواية سوداوية وعلى انها مجرد تأمل كئيب حول الموت. بدلاً منها كانوا يفضلون ان اكرر تجربة "وسقطت في بحر العسل" وهو فيلم عاطفي ميلودرامي لم اعمل عليه بأي حماس على أي حال، لكنه حقق نجاحاً تجارياً لا بأس فيه الفيلم مأخوذ هو الآخر عن رواية لاحسان عبدالقدوس، وتقوم ببطولته النجمة نبيلة عبيد. بالنسبة الى "السقّا مات" انتهى بي الامر لأن اجد من زميلي يوسف شاهين حماسا لانتاجه، فتحقق الفيلم وانا اراه حتى اليوم واحدا من اجمل افلامي واقواها... بل ولا ارى فيه تلك السوداوية التي يراها البعض، بل اعتقده انشودة للحياة حقيقية لا لبس فيها ولا غموض. وهو فيلم احبه لأنه اعادني الى الحارة والى التعامل مع الممثلين المجيدين، بعد سنوات من الغياب عنهم.. وبعد مرحلة من الافلام العاطفية والافلام التي كررت فيها نفسي واحياناً الى درجة لا تطاق. قبل ذلك، خلال الستينات كنت حققت اربعة من اجمل افلامي، بدءاً بپ"لا وقت للحب" وصولا الى "القضية 68" مرورا بپ"القاهرة 30" و"الزوجة الثانية"… في هذه الافلام جميعها حدث للنقد الاجتماعي لدي ان راح يتجذر، وتطور تعاملي مع الممثلين واشتغالي على اللغة السينمائية. وكانت تلك، في الواقع سنوات الغليان، على كل صعيد، ومن هنا جاءت تلك الافلام تعبيرا عن تفاعلي مع الغليان العام. ولم يكن مصادفة ان تحمل نصوص تلك الافلام تواقيع يوسف ادريس ونجيب محفوظ واحمد رشدي صالح ولطفي الخولي…".
جمال الآخرة في "السقّا مات"
يقينا ان تلك الفترة التي يتحدث عنها ابو سيف هنا كانت الفترة التي وصل فيها التجاذب السياسي والاجتماعي في مصر الى ذروته، وهو تجاذب عبرت عنه تلك الافلام الاربعة. ولكن من المدهش ان الاسئلة الحادة التي طرحها ابو سيف في تلك الافلام وان الشخصيات والاحداث التي رسمت في سيناريوهاتها، سرعان ما أخلت المكان لمرحلة يمكن النظر اليها الآن على انها الاكثر ابتعاداً عن اسلوب ابو سيف وعن تاريخه السينمائي، من "شيء من العذاب" 1969 الذي يحكي دراما عاطفية غريبة الاطوار ساذجة المنحى، الى "سنة اولى حب" عن ثلاث قصص لمصطفى امين تترابط في ما بينها بشكل مفتعل، الى "وسقطت في بحر العسل" المذكور آنفا.. علما بأن النوايا الطيبة لا تشفع لفيلم "الكراب" 1975 الذي راح يجري على وتيرة افلام الكشف الاجتماعي التي سادت في ذلك الحين، ولم يكن هو افضلها بأي حال من الاحوال.. اما "المجرم" الذي حاول فيه صلاح ابو سيف ان يقدم انتاجا جديداً لپ"لك يوم يا ظالم" فلم يكن له اي صدى، لا على صعيد النقد ولا على صعيد الاقبال الجماهيري. يبقى من تلك المرحلة فيلمان تاريخيان عاد فيهما صلاح ابو سيف الى هذا النمط بعد غياب طويل كانت تجربته الاولى في "مغامرات عنتر وعبلة" والثانية في النسخة العربية من "الصقر" أما الفيلمان التاريخيان "فجر الاسلام" عن رواية "عبدالحميد جودة السجار" ثم "القادسية" الذي حققه في العراق في العام 1981 عن الفتح الاسلامي لبلاد الرافدين بقيادة سعد بن ابي وقاص. ولئن اتى الفيلم الاول مصوراً، الى حد ما، لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية في الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام وبعده، فاحتوى على مشاهد تحسب لصالح مخرجه، فان الفيلم الثاني اتى غير مقنع، فيه الكثير من التهافت ولا سيما انه حاول ان يشكل تبريراً للحرب العراقية الايرانية!
