ما زال رحيل الكاتب الجزائري الكبير محمد ديب في منفاه الباريسي، يسيل الكثير من الحبر، في الصحافة الفرنسية والفرنكفونية والعربية. فهذا الكاتب الذي يعتبر من آخر الكبار في الأدب العربي الفرنكفوني أسس عالماً فريداً، روائياً وشعرياً. هنا مقالة عنه يكتبها الروائي الجزائري واسيني الأعرج. في صمت كبير، مثلما تتدحرج الريشة وهي تبذل مجهوداً كبيراً لئلا تنكسر على الأرض بقوة في رحلتها الأخيرة، ينزل محمد ديب لينام في تربة المنفى في الضاحية الباريسية لا سين سان كلو، تربة أرحم من تراب الأجداد. لم يكن هناك كثير من الناس، فقط كمشة من الأصدقاء المقربين جداً مثلما اشتهى. لم يوص محمد ديب بأي شيء ولكنه رفض ان تصحب رحلته نحو المقبرة ترسانة الكذب والخطابات المزيفة التي تتصيد الموت لكي تعلن ولاءها للثقافة والمثقفين. منذ أكثر من شهر وهو يعاني ألم سقوطه الأخير وتضرره في ساقه التي انكسرت. في غمرة هذا الجرح لم تسأل عنه الا قلة قليلة. وعندما التأم العظم وقام على رجليه ترك محمد ديب هذه الدنيا، وكأنه كان يريد ان يواجه الناس والله في اللحظة الأخيرة وهو واقف باستقامة وليس ممدداً على سرير المرض. رجل قاوم الموت المجاني والخسران الرخيص بقوة. محمد ديب اختار الصمت والعزلة بعدما ضيع ثقته في أمور كثيرة كم بدت له أليفة، وعندما اكتشف أعماقها فوجئ بهول الفاجعة. الجزائر التي منحها "الثلاثية الكبرى" وقد سماها لويس أراغون في الخمسينات "ملحمة الجزائر"، منحته هدية ملغومة اسمها المنفى والنسيان. قد لا يكون محمد ديب الوحيد في هذا الوضع، ولكنه كان آخر عمالقة الأدب العربي المكتوب باللغة الفرنسية ولا نعرف فداحة خسارتهم الا عندما يذهبون. يبدو ان قدر العظماء هذا هو، ينسحبون بصمت ومن دون أدنى ضجيج. لم يكن لمحمد ديب أي شيء استثنائي الا كتابته، لم يتنافس على منصب أو على جاه، مات في الشقة التي لملمت منفاه في حي بسيط على الأطراف البعيدة لباريس. عندما كتب ديب "ثلاثية الجزائر" أو "ثلاثية الجنوب" كما يحلو لبعض النقاد تسميتها، كان يفكر في تجاوز حدود الإدانة باتجاه تشييد عالم أدبي، تنسحب الظروف السياسية التي أنتجته ويبقى هو. من منا اليوم، عشاق الأدب خصوصاً، من لا يتذكر النصوص الثلاثة: "الدار الكبيرة" و"النول" و"الحريق" التي استطاعت ترجمة سامي الدروبي ان تعيد لها بعضاً مما خسرته عندما انتقلت الى لغة الآخر؟ من منا لا يتذكر شخصية عمر أو شخصية عكاشة أو شخصية كومندار وغيرهم من الذين شيّدوا عالماً يكاد ينضح بتفاصيل الحقيقة؟ جعل محمد ديب بانجازه الثلاثية من الكتابة باللغة الفرنسية كتابة وطنية، ولم تكن اللغة عائقاً تعبيرياً كبيراً. باتت صورة الجزائر كبيرة وواضحة وهي تخرج من حرب الى حرب ثانية أكثر ضراوة جعلت شخصيات الرواية تؤسس قناعاتها النضالية ليس فقط انطلاقاً من خيارات ظرفية ولكن من صلب التجربة الانسانية التي لا حدود لقوتها. واللغة لم تكن فقط غنيمة كما يقول كاتب ياسين وهو يرد على الذين اعتبروه كاتباً ينتمي الى عالم كتّاب آخرين، ولكنها كانت الحرب ذاتها التي لا تموت، حرب على الجهل وعلى الظلم ولو كان ذلك بوسائط لغوية اخرى. بعد فترة المنفى الأول الذي أجبره على خيارات صنعها الآخرون من أدبهم ومن لغتهم، يعود نحو أرضه، أرض الأجداد التي غابت ثم عادت. يجد الأخوة الأعداء بدأوا في سن السكاكين والحرب الأهلية على الأبواب وحرب الولايات تشتعل والحكومة الموقتة المدنية قد أزيحت نهائياً عن الخريطة وأنزلت النخبة الى الحضيض. ووجد الذين أشعلوا الثورة ونظّروا لها وجهاً لوجه أمام الأخوة الذين استباحوها بالسلاح، لتلبس الجزائر منذ ذلك اليوم لباس الحداد الأخضر أو المرقط، بدلة عسكرية لم تتخلّ عنها