ثمة تفسيرات سياسية عدة لقرار الرئيس العراقي إعفاء رئيس حكومته احمد حسين الخضير وتسلمه شخصياً زمام القرار. إلا ان التفسير الأهم هو الوضع الاقتصادي والاجتماعي المنهار الذي دفع الاممالمتحدة الى التحذير من مجاعة مقبلة اذا ما استمرت الأمور على وتيرتها الحالية. ويقول عراقيون زاروا عمان أخيراً، ان الرئيس صدام حسين حاول احداث صدمة عن طريق الإيحاء بأنه قرر الاهتمام شخصياً بالقرار الاقتصادي والاجتماعي، بعدما كانت وسائل إعلام قريبة منه، أو من نجله عدي، حملت حكومة السامرائي مسؤولية الانهيار الحاصل، والتردي المستمر، والعجز عن التعامل مع قرارات الحظر الدولي. ويقول هؤلاء ان التغيير الحكومي كان متوقعاً منذ أواخر آذار مارس الماضي. مع ظهور اشارات من خلال الانتقادات التي طالت الحكومة من دون تسمية رئيسها، والوزارات من دون تسمية وزرائها، في إشارة واضحة الى الاتهامات التي وجهتها صحيفة "بابل" التي يتولى عدي صدام حسين توجيهها بصورة كاملة، وقالت فيها ان الحكومة "تتخلى عن الأهداف التي عينت من أجلها". ولم تتوقف انتقادات "بابل" عند هذا الحد، بل ذهبت الى حد اتهام بعض الوزراء "بالتستر على التجاوزات" و"حماية بعض النافذين". وقالت ان الوزراء "يتلهون في مكاتبهم فيما السوق تحترق"، وجاءت الحكومة لمعالجة الغلاء والاحتكار، ودعم الدينار إلا ان أياً من هذه الأمور لم يتحقق. لكن المفاجأة حصلت فور الانتقادات الحادة التي وجهتها "بابل" الى الوزراء والمسؤولين، عندما أذاعت وكالة الانباء العراقية الرسمية خبراً موجزاً يقول: "ان الرئيس صدام حسين استقبل رئيس الحكومة واطلع منه على الاجراءات المتخذة لمتابعة الوضع الاجتماعي في ضوء الحصار الدولي المفرو ض ضد شعب العراق، وكانت الرسالة واضحة، وهي ان "وقت اعفاء رئيس الحكومة من الحكومة لم يحن بعد"، وان الاتهامات التي وجهتها "بابل" لا تعكس بدقة رأي رئيس الجمهورية في الحكومة والمسؤولين. وفي الواقع لم تكن الانتقادات الواسعة التي وجهتها "بابل" بعيدة عن الواقع. فقد تابع الدينار العراقي انهياره، وتجاوز سعر صرف الدولار الاميركي مستوى 525 ديناراً في مقابل سعر رسمي هو 3.2 دولار للدينار الواحد. المحظوظون وبعدما كانت الاخبار المتعلقة بالحصار الدولي على العراق في طليعة اهتمامات العراقيين، أصبح سعر صرف الدينار الشغل الشاغل للغالبية التي باتت مضطرة لقضاء ساعات طويلة في ملاحقة تطورات السوق. وثمة صورة أخرى لا تقل تعبيراً، وهي صورة مئات الصرافين الذين يملأون شوارع بغداد للمتاجرة بالعملة، واجتذاب الزبائن، وعلى رغم مكافحة الحكومة لهذه الظاهرة، تمّ السماح لشركات الصرافة بالتعامل بأسعار السوق، إلا ان فئة واسعة من العراقيين استمرت تفضل التعامل مع الصيارفة المتنقلين في الشوارع والساحات العامة. ولم يكن انهيار الدينار من دون ثمن، فعلى رغم زيادة رواتب الموظفين الحكوميين، الى 500 دينار حد أدنى 1600 دولار بالسعر الرسمي وأقل من دولار حسب اسعار السوق، إلا ان غالبيتهم تضطر لممارسة أعمال اضافية، في حين ان "المحظوظين" في بعض الدوائر أفادوا من أهمية مراكزهم لممارسة مهنة الارتشاء، وهي مهنة مكروهة ومحتقرة في العراق، وتكافحها الحكومة بشدة. صحيح ان السلع المدعومة تخفف، ولو بصورة محدودة، من أعباء انهيار اسعار صرف الدينار، اذ تغطي 70 في المئة تقريباً من الاحتياجات