امام هذا كله كان من الواضح ان صلاح ابو سيف كان بحاجة ماسة الى تحقيق "السقا مات" لكي يستعيد علاقته مع مسيرته السينمائية الحقيقة. والواقع ان هذا الفيلم لم يؤد هذا الغرض وحسب، بل انه تجاوز هذا ليعطي السينما المصرية واحدة من اجمل قصائدها في شفافيته وقوته التعبيرية، وخاصة في اداء ممثليه الرئيسيين عزت العلايلي وفريد شوقي. لقد اتى هذا الفيلم ليقول ان صلاح ابو سيف لم يقل بعد كل ما عنده، وانه لا يزال في جعبة هذا الفنان الكبير، اشياء كثيرة يفاجئنا بها.
يقول صلاح ابو سيف:
"بقدر ما لم افاجأ بالاستقبال الذي خص به هذا الفيلم، فوجئت بسوء الفهم الذي رافق استقبال "البداية" بعد ذلك بعشرة اعوام. وانا لا اخفي عنك هنا انني احب فيلم "البداية" حبا جما.. لذلك احب ان تسألني عن هذا الفيلم. اذ رغم حبي الشديد لپ"السقا مات" اعتقد ان النقاد تحدثوا عنه بما يكفي، على عكس ما حدث لفيلم "البداية" الذي ارى ان فيه تجديداً كبيراً ادخلته الى السينما العربية".
الى المدينة الفاضلة
فيلم "البداية" فيلم فانتازيا - سياسية حققه ابو سيف في العام 1985 بعدما كان توقف زمنا عن تحقيق اي فيلم جديد… وحاول فيه، بأسلوب التهكم، وعبر حكاية طائرة تحط اضطرارياً في جزيرة مهجورة، ان يدرس العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقوم بين ركابها، وان يتأمل في مسألة السلطة…
"اعتقد اليوم - يقول ابو سيف - ان هذا الفيلم قد ادى الغاية التي توخيتها منه، فهو وصل الى كل الناس، وهذه معادلة صعبة كنت سعيت اليها دائما في افلامي فنجحت في الوصول اليها احيانا، واخفقت في احيان اخرى. ولأن فيلم "البداية" وصل الى الجميع، ارى بأنه حقق ما حاولته دائما. السينما فن يجب ان يصل الى الجميع، وان يخاطب الجميع عينا واذنا وفؤادا. الواقع انني احسست في هذا الفيلم ان الوقت قد حان لكي اوضح رأيي في مسألتي الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في المجتمع، فاخذت ان اضع شخصياتي النموذجية في مجتمع مغلق وان ارصد تطور العلاقات في ما بينهم بعدما جعلت كل واحد يمثل فئة اجتماعية او اخلاقية او الاثنتين معاً. ولقد سار الفيلم كله على هذا الخط، فبرز المستغل منذ اول دقيقة وتحددت العلاقات. واذكر لك هنا انني حين رسمت هذا الفيلم كان في نيتي ان اجعله جزءاً من ثلاثية: الجزء الاول منها يتناول الديموقراطية والاستغلال. اما في الجزء الثاني فاتخيل اننا قد حققنا الديموقراطية والعدالة الاجتماعية لاتساءل: لو فعلنا هذا، هل سنتمكن حقا من القضاء على الاستغلال. وأما الجزء الثالث الذي كنت احبه كثيرا، وكنت راغبا في تحقيقه بسرعة، فانه ينطلق من فكرة "المدينة الفاضلة"، تلك المدينة التي تعيش من دون لواجم، من دون مشكلات ومن دون حدود، ولا يكون فيها مواطن او غريب، او مقيم او غير مقيم، بل يسودها مجتمع، يحصل فيه كل واحد على ما يشاء متى يشاء، دون حقد او ضلال… الى آخر ما هنالك. كنت اريد في هذا الفيلم ان اتساءل كيف سنعيش في مثل ذلك المجتمع… يومها - اواسط الثمانينات - كان رأيي اننا رغم ذلك كله سوف نعيش في خوف دائم من انفجار الحرب يوماً بين السوفيات وأميركا، في خوف دائم من ذلك الزر الذي قد تكبسه يد ما، فتنطلق قنبلة قاتلة، تكلف، عدا المآسي والارواح البشرية، اكثر من مئة مليار دولار. يومها كنت ارغب للفيلم ان يكون على شكل حلم…"
هل تعتقد اليوم ان مثل هذا الفيلم لا يزال ممكنا بعدما حدث ما حدث في الاتحاد السوفياتي، وزال طرف من طرفي الصراع والخطر؟
- "زال الاتحاد السوفياتي.. هذا صحيح، ولكن هل تعتقد ان المخاطر قد زالت؟ هل اختفت الاسلحة النووية؟ هل زال استغلال الانسان للانسان؟ واين العالم الثالث؟اين الحلول لمشكلاتنا التي تشكل كل واحدة منها الف قنبلة ذرية موقوتة؟".