أبداً. لم يكن الوطن الذي حلم به ديب الا يوتوبيا لم تشذ مطلقاً عن المنظومة العربية العامة لتلتحق الجزائر في ظرف وجيز بالخطابات السهلة واللاديموقراطية، مؤجلة بذلك حلم الديموقراطية الى وقت غير معلوم. في هذا الخضم يلتفت ديب مرة أخرى الى فرنسا مفضلاً المنفى على أرض نسيت بسرعة شهداءها وتاريخها. لم يعد ديب بعد ذلك الى الجزائر إلا مرة واحدة ليقدم الجزائر نصوصه لاعادة طباعتها. لكن المؤسسة الوطنية للكتاب ترفض نشرها لسبب خفي اسمه المصادرة أو الجهل. أما السبب الظاهر فهو رفضها تعويض الدار والكاتب مستحقاتهما، هذه الجزائر التي ظلت طوال تلك المدة سخية تمنح حق 25 في المئة لأي كاتب مبتدئ. لم يعامل ديب على وفق هذا الحق وهو الكاتب الذي لم يكن في حاجة الى نعوت اضافية تبجيلية، إذ كانت نصوصه التي لم تتوقف ابداً، شاهدة على التجديد الدائم. وأصبح المنفى لا نزوة ثقافية ولكن حالة وجدانية وتراجيديا لم تعمل كتاباته اللاحقة الا على تأكيدها. في رواية "هابيل"، لم يقتل الأخ أخاه هذه المرة كما في الرواية القديمة ولكنه في رواية محمد ديب سيدفع به نحو مغاور المنفى والموت والعزلة لئلا تلصق الجريمة بأحد. كلهم قتله بطريقته وكلهم يتبرأ من دمه. وفي النسق نفسه تسير رواية "من يذكر البحر؟" و"مجرى على الحافة الموحشة" و"سيد الصيد" وغيرها من الروايات التي رسمت الخيبة وأعطتها هوية: الانكسار والمنفى وملامحهما. كانت دار لوسوي هي التي أعطت هذه الأعمال فرص الانتشار ثم توقفت فجأة عن النشر له. ربما لأن انشغالات ديب تغيرت. لم تعد الرواية النضالية هاجسه ولا الرواية السياسية ولكن الكتابة بدأت شيئاً فشيئاً تنسحب نحو الذات لتتغلغل في مختلف جروحها وكسوراتها. أدب الشمال ابتعد محمد ديب بعدها باتجاه الشمال بحثاً عن أرض محايدة، أرض لا تاريخ مشتركاً فيها ينغص عليه متعة الاحساس بجمال الأشياء فكتب ثلاثية أخرى سميت في ما بعد ب"ثلاثية الشمال": "إغفاءة حواء"، "شرفات أورسول"، "ثلوج من رخام" ليختتمها برواية "الفقر بلا هوادة"، وهي آخر نصوص هذه الحقبة التي برزت فيها حساسية محمد ديب الصوفية وراحت أسئلته الوجودية واللغوية تتحول الى مادة لا تقول السياسة، ولكن الابداع والكتابة. بدأ المنفى يلبس لباساً آخر هو أقرب الى الاستحالات. ما معنى الحب في رواية "إغفاءة حواء" عندما يتحوّل المنفى الى مرض والى سكينة تفصل بين العاشق والمعشوق؟ كلاهما يتمنى ان يصل الى عمق الآخر ولكن كليهما يبتعد من حيث لا يدري عن الآخر ويظل الحب حالة مستديمة من الركض نحو مجهول لا يفضي في نهاية المطاف الا الى حدود لا اسم لها الا مهاوي المنفى. أما ليلي في "ثلوج من رخام" فلا تحمل الا الاسئلة المقلقة نحو والدها الذي لا يفهم لغتها وهي ابنته بينما هو يئن في حالة مرضية قاسية. المنفى ليس كلمة ولكنه حالة في غاية التعقيد، تمس كل التفاصيل. وتتسرب داخل اللغة. كل محاولات الأب تبوء بالفشل. ليلي تعيش داخل مشاغل جيلها بينما الأب ينتفي كل يوم قليلاً داخل اسئلة الغياب. كل شيء يبدو منكسراً في العمق ولا يمكن ترميمه على رغم المحاولات التي لا تزيد الكسور الا شروخاً. كان ديب في هذه الفترة وجد لدى الناشر بيار برنار وداره "سندباد" مرجعين وصديقين أعادا له الثقة في الكتابة. أقصى ما يتعرض له الكاتب كما يقول ديب، هو ان يستيقظ الانسان ويجد نفسه من دون دار كان يقصد حتماً دار النشر والدار الدافئة التي تحوي حميمياته. في التسعينات، عندما اشتعلت البلاد تحت وطأة القتلة الذين تدثروا بألبسة القرون الوسطى وبدأوا حربهم ضد كل الأدباء، لم يتوقف محمد ديب عن المساهمة في إثارة اسئلة الديموقراطية في الجزائر. فهو شارك بفضل جهود الروائي الراحل الطاهر جاعوت الذي كان