لا يمكن للأحداث الدموية التي تعصف بالجزائر، منذ أكثر من 3 سنوات، الا ان تنعكس على نشاط مبدعيها وتترك بصماتها على انتاجهم. ولم يشذ عن هذه القاعدة أب الرواية الجزائرية الحديثة الأديب البارز محمد ديب. في اول حديث صحافي له منذ سنوات طويلة، اعلن صاحب "الحريق" ل"الوسط" قبل قرابة العام، انه عاد الى الكتابة بعد انقطاع، وانه يشتغل على رواية عن "الحريق الجديد" الذي يعصف ببلاده. لكن ديب ذكر حينها ان النص الروائي يحتاج الى فترة تخزين لا غني عنها كي يكتمل تشكله، ثم الى فترة أخرى طويلة نسبياً لكتابته واعداده للنشر، ما يجعله في احيان كثيرة يتأخر سنوات عدة عن الاحداث التي يتناولها. ويبدو ان صاحب "الدار الكبيرة" و"إغفاءة حواء" اراد ان يملأ فترة الانتظار هذه، ريثما تكتمل روايته المرتقبة، فأصدر مجموعة قصصيه بعنوان "الليلة المتوحشة" منشورات "البان ميشال"، باريس. وصدور هذه المجموع القصصية يعد حدثاً بارزاً في مسار محمد ديب الادبي، كونها تعيده مجدداً الى الكتابة عن وطنه وبيئته الاصلية، بعد غياب طال ثلاثين عاماً صرفها في التعبير عن مشاغل اكثر ذاتية، عبر اجواء وأمكنة اخرى. فمع استقلال الجزائر، استقال من دور "المحامي" الذي فرضته عليه ظروف الاستعمار، اذ دفعته الى المرافعة باسم شعبه والى وضع كتاباته في خدمة الحركة الوطنية التي انخرط فيها. وها هي "حرب الجزائر الثانية" تعيده الى اتون "الحريق" ذاته. تتكون المجموعة من قصة مركزية، هي "الليلة المتوحشة"، تقع في قرابة خمسين صفحة، تتفرع عنها او تضاف اليها اثنتا عشرة قصة اخرى اقل طولاً وأهمية. وتروي قصة "الليلة المتوحشة" حكاية نديم وأخته التوأم باهي، وهما شابان حزائريان يغامران بالخروج في جولة محفوفة بالمخاطر في ليل المدينة الموحش. وكلما تقدم بهما السير عبر الشوارع التي ولدا وتربيا فيها، كانت حسرتهما تزداد على ايام الأمن والطمأنينة. وعلى الرغم من الخطر المحدق، يصر الشقيقان على المضي في جولتهما، مستمتعين بالرعشة اللذيذة التي يولدها هذا الارتماء في المجهول. عند الوصول قبالة البريد المركزي في وسط المدينة، يقرران الافتراق، تفادياً لاثارة الشبهات، فيسبقها هو في الطريق الملتوي الهابط وصوب الميناء. لكننا سرعان ما نكتشف ان نديم وباهي انتقلا من موقع الضحية الى موقع الجلاد! يقف نديم في لامكان المتفق عليه، في الطريق الممتدة على طول الساحل، متظاهراً بتأمل البحر. وحين تقترب اخته، تدس في يده شيئاً اخرجته من حقيبة يدها، وتواصل السير مسرعة، فيما يقطع هو الطريق ويتوقف عن عتبة المقهى المقابل. وفي اللحظة التي تلتفت فيها انظار الجميع نحوه، يرمي ما في يده وينطلق هارباً، ويلي ذلك انفجار ينسف المقهى بمن فيه ... يدعو محمد ديب، في خاتمة الكتاب، الى قراءة قصص المجموعة كفصول من رواية واحدة. فكلها تحاول الاجابة عن سؤال واحد: كيف ولماذا حدث ذلك؟