يقول صلاح ابو سيف هذا ويذكرنا بفيلمه الجديد "المواطن مصري" الذي حققه اخيراً ويتناول فيه العديد من هذه المشاكل بلغة سياسية تقترب احياناً من حدود المباشرة في اقتباس عن رواية واحدة وغاضبة ليوسف القعيد.
لا حاجة للممارسات الديكتاتورية
قبل ان نغرق في هذا الحديث السياسي رغم اهميته، ما رأيك في ان نعود للتوغل في اسلوبك السينمائي… احب ان اسألك، كيف تدخل الى الاستديو عند التصوير؟
- "ادخل حاملاً ورقة صغيرة، عبارة عن تذكرة مكتوبة بخط يدي ادون فيها كل شيء باختصار يغنيني عن النظر الى السيناريو في كل لحظة ولقطة. انا اعتقد ان على المخرج ان يكون حاملاً كل شيء داخل دماغه. ان عملي الطويل في التوليف هو الذي علمني كيف اصور الفيلم كله في رأسي منذ البداية. وهكذا تراني ادخل يومياً الى الاستديو وكل شيء في دماغي. وعلى الفور اتفاهم مع التقنيين على خطوط عمل اليوم وما الذي اريد ان ابرزه، ثم اقوم بالتجارب مع الباقين. ثم، بعدما نتقن اللقطة كلها فنياً، نقوم بدعوة الممثلين الى داخل البلاتوه، ونقيم التجارب معهم بناء على خطة سير الكاميرا وحركتها وامكانات الاضاءة. وحين يصبح هذا كله واضحاً للجميع نبدأ التنفيذ الفعلي للقطات. خلال العمل اذا اخطأ واحد منا، او استنكف عن اداء ما هو مطلوب منه لا اتولى ابداله: انت اخطأت، بل اقول: "كويس قوي… حنعيد تاني!!" عندها يستريح الشخص المعني ويفهم سبب الاعادة. انني احب جو العائلة الذي يخيم داخل البلاتوه خلال التصوير، حيث يسود الضحك والمزاح، وتنتفي الحاجة لأية ممارسات ديكتاتورية. في مثل هذا الجو تشعر انك تلعب اكثر مما تشعر انك تقوم بعمل خطير. من هنا ندر ان احس العاملون معي بالتعب".
صحيح ان اساليب صلاح ابو سيف تتنوع بين فيلم وآخر، خاصة وان الرجل قد خاض في العديد من الانواع السينمائية فتنقل بين الكوميديا والتاريخ، بين النقد السياسي والنقد الاجتماعي، بين الافلام العاطفية والافلام الجنسية، غير ان هذا لم يمنع سينماه من ان تبرز - في معظم الاحيان - موحدة الاسلوب، كما لم يمنع لغته السينمائية من ان تبدو منضبطة مقتصدة سواء اكان الفيلم واقعياً او فانتازيا، ريفياً او مدينياً. ومن الواضح ان صلاح ابو سيف كلاسيكي صارم في كلاسيكيته، لا يحب البهلوانية في الاخراج… حركة الكاميرا لديه تتبع الموضوع، وتتبع تصرف الشخصيات. وهذا الامر يقودنا بالطبع الى سؤال صلاح ابو سيف عن كيفية عمله مع الناس الذين يحبهم اكثر من غيرهم: الممثلون هؤلاء الذين لا يتحدث عن الواحد منهم الا وتلوح على وجهه اطياف ابتسامة ابوية لا يمكن لمعناها ان يخفى على احد. يقول ابو سيف:
"انني اتعامل مع الممثل بوصفه انساناً، لا باعتباره دوراً او شخصية في الفيلم. منذ البداية اضعه في جو تصوري للفيلم وللدور الذي سيتوجب عليه ان يلعبه في الفيلم. وخلال التصوير من المستحيل ان اصرخ او ان اوجه ملاحظة الى الممثل بصوت مرتفع. فأنا اشعر على الدوام انني منذ اخترته للدور، انما اخترته عن اقتناع وعلى اساس انه ممثل جيد. قبل التصوير بفترة اوزع السيناريو المفصل على كل العاملين في الفيلم. وخاصة على الممثلين، حيث