الاساسية لعائلة عراقية متوسطة، الا ان المشكلة التي يواجهها الكثيرون هي فقدان السلع المدعومة من الاسواق، دجاج وسكر وثمة شائعات لم يتوافر تأكيد كاف لها هي ان توفير احتياجات السوق من السلع كان منوطاً بعدي صدام حسين وبعض النافذين والمقربين من عائلة الرئيس العراقي، عن طريق حصر استيرادها بأشخاص محددين، ويتردد بصورة قوية ان نجل الرئيس أمسك كلياً بتجارة الدجاج والسكر والعملة عن طريق شركات وهمية أسسها في بغدادوعمان لمتابعة عمليات الاستيراد والتصدير من دون ان تخضع للمالية العامة للدولة. ويقول عراقيون يزورون عمان باستمرار ان التدابير التي اتخذتها الحكومة اخيراً لضبط الانفاق، والحد من العجز المالي العام للدولة عن طريق زيادة اسعار بعض الخدمات، زادت الى حد بعيد الاعباء التي يتوجب على المواطن العراقي تحملها. فقد تضاعفت اكلاف النقل، في حين زادت رسوم الخدمات التي تقدمها الدوائر الحكومية، وفرضت قيود على عمليات المتاجرة اليومية التي كانت تحصل عبر الحدود مع الاردن وتركيا، وفي بعض الحالات مع ايران وسورية اللتين تتساهلان احياناً في مراقبة الحدود البرية المشتركة معه، ما يسمح للمهربين بنقل بعض السلع، خصوصاً السلع الالكترونية والسجائر والعطور، وهي سلع خفيفة لكنها مرتفعة الثمن وتلقى رواجاً لدى طبقات معينة في العراق. هل يساعد تسلم صدام حسين رئاسة الحكومة في وقف الانهيار؟ الواضح من التعليمات التي وجهها الرئيس العراقي الى وزرائه ان الحكومة العراقية السابقة، التي حافظ معظم وزرائها على حقائبهم، كانت تعاني من ترهل واضح. فقد أمر الرئيس وزراءه بأن يكونوا في مكاتبهم اعتباراً من الثامنة صباحاً، في اشارة مباشرة الى التراخي الذي حصل سابقاً، وساهم في الفوضى الادارية. ويعتقد عراقيون كثيرون بأن خطوة صدام قد لا تحقق اهدافها، اذا كانت هذه الاهداف تتعلق فعلاً بموضوع وقف الانهيار الاقتصادي، فردة الفعل الاولى لسوق القطع كانت اقل بكثير مما كان متوقعاً، اذ حافظ "دولار بغداد" على ارتفاعه، كما ان السلع استمرت مفقودة من السوق، واستمر الموظفون في غالبية الادارات الحكومية في منازلهم، او في اعمالهم الاخرى. وتجمع تقديرات متطابقة، على أن الاعتبارات السياسية المحلية في بغداد خسرت بصورة شبه كاملة تأثيرها على اتجاه الأو ضاع، أقله الأوضاع الاقتصادية. فتحسن الدينار او هبوطه مسألة باتت ترتبط بعجز العراق عن توفير ما يحتاجه من عملات اجنبية للاستيراد، واستئناف تصدير النفط مسألة تقرر في الخارج بصورة أساسية، وان كان هناك من يتحدث عن امكان مساهمة بغداد فيها، اذا ما قررت الالتزام بقرارات الاممالمتحدة. ويقول خبراء اقتصاديون في عمان، انه حتى لو قررت الاممالمتحدة رفع الحظر والسماح للعراق بإستئناف تصدير النفط، فإن العائدات التي ستوفرها هذه الصادرات، لن تكون كافية لتغطية التعويضات التي يتوجب على العراق دفعها للمتضررين من غزوه للكويت في العام 1990 ولسداد جزء من الديون الخارجية المتوجبة عليه، وقد يصل حجمها الى حوالي 140 مليار دولار، اذا ما احتسبت ديون دول الخليج من ضمنها، الى جانب الديون المترتبة لدول أخرى، مثل فرنسا والمانيا والبرازيل وروسيا. ولا يبدو ان العراقيين مهتمون بالتغييرات الحكومية بقدر اهتمامهم بتخفيف الأعباء المعيشية، وهو الرهان الذي يبدو انه غير قابل للتحقق، أقله في المدى المنظور.