يدير جريدة "روبتور" القطيعة في الورشات الثقافية والسجالية الكبرى التي أنشئت في البلاد، وعندما أحس القتلة المتنكرون بخطرها أغلقوها مباشرة وذوبوها في حرب أهلية لم تنته الى اليوم. وعندما بدأت جرائم القتلة تملأ شاشات العالم استند ديب الى قلمه وكتب كثيراً. ولعل رواية "الليلة المتوحشة" ليست إلا التعبير الروائي والقصصي عن هذه الحالة التي زادت من جراحات ديب وعمقها وجعلت من منفاه مسألة دائمة لا أفق لها. الحقبة الأخيرة هي الحقبة التي تبنتها دار ألبان ميشال الباريسية وهي نشرت كل أعماله الأخيرة: "المولود الموريسكي"، "الليلة المتوحشة"، إن شاء الشيطان"، "شجر الكلام"، "مثل طنين النحل" و"سيمورغ"... وفي معظم هذه النصوص انتفى الشكل الروائي أو كاد ولم تبق منه إلا بضعة ملامح داخل مزيج من الاشكال يتداخل فيها الشعر والقول النقدي والقصة والمسرح. شكل آخر يعيدنا الى الكيانات المتصدعة القديمة. الكثير من النقاد الحذقين يقولون ان ديب كان يكتب كثيراً ولهذا تضبّبت الكتابة لديه. لم يكن ديب يكتب ولكنه كان يقوم بعملية محو مستمرة لنفي الذات ولتخرج هذه الاخيرة من دائرة الحجز الفكري التي اسمها المنفى. تعيد معظم رواياته الأخيرة النظر في مكوناتها الثقافية وتفككها بدءاً من الأنا وانتهاء بمقولة انتحار أوديب وموته وتلاشيه. وبكتاباته هذه، كان ديب يتلاشى بدوره ليعود نحو تربة منحته المنفى ولكنها على الأقل منحته فرصة الكتابة. المنفى ليس لعبة طفولية ولكنه لعبة جادة سرعان ما تتحوّل الى قدر يصعب تفاديه. صحيح ان كل كتابات ديب كانت تلح على رائحة الأرض الطيبة التي ولد فيها وتعبق بروائح زهور تلمسان وحقولها الأندلسية والياسمين الاشبيلي الذي جاء به التلمسانيون القدامى من أرضهم الأخرى عندما أجبروا على مغادرتها. ديب منذ أن خرج بخيبته الكبرى كان يعرف أكثر من غيره أنه سيموت بعيداً من أرضه. كان يرفض أن يعود جثة هامدة نحو أرض رفضت شبابه وروحه. عندما يصير موت المنافي حقيقة قريبة تنتهي اللعبة ونبدأ في التهيؤ لاستقباله كل بطريقته. وطريقة محمد ديب كانت التلاشي داخل الكتابة. أما جسده فقد منحه لأبنائه وزوجته الفرنسية مثلما يمنح عالم كبير جسده لأهل المختبرات، ليختاروا ان يضعوه أينما شاؤوا. هكذا تقول زوجته وابنه وابنته آسيا. وضع جثمانه الصغير والرهيف والشديد الحساسية في مقبرة لا سين سان كلو ولم تنفع محاولات الجزائر الرسمية لنقل جثمانه الى الجزائر في طائرة خاصة لم يحق له فيها مقعد صغير عندما كان حياً. والجزائر التي استيقظت على خبر فقدانه مثل حادث تحطم طائرة أو سقوط قطار سريع في هوة عميقة كانت على يقين بأن هذا الرجل الذي تجاوز عتبة الثمانين لن يموت أبداً أو أنه مات قبل زمن بعيد وان كل ما كان يحدث لم يكن الا تنويعات مكرورة لحادث سابق، وعندما لم يجد ديب وطناً وخرج في مساء قائظ لم يلتفت وراءه، لأن الالتفات أحياناً يقوي شهية العودة الى الوطن، بل التفت نحو الكتابة والعزلة. حتى الجوائز التي حصل عليها كجائزة الفرنكفونية أو جائزة مدينة باريس الكبرى للرواية أو جائزة مالارميه للشعر لم تكن لتهذه. مات في وقت كانت الجزائر تحتفل بسنتها في باريس وفضل هو أن يبقى بعيداً من الأضواء حتى من الندوات التي خصصت له. هل ينفصل محمد ديب عن كتاباته؟ ظل محمد ديب شاعراً في كل الأحوال، بدأ بالشعر وانتهى فيه. خلقت كتاباته عقدتها الخاصة بالنسبة الى الأجيال الجديدة من كتاب اللغة الفرنسية من الجزائريين وسواهم... "عقدة ديب" وليست عقدة "أوديب"، عقدة الأب المؤسس الذي لا يكره أو يحب لعنفه والغطرسته ولكن لقدرته الكبيرة على إنتاج البهاء المستحيل الذي يحلم به الجميع ولا تصله الا القلة القليلة مرة واحدة في حياتها.