يقرأ كل واحد منهم دوره وادوار الآخرين بمفرده ويفكر فيها... ثم نعقد اجتماعاً للمناقشة يتولى خلاله كل واحد ابداء وجهة نظره في السيناريو بكل حرية. فاذا ابدى ملاحظات استساغها الجميع يتم تعديل السيناريو على هذا الاساس. ونحن، على اي حال، نتناقش حتى نصل الى قناعة مشتركة، بحيث نكون - في النهاية - راضين عن العمل جميعنا، ويكون كل واحد منا اضاف من عنده. في معظم الاحيان يحدث لبعض الممثلين ان يكتفي الواحد منهم بقراءة دوره فقط ودراسة موقعه بالنسبة الى الآخرين... لكني لا احب هذا. في فيلم "القاهرة 30" على سبيل المثال، كان عندي ثلاثة ممثلين جدد هم: حمدي احمد، احمد توفيق، وعبد العزيز مخيون صاحب دور "علي طه" وكلهم من خريجي المعهد. مع هؤلاء اجريت تجارب عديدة وعديدة وكأننا نتدرب على مسرحية، وذلك لأني كنت مدركاً كل الادراك لصعوبة الموقف بالنسبة الى الرهبة التي يستشعرها الممثلون الجدد. حيث ان غمزة او حركة من اي ممثل معروف، قد تنعش الجديد او تزعجه. لذلك اكثرت من التجارب، بحيث انهم ما ان دخلوا فعلاً الى الاستديو للتصوير، حتى كان كل واحد منهم مدركاً لاسرار اللعبة كلها. اضف الى هذا ما يعرفه العاملون معي من استعدادي الدائم لتقبل النقاش وخوضه، لأي مدة مطلوبة ولأي درجة ممكنة... ولكن كل هذا قبل الدخول الى الاستديو. اذ، ما ان ادخل الى الاستديو لكي انكب على التصوير الفعلي، حتى ارفض كل نقاش... لأنني لا اؤمن بالعفوية الآنية".
انواع من المخرجين
من يتابع سينما صلاح ابو سيف عن كثب، لن يفوته ان يلاحظ مدى انعكاس هذا السلوك العملي على النتيجة التي يسفر عنها الفيلم كله. فلقد سبق ان اشرنا الى افراط ابو سيف في لجوئه الى الكلاسيكية التي لم يحد عنها قيد انملة، فجعلت من سينماه - حقاً - اقل السينمات العربية ارتجالا. هل يحسب هذا له ام يحسب عليه؟ مسألة قابلة للنقاش طالما ان المخرج نفسه يعرّف عمل المخرج قائلاً بعدما يتساءل عمن هو المخرج؟: "انه شخص يروي حدثاً يؤمن به ايمانا قوياً، ويؤمن ان عليه ان يعبر عنه بصيغ غاية في البساطة لكي يكون مفهوماً من غالبية الناس. المخرج هو راو حكواتي مقتنع بما يرويه وواعياً به. انني اماثل بين المخرج وبين شهرزاد في الف ليلة وليلة، وهي تحكي حكاياتها لشهريار. فان تبدت تلك الحكايات سيئة من المؤكد ان الرواية سوف تفقد رأسها... وهذا الكلام نفسه يمكن قوله عن المخرج... فالمتفرج الذي يترك الصالة قبل انتهاء عرض الفيلم هو اسوأ ما قد يحدث للمخرج. خروجه حركة تعادل الحكم بالاعدام على الفيلم".
ويرى ابو سيف ان هناك ثلاثة انواع من المخرجين:
"المخرج الهروبي، الذي يهرب امام اي شيء، ويبذل جهده لكي يجمل صورة العالم والمجتمع، فيصنع افلاماً مزورة قائمة على الكذب مظهراً الحياة شديدة الجمال قائلاً ان الفقير من الطبيعي له ان يكون فقيراً، لكنه سوف يكون سعيداً في نهاية الامر. لأن الفقر صنو للشرف والاستقامة، اما الثراء فصنو للحياة المضطربة التي لا راحة فيها! ان هذا المخرج يضع اسئلته ضمن اطار التصالح الاجتماعي لكي يحذر الناس مانعاً اياهم من ان يتمردوا على واقعهم الحياتي".
ويضيف: "المخرج الوصولي، وهو ذاك الذي يصبح اشتراكياً خلال نصف ساعة اذا ما دعت السلطة السياسية الى الاشتراكية… فاذا ما توطدت السلطة للفاشية، سنجد مخرجنا هذا وقد اصبح فاشياً لتوه… ونراه يوماً صديقاً للفلاح ويوماً صديقاً للعامل… وهذا النوع من المخرجين موجود بكثرة عندنا…
وأخيراً هناك المخرج الايجابي الذي يؤمن بوطنه، يفهم وطنه وفنه ويؤمن بأن للفن غاية محددة وأنه يخدم قضية محددة. هذا المخرج يهتم بالقضايا التي تهم الناس. صحيح انه قد يكون عاجزاً عن اقتراح الحلول… لكنه قادر على طرح الاسئلة، والحال ان طرح السؤال هو الوصول الى نصف الجواب على الأقل…".
فهل علينا ان نقول بأن صلاح ابو سيف عرف دائماً كيف يطرح اسئلته على الأقل؟
لا يخامرنا في هذا اي شك… فالرجل كان على الدوام من الذين جعلوا من اعمالهم صرخة في سبيل مستقبل افضل لمصر وللعالم العربي.
وماذا بعد هذا كله؟
لكن صلاح ابو سيف، كان الى هذا، وقبل هذا، فناناً حقيقياً… كان ولا يزال… فهو اليوم، رغم اقترابه من عامه الثمانين، لا يزال مؤمناً بقضية السينما وبقضية الفن عموماً.
لو سألته اليوم عن مشاريعه المقبلة، قد يبتسم بغموض ويقول: "وهل في العمر متسع لمشاريع؟" فإياك ان تصدقه!
صلاح ابو سيف هو من طينة الناس الذين لا يهدأون ان لم يجدوا عملاً، او على الاقل مشروعاً يشغلهم. ولئن كان هو مصراً في جلساتنا القاهرية الأخيرة قبل اسابيع على ان ليس ثمة شيء الآن في جعبته… فان الشائعات تكثر من حول مشروعه المقبل، بعضها يتحدث عن احيائه لمشروع استكمال اجزاء ثلاثية "البداية"، وهو مشروع سكت عنه الرجل منذ سنوات. وبعض المشاريع يتحدث عن رواية نجيب محفوظ الرائعة "حضرة المحترم" التي ما انفك ابو سيف يتحدث عن رغبته في تحقيقها - رغم صعوبتها القصوى - منذ سنوات وكله رغبة في ان تسجل عودة التعاون بينه وبين نجيب محفوظ، بعد ثلاثين عاماً من انقطاع هذا التعاون…
وهناك مشروع يتحدث عن اعادة انتاج لپ"الفتوة"، وهو مشروع يستبعده ابو سيف مذكراً بفشل تجربة اعادة انتاج "لك يوم يا ظالم"…
اذن هل سيصمت صلاح ابوسيف لفترة بعد "المواطن… مصري"؟
على الارجح… لا.
على الارجح هناك مشروع آخر، تتحدث عنه الشائعات هو الآخر، ولكن بالحاح غريب: مشروع تحقيق فيلم سوري عن زنوبيا ملكة تدمر، يقال ان صلاح ابو سيف زار دمشق اخيراً مرات عديدة من اجل استكمال البحث فيه.
عندما تسأله عن هذا المشروع يهز رأسه مبتسماً ويقول: "… وهل تعتقد ان عجوزاً مثلي له القدرة على تحقيق فيلم من هذا النوع يحتاج الى بناء ديكورات تاريخية عديدة ومعقدة. والى عشرات الممثلين، وألوف الكومبارس" ثم يروح شارحاً لك تفاصيل عديدة تقول لك ان الرجل انما يدرس المشروع حقاً…
ثم تسود فترة صمت يقول بعدها وقد سهت عيناه بعيداً: "على اي حال، ان اي مخرج تغريه فكرة فيلم عن زنوبيا، لا بد له ان يتوصل الى اقناع سعاد حسني او منى واصف بلعب الدور… فقط ممثلة كبيرة من طينة هاتين الفنانتين بامكانها ان تلعب الدور…".
والسؤال المتبقي هو: ترى هل حسم صلاح ابو سيف امره بين سعاد حسني ومنى واصف!؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.